أصدر الإمام عليّ (عليه السلام) قراره بعزل معاوية عن الشام بمجرد أن تولى أمر الخلافة، إلا أن معاوية رفض الانصياع لقرار الإمام (عليه السلام) وأعلن العصيان، رافعا قميص عثمان على منبر دمشق، داعيا الناس إلى الثأر من قتلته، مشيرا بإصبع الاتهام إلى الإمام علي وشيعته..
لقد حكم معاوية الشام سبعة عشر عاما مكّن لنفسه فيها وارتبط مصيره بها وكانت بالنسبة له بمثابة دولة وليست ولاية.. ولأنّ الإمام (عليه السلام) كان يفقه حقيقة معاوية والاتجاه الذي يمثله والدور الذي سوف يلعبه، كان لا بد من أن يتبنى هذا الموقف تجاهه، فحقيقة معاوية أنه شيطان هذه الأمة، والاتجاه الذي يمثله هو الباطل، والدور الذي سوف يلعبه هو ضرب الإسلام النبوي، وأمام شخص كهذا لا تصح المساومات والمداهنات وأنصاف الحلول، لأنها سوف تكون على حساب الحق وسوف ينتج عنها دعم الباطل، من هنا كان السيف هو الحل الذي فرض نفسه، فلم يكن أمام معاوية سواه ليواجه به الإمام (عليه السلام) فهو لا يملك أية مقومات أخرى ليواجهه بها، فهو لا يملك الشرعية.. ولا يملك العلم.. ولا يملك الرصيد التاريخي..
معاوية يستشير عمرو بن العاص:
ولما أراد معاوية السير إلى صفين قال لعمرو بن العاص: إني قد رأيت أنّ نلقي إلى أهل مكة وأهل المدينة كتاباً نذكر لهم فيه أمر عثمان، فإما أن ندرك حاجتنا، وإمّا أن يكفّ القوم عنّا، قال عمرو: إنّما نكتب إلى ثلاثة نفر: راض بعلي فلا يزيده ذلك إلاّ بصيرة، أو رجل يهوى عثمان فلن نزيده على ما هو عليه، أو رجل معتزل فلستَ بأوثق في نفسه من عليّ، قال: عليّ ذلك، فكتبا: ((أما بعد، فإنه مهما غابت عنّا من الأمور فلن يغيب عنّا أن عليّاً قتل عثمان، والدليل على ذلك مكان قتَلتِه منه وإنما نطلب بدمه حتى يدفعوا إلينا قتَلتَه فنقتلهم بكتاب الله، فإن دفعَهم عليّ إلينا كففنا عنه، وجعلناها شورى بين المسلمين على ما جعلها عليه عمر بن الخطاب، وأمّا الخلافة فلسنا نطلبها فأعينونا على أمرنا هذا وانهضوا من ناحيتكم فإن أيدينا وأيديكم إذا اجتمعت على أمر واحد، هاب عليّ ما هو فيه )).
عليّ (عليه السلام) يستشير المهاجرين والأنصار قبل المسير إلى الشام:
روي أن أمير المؤمنين (عليه السلام) لما أراد المسير إلى أهل الشام دعا إليه من كان معه من المهاجرين والأنصار، فحمّد الله وأثنى عليه وقال: ((أما بعدُ: فإنكم ميامين الرأي، مراجيح الحلم، مقاويل بالحق، مباركو الفعل والأمر، وقد أردنا المسير إلى عدونا وعدوكم فأشيروا علينا برأيكم)).
فقام جملة من أصحابه وطلبوا منه الإسراع في المسير إليهم ودعوتهم إلى الرجوع لرشدهم، فإن أجابوا إلى الحق فليس بعد الحق إلاّ الضلال، وإن أبوا إلا الشقاق فليس لهم إلا الحرب.
ويروى أن بعض أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام) أخذ يظهر البراءة ويشتم أهل الشام، فأرسل إليهم علي (عليه السلام) : أن كفّوا عما يبلغني عنكم، فأتوا إليه وقالوا: يا أمير المؤمنين، ألسنا محقّين؟ قال: بلى، قالوا: أوليسوا مبطلين؟ قال: بلى، قالوا: فلم منعتنا من شتمهم؟ قال (عليه السلام) : إِنِّي أَكْرَه لَكُمْ أَنْ تَكُونُوا سَبَّابِينَ، ولَكِنَّكُمْ لَوْ وَصَفْتُمْ أَعْمَالَهُمْ وذَكَرْتُمْ حَالَهُمْ، كَانَ أَصْوَبَ فِي الْقَوْلِ وأَبْلَغَ فِي الْعُذْرِ، وقُلْتُمْ مَكَانَ سَبِّكُمْ إِيَّاهُمْ، اللَّهُمَّ احْقِنْ دِمَاءَنَا ودِمَاءَهُمْ، وأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا وبَيْنِهِمْ وأهدهم مِنْ ضَلَالَتِهِمْ ،حَتَّى يَعْرِفَ الْحَقَّ مَنْ جَهِلَه، ويَرْعَوِيَ عَنِ الْغَيِّ والْعُدْوَانِ مَنْ لَهِجَ بِه كان هذا أحب إلي وخيراً لكم .[1]
خروج الإمام علي (عليه السلام) إلى النخيلة:
وأمر عليّ (عليه السلام) الناس بالخروج إلى المعسكر بالنخيلة واستخلف عقبة بن عمرو الأنصاري على الكوفة، وكان أصغر أصحاب العقبة السبعين، ثم خرج عليّ (عليه السلام) وخرج الناس معه.
وبلغ معاوية بن أبي سفيان وهو في دمشق مكان عليّ (عليه السلام) بالنخيلة ومعسكره بها فألبس منبر دمشق قميص عثمان وهو مخضب بالدم، وأجتمع حول المنبر سبعون ألف شيخ يبكون لا تجف دموعهم على عثمان فصعد معاوية المنبر وخطب في أهل الشام، فقال:
(يا أهل الشام، قد كنتم تكذبوني في عليّ، وقد استبان لكم أمره، والله ما قتل خليفتكم غيره، وهو أمر بقتله، وألّب الناس عليه، وآوى قتلته، وهم جنده وأنصاره وأعوانه، وقد خرج بهم قاصداً بلادكم ودياركم لإبادتكم، يا أهل الشام، الله في عثمان فأنا وليّ عثمان وأحق من طلب بدمه، وقد جعل الله لوليّ المظلوم سلطاناً، فانصروا خليفتكم المظلوم، فقد صنع به القوم ما تعلمون، قتلوه ظلماً وبغياً، وقد أمر الله بقتال الفئة الباغية حتى تفيء إلى أمر الله) ثم نزل، فأعطوه الطاعة وانقادوا له وجمع إليه أطرافه.
ويروي أن عليّا (عليه السلام) لمّا أراد الشخوص إلى النخيلة قال له مالك بن حبيب - وهو على شرطة عليّ (عليه السلام) - وهو آخذ بعنان دابته (عليه السلام) : يا أمير المؤمنين أتخرج بالمسلمين فيصيبوا أجر الجهاد والقتال وتخلفني في حشر الرجال؟ فقال له عليّ (عليه السلام) : ((إنهم لن يصيبوا من الأجر شيئاً إلا كنت شريكهم فيه، وأنت ها هنا أعظم غناء منك عنهم لو كنت معهم))، فقال سمعا وطاعة يا أمير المؤمنين، فخرج علي (عليه السلام) حتى إذا جاز حد الكوفة صلّى ركعتين .
وصول علي (عليه السلام) إلى الرقة:
ثم سار أمير المؤمنين (عليه السلام) حتى أتى الرقّة وجُلَّ أهلها العثمانية الذين فروا من الكوفة برأيهم وأهوائهم إلى معاوية فغلقوا أبوابها وتحصّنوا فيها، وكان أميرهم سماك بن مخرمة الأسدي في طاعة معاوية.
ولمّا نزل عليّ الرقّة نزل بمكان يقال له بليخ على جانب الفرات فنزل راهب هناك من صومعته فقال لعلي (عليه السلام) : إنّ عندنا كتاباً توارثناه عن آبائنا كتبه أصحاب عيسى بن مريم، أعرضه عليك؟ قال عليّ (عليه السلام) : نعم فما هو؟ قال الراهب:
((بسم الله الرحمن الرحيم، الذي قضى فيما قضى وسطر أنه باعث في الأميين رسولا منهم يعلمهم الكتاب والحكمة، ويدلهم على سبيل الله لا فظّ ولا غليظ، ولا صخّاب في الأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح، أمته الحمادون الذين يحمدون الله على كل نشز وفي كل صعود وهبوط تذل ألسنتهم بالتهليل والتكبير والتسبيح وينصره الله على كل من ناواه، فإذا توفّاه الله اختلفت أمته ثم اجتمعت فلبثت بذلك ما شاء الله ثم اختلفت، فيمر رجل من أمته بشاطئ هذا الفرات، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويقضي بالحق ولا يرتشي في الحكم، الدنيا أهون عليه من الرماد في يوم عصفت به الريح، والموت أهون عليه من شرب الماء على الظماء، يخاف الله في السر وينصح له في العلانية ولا يخاف في الله لومة لائم، من أدرك ذلك النبي (صلى الله عليه وآله) من أهل هذه البلاد فآمن به كان ثوابه رضواني والجنة، ومن أدرك ذلك العبد الصالح فلينصره فإن القتل معه شهادة)).
ثم قال له: فأنا مصاحبك غير مفارقك حتى يصيبني ما أصابك قال: فبكى عليّ (عليه السلام) ثم قال: ((الحمد لله الذي لم يجعلني عنده منسياً، الحمد لله الذي ذكرني في كتب الأبرار، ومضى الراهب معه وكان - فيما ذكروا - يتغدّى مع عليّ (عليه السلام) ويتعشى حتى أصيب يوم صفين فلما خرج الناس يدفنون قتلاهم قال عليّ (عليه السلام) : اطلبوه فلما وجدوه صلى عليه ودفنه وقال: هذا منا أهل البيت واستغفر له مراراً)).
ويروي « أنّ عليّاً (عليه السلام) قال لأهل الرقة: ((أجسروا لي جسراً لكي أعبر من هذا المكان إلى الشام)) فأبوا وقد كانوا ضموا السفن عندهم، فنهض من عندهم ليعبر على جسر منبج، وخلف عليه الأشتر، فناداهم فقال: يا أهل هذا الحصن إني أقسم بالله لئن مضى أمير المؤمنين ولم تجسروا له عند مدينتكم حتى يعبر منها لأجردنّ فيكم السيف ولأقتلنّ مقاتلتكم ولأخربنّ أرضكم ولآخذنّ أموالكم، فلقي بعضهم بعضاً فقالوا: إنّ الأشتر يفي بما يقول وإن علياً خلفه علينا ليأتينا منه الشر، فبعثوا اليه: إنا ناصبون لكم جسراً فأقبلوا، فأرسل الأشتر إلى علي فجاء ونصبوا له الجسر فعبر الأثقال والرجال ثم أمر الأشتر فوقف في ثلاثة آلاف فارس حتى لم يبق أحد من الناس إلاّ عبر، ثم إنه عبر آخر الناس رجلا.
القتال على الماء:
ومن خطبة لأمير المؤمنين (عليه السلام) لما غلب أصحاب معاوية أصحابه (عليه السلام) على الشريعة: ((قد استطعموكم القتال، فأقروا على مذلة وتأخير محلة أو روّوا السيوف من الدماء ترووا من الماء فالموت في حياتكم مقهورين والحياة في موتكم قاهرين، ألا وإنّ معاوية قاد لُمَّة من الغواة وعمس عليهم الخير، حتى جعلوا نحورهم أغراض المنية)).
ويروى أن بعض أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام) نادى عمرو بن العاص، قال: ويحك يا ابن العاص خلّ بيننا وبين الماء، فوالله لئن لم تفعل ليأخذنا وإيّاكم السيوف، فقال عمرو: والله لا نخلّي عنه حتى تأخذنا السيوف وإياكم، فيعلم ربنا أيّنا اليوم أصبر، فترجّل الأشعث والأشتر وذوو البصائر من أصحاب عليّ (عليه السلام) وترجّل معهما اثنا عشر ألفاً، فحملوا على عمرو ومن معه من أهل الشام، فأزالوهم عن الماء حتى غمست خيل عليّ (عليه السلام) سنابكها في الماء».
فلما غلب عليّ (عليه السلام) على الماء وطرد عنه أهل الشام بعث إلى معاوية: «إنّا لا نكافيك بصنعك هلمَّ إلى الماء فنحن وأنتم فيه سواء» فأخذ كل واحد منهما بالشريعة مما يليه.
إعلان الحرب:
فلما انسلخ المحرم واستقبل صفر، وذلك في سنة (37هـ)، بعث عليّ (عليه السلام) نفراً من أصحابه حتى إذا كانوا من عسكر معاوية حيث يسمعونهم الصوت قام مرثد بن الحارث الجشمي فنادى عند غروب الشمس يا أهل الشام، إنّ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وأصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقولون لكم: إنا والله ما كففنا عنكم شكاً في أمركم، ولا بقيا عليكم، وإنما كففنا عنكم لخروج المحرم، ثم انسلخ، وإنا قد نبذنا إليكم على سواء، إنّ الله لا يحب الخائنين، قال: فتحاجز الناس، وثاروا إلى أمرائهم.
تقييم معسكر معاوية:
روى نصر بن مزاحم بإسناده عن شيخ من بكر بن وائل، قال: «كنا مع علي بصفين، فرفع عمرو بن العاص شقة خميصة سوداء في رأس رمح، فقال ناس: هذا لواء عقده له رسول الله (صلى الله عليه وآله) فلم يزالوا كذلك حتى بلغ علياً، فقال: هل تدرون ما أمر هذا اللواء؟ إنّ عدو الله عمرو بن العاص أخرج له رسول الله هذه الشقّة، فقال: «من يأخذها بما فيها» ؟ فقال عمرو: ما فيها يا رسول الله؟ قال: « فيها أن لا تقاتل به مسلماً، ولا تقربه من كافر» فأخذها، فقد والله قربه من المشركين وقاتل به اليوم المسلمين، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، ما أسلموا ولكن استسلموا، وأسرّوا الكفر، فلما وجدوا أعواناً رجعوا إلى عداوتهم منّا إلا أنهم لم يدعوا الصلاة».
وروى بإسناده عن حبيب بن أبي ثابت قال: «لما كان قتال صفين قال رجل لعمار: يا أبا اليقظان: ألم يقل رسول الله (صلى الله عليه وآله) : «قاتلوا الناس حتى يسلموا، فإذا أسلموا عصموا مني دماءهم وأموالهم»، قال: بلى ولكن والله ما أسلموا ولكن استسلموا، وأسرّوا الكفر حتى وجدوا عليه أعواناً».
دور عمار بن ياسر في الحرب:
إن لعمار منزلة كبيرة عند النبي واله (صلوات الله عليهم) لمواقفه المشرفة في الإسلام، لذلك روي عن النبي (صلى الله عليه وآله)، أنه قال: «إنّ الجنة لتشتاق إلى ثلاثة: عليّ وعمّار وسلمان»[2] .
وأنه (صلى الله عليه وآله) قال له: «إنك من أهل الجنة تقتلك الفئة الباغية»[3].
وتقدم عمّار في يوم صفين فقاتل قتال الأبطال ثم رجع إلى موضعه فاستسقى وقد اشتد ظمؤه، فأتته امرأة من نساء بني شيبان من مصافهم بعسٍّ فيه لبن، فدفعته إليه، فقال: الله أكبر، الله أكبر، اليوم ألقى الأحبة تحت الأسنة، صدق الصادق، وبذلك أخبرني الناطق، وهو اليوم الذي وُعِدتُ فيه لأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال لعمّار بن ياسر: «تقتلك الفئة الباغية، وآخر شربة تشربها ضَياح من لبن»، ثم قال: أيها الناس، هل من رائح إلى الله تحت العوالي، والذي نفسي بيده لنقاتلنّهم على تأويله كما قاتلناهم على تنزيله، والله لو ضربونا حتى يبلغوا بنا سعفات هَجَر لعلِمنا أنّا على الحق وهم على الباطل» ثم حمل فتوسط القوم، واشتبكت عليه الأسنة وحمل عليه بن جون السكوني وأبو العادية الفزاري، فأما أبو العادية فطعنه، وأما ابن جون فإنه احتز رأسه، وكان قتله عند المساء وله ثلاث وتسعون سنة، وقبره بصفين وصلى عليه علي (عليه السلام) ولم يغسله.
خدعة رفع المصاحف:
فلما رأى عمرو بن العاص أن أمر أهل العراق قد اشتد وخاف الهلاك قال لمعاوية: هل لك في أمر أعرضه عليك لا يزيدنا إلا اجتماعاً ولا يزيدهم إلا فرقة؟ قال: نعم، قال: نرفع المصاحف ثم نقول لما فيها: هذا حَكَم بيننا وبينكم فإن أبى بعضهم أن يقبلها وجدت فيهم من يقول: ينبغي لنا أن نقبل، فتكون فرقة بينهم، وإن قبلوا ما فيها رفعنا القتال عنا إلى أجل، فرفعوا نحو (500) من المصاحف بالرماح، وقالوا: هذا حكم كتاب الله عزّ وجلّ بيننا وبينكم، مَن لثغور الشام بعد أهله؟ مَن لثغور العراق بعد أهله؟ ومَن لجهاد الروم؟ ومَن للترك؟ ومَن للكفار؟
فلما رأى كثير من أهل العراق ذلك قالوا: نجيب إلى كتاب الله وننيب إليه، وأحبّ القوم الموادعة، وقيل لعلي: قد أعطاك معاوية الحق ودعاك إلى كتاب الله فاقبل منه، وكان أشدهم في ذلك اليوم الأشعث بن قيس، فقال علي (عليه السلام) :
((أيها الناس، إنه لم يزل من أمركم ما أحبّ حتى قرحتكم الحرب، وقد والله أخذتُ منكم وتركتُ، وإني كنتُ بالأمس أميراً فأصبحت اليوم مأموراً، وقد أحببتم البقاء))، ثم قال عليّ (عليه السلام) : ((ويحكم إنهم ما رفعوها لأنكم تعلمونها ولا يعلمون بها، وما رفعوها لكم إلا خديعة، ودهاء ومكيدة))، فقالوا له: إنه ما يسعنا أن نُدعى إلى كتاب الله فنأبى أن نقبله، فقال (عليه السلام) : ((ويحكم إنما قاتلتهم ليدينوا بحكم الكتاب، فقد عصوا الله فيما أمرهم به، ونبذوا كتابه، فامضوا على حقكم وقصدكم، وخذوا في قتال عدوكم، فإن معاوية وابن العاص وابن أبي معيط وحبيب بن مسلمة وابن النابغة وعددا غير هؤلاء ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، وأنا أعرَف بهم منكم صحبتهم أطفالا ورجالا فهم شر أطفال ورجال».
فقال الأشعث: إنّ شئت أتيت معاوية فسألته ما يريد، قال عليّ (عليه السلام) : ((ذلك إليك فأته إنّ شئت))، فأتاه الأشعث فسأله، فقال له معاوية: نرجع نحن وأنتم إلى كتاب الله، وإلى ما أمر به في كتابه: تبعثون منكم رجلا ترضونه وتختارونه ونبعث برجل، ونأخذ عليهما العهد والميثاق أن يعملا بما في كتاب الله ولا يخرجا عنه، وننقاد جميعاً إلى ما اتفقا عليه من حكم الله، وصوّب الأشعث قوله وانصرف إلى علي (عليه السلام)، فأخبره بذلك، فقال أكثر الناس: رضينا وقبلنا وسمعنا وأطعنا، فاختار أهل الشام عمرو بن العاص، وقال الأشعث ومن ارتد بعد ذلك إلى رأي الخوارج: رضينا نحن بأبي موسى الأشعري، فقال علي (عليه السلام) : ((قد عصيتموني في أول هذا الأمر فلا تعصوني الآن، إني لا أرى أن أُولّي أبا موسى الأشعري)) فقال الأشعث ومن معه: لا، نرضى إلا بأبي موسى الأشعري، قال علي (عليه السلام) : ((ويحكم! هو ليس بثقة قد فارقني وخذّل الناس عنّي وفعل كذا وكذا، وذكر أشياء فعلها أبو موسى، ثم إنه هرب شهوراً حتى أمنته))، لكن الأشعث وأصحابه أصرّوا على اختيارهم فبعثوا إلى أبي موسى وكتبوا له القصة، وقيل لأبي موسى: إنّ الناس قد اصطلحوا، فقال: الحمد لله، قيل: وقد جعلوك حكما، قال: إنّا لله وإنّا اليه راجعون».
خاتمة المطاف:
وأخيراً تمّ الاتفاق بين الفريقين على التحكيم، الأمر الذي كان يحذّر منه الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، لكنه لم يجد بداً أمام إصرار أهل العراق.
وكان فيما كتب في الصحيفة أن يحيي الحكمان ما أحيى القرآن ويميتا ما أمات القرآن ولا يتبعان الهوى، ولا يداهنان في شيء من ذلك، فإن فعلا فلا حكم لهما، والمسلمون من حكمهما براء، وقال عليّ (عليه السلام) للحكمين حين أكره على أمرهما: ((على أن تحكما بما في كتاب الله، وكتاب الله كله لي، فإن لم تحكما بما في كتاب فلا حكم لكما)).
ولما وقع التحكيم تباغض القوم جميعاً واقبل بعضهم يتبرأ من بعض: يتبرأ الأخ من أخيه، والابن من أبيه، وأمر عليٌ بالرحيل، لعلمه باختلاف الكلمة، وتفاوت الرأي، وعدم النظام لأمورهم، وما لحقه من الخلاف منهم وكثر التحكيم في جيش أهل العراق، وتضارب القوم بالمقارع ونعال السيوف وتسابوا، ولام كل فريق منهم الآخر في رأيه، وسار علي يؤم الكوفة ولحق معاوية بدمشق من أرض الشام، وفرق عساكره فلحق كل جند منهم ببلده.