(أنطاكية) تعتبر بالنسبة للنصارى كالمدينة المنورة بالنسبة للمسلمين، المدينة الثانية في الأهمية بعد بيت المقدس، التي ابتدأ المسيح (عليه السلام) منها دعوته، ثم هاجر بعد ذلك من آمن بالمسيح (عليه السلام) ـ بولس وبرنابا ـ إلى أنطاكيا ودعو الناس هناك إلى المسيحية، وبهذا انتشرت المسيحية هناك.
يقول القرآن الكريم في بيان قصة هؤلاء القوم: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ)[1].
وبعد ذلك العرض الإجمالي العام، ينتقل القرآن إلى تفصيل الأحداث التي جرت فيقول: (إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ)[2].
أما من هؤلاء الرسل؟ هنالك أخذ ورد بين المفسرين، بعضهم قال: إن أسماء الاثنين (شمعون) و(يوحنا) والثالث (بولس) وبعضهم ذكر أسماء أخرى لهم.
وكذلك هناك أخذ ورد في أنهم رسل الله تعالى، أم أنهم رسل المسيح (عليه السلام) ولا منافاة مع قوله تعالى: )إِذْ أَرْسَلْنَا( إذ إن رسل المسيح مرسلون من الله تعالى أيضا، مع أن ظاهر القرآن ينسجم معه التفصيل الأول وإن كان لا فرق بالنسبة إلى النتيجة التي يريد أن يخلص إليها القرآن الكريم.
الآن ننظر ماذا كان رد فعل هؤلاء القوم الضالين قبال دعوة الرسل، القرآن الكريم يقول: إنهم تعللوا بنفس الأعذار الواهية التي يتعذر بها الكثيرون من الكفار دائما في مواجهة الأنبياء (قَالُوا مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمن مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ)[3].
فإذا كان مقرراً إن يأتي رسول من قبل الله تعالى، فيجب أن يكون ملكا مقرباً وليس إنساناً مثلنا. هذه هي الذريعة التي تذرعوا بها لتكذيب الرسل وإنكار نزول التشريعات الإلهية، والمحتمل أنهم يعرفون أن جميع الأنبياء على مدى الزمن كانوا من نسل آدم، من جملتهم إبراهيم الخليل (عليه السلام)، الذي عرف برسالته، ومن المسلم أنه كان إنسانا، وعلى كل حال فأن هؤلاء الأنبياء لم ييأسوا جراء مخالفة هؤلاء القوم الضالين ولم يضعفوا، وفي جوابهم: (قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ)[4]. ومسؤوليتنا إبلاغ الرسالة الإلهية بشكل واضح وبين فحسب: (وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ)[5].
ومن المسلم به أنهم لم يكتفوا بمجرد الادعاء، أو القسم بأنهم من قبل الله، بل إن مما يستفاد من التعبير (الْبَلاَغُ الْمُبِينُ) إجمالا إنهم اظهروا دلائل ومعاجز تشير إلى صدق ادعائهم وإلا فلا مصداقية (للبلاغ المبين) إذ إن البلاغ المبين يجب أن يكون بطريقة تجعل من اليسر للجميع أن يدركوا مراده، وذلك لا يمكن تحققه إلا من خلال الدلائل والمعجزات الواضحة.
وقد ورد في بعض الروايات أن هؤلاء الرسل كانت لهم القدرة على شفاء بعض المرضى المستعصي علاجهم - بإذن الله- كما كان لعيسى (عليه السلام).
لنرجمنكم:
إن الوثنيين لم يسلموا أمام ذلك المنطق الواضح وتلك المعجزات، بل أنهم زادوا في عنفهم للمواجهة، وانتقلوا من مرحلة التكذيب إلى مرحلة التهديد والتعامل الشديد (قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ..)[6].
ويحتمل حدوث بعض الوقائع السلبية لهؤلاء القوم، أو كالإنذارات الإلهية لهم، وكما نقل بعض المفسرين فقد توقف نزول المطر عليهم مدة، ولكنهم لم يعتبروا من ذلك، بل إنهم اعتبروا تلك الحوادث مرتبطة ببعثة هؤلاء الرسل. ولم يكتفوا بذلك ؟، بل إنهم أظهروا سوء نواياهم من خلال التهديد الصريح والعلني وقالوا: (لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ)[7].
وهنا رد الرسل بمنطقهم العالي على هذيان هؤلاء: (قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِن ذُكِّرْتُم..)[8].
فإذا أصابكم سوء الحظ وحوادث الشؤم، ورحلت بركات الله عنكم، فإن سبب ذلك في أعماق أرواحكم، وفي أفكاركم المنحطة وأعمالكم القبيحة المشئومة وليس في دعواتنا، فها أنتم ملأتم دنياكم بعبادة الأصنام واتباع الهوى والشهوات، وقطعتم عنكم بركات الله سبحانه وتعالى.
وفي الختام قال الرسل لهؤلاء (بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ)[9].
فان مشكلتكم هي الإسراف والتجاوز، فإذا أنكرتم التوحيد وأشركتم فسبب ذلك هو الإسراف وتجاوز الحق. فإذا أصاب مجتمعكم المصير المشؤوم فسبب ذلك الإسراف في المعاصي والتلوث بالشهوات، وأخيرا ففي قبال الرغبة في العمل الصالح تهددون الهادفين إلي الخير بالموت، وهذا أيضاً بسبب التجاوز والإسراف.
ويشير القرآن الكريم في هذه القصة إلى الدفاع المدروس للمؤمنين القلائل وإلى شجاعتهم في قبال الأكثرية الكافرة المشركة، وكيف وقفوا حتى الرمق الأخير متصدين للدفاع عن الرسل.
قال الله تعالى: (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ)[10]. هذا الرجل الذي يذكر أغلب المفسّرين أن أسمه (حبيب النجار)، هو من الأشخاص الذين قيّض لهم الاستماع إلى هؤلاء الرسل وأدركوا حقانية دعوتهم ودقة تعليماتهم وكان مؤمنا ثابت القدم في إيمانه، وحينما بلغه بأن مركز المدينة مضطرب ويحتمل أن يقوم الناس بقتل هؤلاء الأنبياء، أسرع وأوصل نفسه إلى مركز المدينة ودافع عن الحق بما استطاع، بل إنه لم يدخر وسعا في ذلك.
والتعبير بـ (رَجُلٌ) بصورة النكرة يحتمل أنه إشارة إلى أنه كان فردا عاديا، ليس له قدرة أو إمكانية مؤثرة في المجتمع، وسلك طريقه فردا وحيدا، وكيف إنه في نفس الوقت دخل المعركة بين الكفر والأيمان مدافعاً عن الحق.
والتعبير بـ (أَقْصَى الْمَدِينَةِ) يدلل على أن دعوة هؤلاء الأنبياء (عليهم السلام) وصلت إلى النقاط البعيدة من المدينة، وأثرّت على القلوب المهيأة للإيمان، ناهيك عن أن أطراف المدن عادة تكون مراكز للمستضعفين المستعدين أكثر من غيرهم لقبول الحق والتصديق به، على عكس ساكني مراكز المدن الذين يعيشون حياة مرهفّة تجعل من الصعب قبولهم لدعوة الحق.
والآن لننظر إلى هذا الرجل المجاهد، بأي منطق وبأي دليل خاطب أهل المدينة..
فقد أشار أولاً إلى هذه القضية (اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً....)، فتلك القضية بحد ذاتها الدليل الأول على صدق هؤلاء الرسل، فهم لا يكسبون من دعوتهم تلك أية منفعة مادية شخصية، ولا يريدون منكم مالاً ولا جاهاً ولا مقاماً، وحتى أنهم لا يريدون منكم أن تشكرونهم، ولا يريدون منكم أجراً ولا شيء آخر، ثم يضيف: إن هؤلاء الرسل كما يظهر من محتوى دعوتهم وكلامهم إنهم أشخاص مهتدون (..وَهُم مُّهْتَدُونَ)[11].
ثم ينتقل إلى ذكر دليل آخر على التوحيد الذي يعتبر عماد دعوة هؤلاء فيقول: (وَمَا لِي لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي...)[12]، فان من هو أهل لأن يعبد هو الخالق والمالك والوهاب وليس الأصنام التي لا تضر ولا تنفع، فالفطرة السليمة تقول: يجب أن تعبدوا الخالق لا تلك المخلوقات التافهة، وبعد ذلك ينبّه إلى إنّ المرجع والمآل إلى الله سبحانه فيقول (أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِي الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنقِذُونِ)[13].
ثم يقول ذلك المؤمن المجاهد: إني حين أعبد هذه الأصنام وأجعلها شريكاً لله فاني سأكون في ضلال بعيد (إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ)[14]، فأي ضلال أوضح من أن يجعل الإنسان العاقل تلك الموجودات الجامدة جنباً إلى جنب خالق السماوات والأرض، وعندما انتهى هذا المؤمن المجاهد المبارز من استعراض تلك الاستدلالات والتبليغات المؤثرة أعلن لجميع الحاضرين (إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ)[15].
موقف الناس من المؤمن المضحي:
لكن لننظر ماذا كان رد فعل هؤلاء القوم إزاء المؤمن الطاهر؟ القرآن لا يصرّح بشيء حول ذلك، ولكن يستفاد من طريقة الآيات التالية بأنهم ثاروا عليه وقتلوه.
نعم فإن حديثه المثير والباعث على الحماس والمليء بالاستدلالات القوية الدامغة، والملفتات الخاصة والنافذة إلى القلب، ليس لم يكن لها الأثر الايجابي في تلك القلوب السوداء المليئة بالمكر والغرور فحسب، بل إنها على العكس أثارت فيها الحقد والبغضاء وسَعّرت فيها نار العداوة، بحيث إنهم نهضوا إلى ذلك الرجل الشجاع وقتلوه بمنتهى القسوة والغلظة. وقيل إنهم رموه بالحجارة، وهو يقول: (اللهم أهد قومي، حتى قتلوه)[16]. وفي رواية أخرى أنهم وطئوه بأرجلهم حتى مات[17].
ولقد أوضح القرآن الكريم الحقيقة بعبارة جميلة مختصرة هي (قِيلَ ادْخُلْ الْجَنَّةَ...)[18]، والجدير بالذكر والملاحظة أن هذا التعبير يدلل على أن دخوله الجنة كان مقترنا باستشهاده، بحيث إنّ الفاصلة بين الاثنين قليلة إلى درجة أنّ القرآن المجيد بتعبيره اللطيف ذكر دوره بدلا عن شهادته، فما أقرب طريق الشهداء إلى السعادة الدائمة.
وعلى كل حال فان روح ذلك المؤمن الطاهر، عرجت إلى السماء إلى جوار رحمة الله وفي نعيم الجنان، وهناك لم تكن له سوى أمنية واحدة (...قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ)[19]. يا ليت قومي يعلمون بأي شيء (بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنْ الْمُكْرَمِينَ)[20]. وفي حديث عن الرسول (صلى الله عليه وآله) فيما يخص هذا المؤمن (أنه نصح لهم في حياته وبعد موته)[21] وعلى كل حال فقد كان هذا مآل هذا الرجل المؤمن المجاهد الصادق الذي أدى رسالته ولم يقصّر في حماية الرسل الإلهيين وأرتشف في النهاية كأس الشهادة، وقفل راجعا إلى جوار رحمة ربه الكريم.
عاقبة القوم الظالمين:
رأينا كيف أصر أهالي مدينة أنطاكية على مخالفة الإلهيين والآن لننظر ماذا كانت نتيجة عملهم؟
القرآن الكريم يقول في هذا الخصوص: (وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُندٍ مِنْ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ)[22].
فلسنا بحاجة إلى تلك الأمور وأساساً فإنه ليس من سنتنا لإهلاك قوم ظالمين أن نستخدم جنود من السماء لأن إشارة واحدة كانت كافية للقضاء عليهم جميعاً وإرسالهم إلى ديار العدم والفناء، إشارة واحدة كانت كافية لتبديل عوامل حياتهم ومعيشتهم إلى عوامل موت وفناء وفي لحظة خاطفة تقلب حياتهم عاليها سافلها.
ثم يضيف تعالى: (إِنْ كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ)[23].
هل إن تلك الصيحة كانت صدى صاعقة نزلت من الغيوم على الأرض وهزت كل شيء ودمرت كل عمران موجود وجعلت القوم من شدة الخوف والوحشة يستسلمون للموت؟ أو إنها كانت صيحة ناتجة عن زلزلة خرجت من قلب الأرض فضجت في الفضاء بحيث إن موج انفجارها أهلك الجميع.
أيا كانت فإنها لم تكن سوى صيحة لم تتجاوز اللحظة الخاطفة في وقوعها، صيحة أسكتت جميع الصيحات، هزة أوقفت كل شيء عن التحرك وهكذا قدرة الله سبحانه وتعالى، وهكذا هو مصير قوم ضالين لا ينفع فيهم.
والحمد لله رب العالمين.
[1] سورة يس: آية 13.
[2] سورة يس: آية 14.
[3] سورة يس: آية 15.
[4] سورة يس: آية16.
[5] سورة يس: آية 17.
[6] سورة يس: آية 18.
[7] سورة يس: آية 18.
[8] سورة يس: آية 19.
[9] سورة يس: آية19.
[10] سورة يس: آية20.
[11] سورة يس: آية 21.
[12] سورة يس: آية 22
[13] سورة يس: آية 23.
[14] سورة يس: آية 24.
[15] سورة يس: آية 25.
[16] تفسير القرطبي، ج 15، ص18.
[17] بحار الأنوار: ج14، ص243.
[18] سورة يس: آية 26.
[19] سورة يس: آية 26.
[20] سورة يس: آية 27.
[21] تفسير القرطبي: ج15، ص20.
[22] سورة يس: آية 28.
[23] سورة يس: آية 29.