حصر فقهاء الشيعة جوازَ السجود على الأرض وما أنبتت فقط، ويقصدون مطلق وجه الأرض بضمنها الحجر والمدر والتراب والرمل وغيرها، وأيضاً جعلوا السجود على تربة الإمام الحسين (عليه السلام) أمراً راجحاً وفضّلوها على غيرها في السجود، وصرّحوا باستحباب السجود عليها في فتاواهم، وهو أمر مشهور معروف بينهم.
وهذا الأمر ليس رأياً خاصاً مجرداً عن الأصل، بل هو ناشئ عن اهتمام أئمّتهم(عليهم السلام)، ومن مركز وقيمة الإمام الحسين(عليه السلام) عندهم وعند رسول الله(صلى الله عليه وآله)؛ إذ إنّ منهج أهل البيت(عليهم السلام) هو منهج الرسول(صلى الله عليه وآله)، ولا يخالفونه في شيء أبداً، ومن ذلك تكريمه لسيِّد الشهداء الإمام الحسين(عليه السلام)، وتكريم تربة قبره.
لهذا لم يكن السجود على تربته الطاهرة، أو استحباب ذلك بدعةً في الدين، وليس هو خرقاً لإجماع المسلمين، بل هو الثابت عند جميع الفرق الإسلامية، غاية ما حصل هو النظر بعين واحدة من بعض الجاهلين.
وقد أضْافَتْ شهادة الحسين (عليه السلام) قداسة -هذا العنوان الإلهي (الشهادة) -أُخرى على هذه التربة المباركة، فقد منحها بشهادته منزلة وكرامة إلهيّة، تمثّلت بالوقوف ضدّ الظالمين، وإرجاع الحقّ إلى أهله.
بعض المخالفين لم يسرّه أنّ الشيعة يمارسون آثار التقديس للتربة الحسينية من الاهتمام والعناية والاحترام، فراح يسأل عن مدرك وسبب هذا التعلّق من قِبل موالين أهل البيت (عليهم السلام)، مموهاً أنّها عبادة لغير الله تعالى.
ونحن لا نركب صعاب الحجج في بيان وجه الاستحقاق لهذه التربة المتعطّرة بدماء وجسد ابن النبي الكريم (عليه السلام)، بقدر ما نأمر ريح الفطرة والوجدان لتدفع سحب الغفلة عن عيون هؤلاء؛ فتبزغ الشمس ساطعة تسرّ الناظرين.
نشير في ذلك إلى أمور عدّة:
أولا: لا تمثل علاقة الشيعة بالتربة الحسينية علاقة غريبة عن ثقافة المسلمين، كيف والمسلمون يمارسون الاحترام والعناية والتقبيل للقرآن والكعبة والحجر الأسود، فهل يقال بأنّهم يعبدون القرآن والكعبة والحجر الأسود؟
ثانياً: قدوة الشيعة في هذا الأمر هو النبي (صلى الله عليه وآله) فهو أول مَن قبّل هذه التربة الطاهرة كما أكّدت ذلك عدّة من الأخبار:
1- روى الحاكم النيسابوري عن أُمّ سلمة (رضي الله عنها) أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) اضطجع ذات ليلة للنوم فاستيقظ وهو حائر، ثمّ اضطجع فرقد/ ثمّ استيقظ وهو حائر دون ما رأيت به المرّة الأولى، ثمّ اضطجع، فاستيقظ وفي يده تربة حمراء يقبّلها، فقلت ما هذه التربة يا رسول الله؟
قال: «أخبرني جبريل (عليه السلام) أنّ هذا -الحسين(عليه السلام)- يُقتل بأرض العراق، فقلت لجبريل: يا جبريل أرني تربة الأرض التي يُقتل بها، فهذه تربتها».
(ثمّ قال الحاكم): هذا حديث صحيح على شرط الشيخين (البخاري، ومسلم)، ولم يخرجاه[1].
2- وروى أحمد بن حنبل عن أُمّ سلمة أو عائشة أنّ النبي(صلى الله عليه وآله) قال: «لقد دخل عليّ البيت ملك لم يدخل عليّ قبلها فقال لي: إنّ ابنك هذا حسيناً مقتول، وإن شئت أريتك من تربة الأرض التي يُقتل بها، قال: فأخرج تربة حمراء»[2].
3- الحافظ الهيثمي عن علي (عليه السلام) قال: «دخلت على النبي(صلى الله عليه وآله) ذات يوم وإذا عيناه تذرفان، قلت: يا نبي الله أغضبك أحد ما شأن عينيك تفيضان، قال: بل قام من عندي جبريل(عليه السلام) فحدّثني أنّ الحسين يُقتل بشط الفرات، قال فقال: هل لك أن أشمّك من تربته؟ قلت: نعم، قال فمدّ يده فقبض قبضة من تراب فأعطانيها، فلم أملك عيني أن فاضتا».
(قال الحافظ الهيثمي): رواه أحمد، وأبو يعلى، والبزار، والطبراني، ورجاله ثقات[3].
بل نقول: حتى لو لم يرد شيء عن النبي(صلى الله عليه وآله)، يبقى تقديس تربة الحسين(عليه السلام) واحترامها وتقبيلها أمراً مشروعاً، وأيّ محذورٍ في تقبيل شيء يذكّرك بالمُثُل العليا للإِسلام؟
هذا من جهة ومن جهة أُخرى، إنّ تقبيل التربة الحسينية لا للتربة ذاتها، وإنّما لاقترانها بالإمام الحسين(عليه السلام) الذي حكى بذاته كلّ فضيلةٍ إنسانية، وتلك التربة التي ارتبطت بمعاني الجهاد في سبيل الله والدفاع عن حياض العقيدة ونصرة الحق.
أمــرُّ على الـديار ديـار لـيلى
أُقبّل ذا الـجدار و ذا الجدارا
و ما حبّ الديار شغفن قلبي
ولكن حبّ مَن سكن الديارا
مجلة اليقين العدد (69)