مسجد نيوجيه .. رمز الحضارة الإسلامية في الصين
مسجد نيوجيه هو من أقدم المساجد في العاصمة الصينية بكين، والذي يعد تحفة فنية صينية إسلامية، وصرح عريق تخطاه الزمن باعتباره رمز الحضارة الإسلامية الصينية الرائدة.
كان مسجد نيوجيه في الماضي حديقة رمان، وعرف الشارع في تلك الفترة باسم ليوجيه أي شارع الرمان، وكان غالبية سكانه من قومية هوي المسلمة، حيث تميزوا بإعداد لحم البقر الذي يسمى باللغة الصينية نيورو.
وبسبب التشابه اللفظي بين كلمتي ليو ونيو، استبدل الناس اسم حي الرمان بحي البقر.
بني المسجد الذي يقع شرقي الحي في عهد أسرة لياو عام 996 ميلادي، أي منذ أكثر من ألف عام مضت، تم ترميمه ثماني مرات خلالها.
ويعيش بالمنطقة المحيطة بالمسجد أكثر من 12 ألف مسلم من قومية هوي.
وعلى شارع المسجد يوجد العديد من المحلات التجارية المتراصة والمطاعم التي غالبا ما يكتب على واجهاتها بسم الله الرحمن الرحيم كما أن أصحابها يضعون طاقيات على رؤوسهم مما يميزهم كمسلمين.
وأمام أبواب المسجد يقف بعض العجزة والمحتاجين الذين يتزايد عددهم يوم الجمعة، لعلهم يحصلون على صدقات المصلين.
تاريخ بناء المسجد:
بني المسجد سنة 996م حسب ما جاء في تاريخ قانغشانغ، وتفيدنا المدونات التاريخية أن أحد العرب، ويدعى الشيخ قوام الدين، قد جاء من بلاده إلى الصين، وكان معه ثلاثة أولاد: ابنه البكر صدر الدين، وابنه الثاني ناصر الدين، وابنه الثالث سعد الدين، وكانوا جميعا أذكياء وأكفاء بشكل متميّز، وفوق العادة؛ لذا أحبهم الإمبراطور الصيني كثيرا ومنحهم بعض الوظائف المرموقة، إلا أنهم لم يستغلوا تلك الفرصة ولم يستسيغوا أبدا الوظائف التي منحهم إياها البلاط الإمبراطوري وطلبوا من الإمبراطور أن يسهّل لهم بناء مساجد في بكين، فما كان من الإمبراطور إلا أن أمر بتنفيذ رغبتهم، حيث بنيت بعض المساجد حينها ومن بينها كان مسجد نيوجيه.
وقد كان مسجد نيوجيه صغير الحجم في بادئ الأمر، ثم أصبح على الصورة التي نراها اليوم بعد توسيع بنائه مرارا في عهد أسرتي مينغ وتشينغ (1368-1911م). وفي سنة 1474م أطلق الإمبراطور عليه اسم (لي باي سي) الذي يعني (دار الصلاة). ولما تم ترميمه سنة 1696م على حساب البلاط الإمبراطوري منح لوحا مكتوبا عليه دار الصلاة الإمبراطورية.
عمارة المسجد:
تبلغ مساحة هذا المسجد حوالي 6000 متر مربع، ومع أن مبانيه لا تختلف عن القصور الكلاسيكية الصينية شكلا وتوزيعا إلا أنها مميزة بالزخارف الإسلامية الطراز، أما قاعة الصلاة في المسجد فتواجه الشرق، وهي تشكّل مع القاعة المقابلة لها وجناحي المسجد الجنوبي والشمالي داراً مربعة مثالية (أي دار تحيط بها المباني من الجهات الأربع وتتوسطها ساحة رحبة).
وتتكون قاعة الصلاة من ثلاثة مبان متراصة طولاً، وخمسة فسح عرضا. وهي تغطي مساحة قدرها أكثر من ستمائة متر مربع، وتتسع لقرابة ألف مصلي في آن واحد. ولو ألقيت نظرة على القاعة من الخارج، لوجدتها مبنى كلاسيكيا صينيا نموذجيا بما تتميز به من الأفاريز المرفوعة والتركيبات الخشبية الزاهية الألوان، غير أن زخارفها الداخلية إسلامية الطراز تماما. ومحارب قاعة الصلاة مسقوف بمقصورة مسدسة الأضلاع مخروطية الشكل مميزة بالسقف الدائري الملون من عهد أسرة سونغ (960-1279م). وعلى جدرانها الجنوبية والشمالية نوافذ منقوشة بالكتابات العربية. وفي قاعة الصلاة ثماني عشرة دعامة وواحد وعشرون عقدا. وتظهر على عتبات العقود العليا نقوش من الآيات القرآنية والتسابيح الإلهية والمدائح النبوية. وعلى جنبات الدعامات القرمزية اللون نقوش لزهور مموهة بالذهب، مما يشكل مع الثريات المعلقة في القاعة منظرا فريدا من نوعه.
وأما بوابة المسجد، فهي مفتوحة إلى الغرب، وأمامها حاجز كبير الطابوق، ووراءها برج لمشاهدة الهلال، سداسي الأضلاع مزدوج الأفاريز. وأمام قاعة الصلاة اثنتان من المقصورات الصخرية، تنتصب إحداهما في الجنوب والأخرى في الشمال.
ومقابل هذه المقصورات الصخرية تقع قاعة الصلاة الخاصة بالنساء، والتي تم بناؤها عام 1922 ميلادي، حيث استخدمت لأول مرة عام 1925 ميلادي، وهي أيضا مدرسة لتعليم المسلمات القرآن الكريم والسنة النبوية.
وألحقت بالمسجد مجموعة من الغرف الصغيرة ودورة مياه ومصلى يسع نحو ثلاثمائة شخص زين من الداخل ببعض الآيات، بينما وضعت على السقف الخارجي تماثيل خشبية مستوحاة من المعتقدات.
وتوجد داخل المسجد الذي بني عام 996 م طاولات تستخدم في الدروس والتلاوة، بينما وضعت بعض الطاقيات على منضدة قرب مدخله يبدو أنها وقف وتعار للصلاة.
وتبدو مباني المسجد منسجمة متناسقة ومحكمة، فهي مجموعة كاملة من المباني الرائعة.
وبعد تأسيس جمهورية الصين الشعبية سنة 1949م خصصت الحكومة مبلغا لترميم مسجد نيوجيه ترميماً شاملاً. ولكنه عانى من التخريبات الخطيرة في هوس الثورة الثقافية، كما أغلقت أبوابه أكثر من عشر سنوات. وفي سنة 1979 أعيد ترميمه على نطاق واسع. وعبر أكثر من سنة من الإصلاحات الدقيقة تجددت ملامح هذا المسجد العريق كما كان عليه سابقا.
محفوظات المسجد:
من ضمن محفوظات مسجد نيوجيه لوح منقوش عليه أمر أعلنه الإمبراطور قانغ شي سنة 1694 م بخصوص المسلمين، إذ قيل في سببه: أنه لما وجد الحاقدين على الإسلام المسجد مضاء بالأنوار المتألقة في ليالي رمضان، وشى أحد الحاقدين بالمسلمين إلى الإمبراطور بدافع التقرب إليه، وزعم قائلا: أن المسلمين يجتمعون ليلا، ويتفرقون نهارا، فيبدو أنهم يستعدون للتمرد. فتوجه الإمبراطور في بزّة مدنية إلى المسجد خفية للتحقق من الأمر، ولكن تبيّن له أن كل ما ورد في وعظ الإمام هو من التعليمات الإسلامية الداعية إلى الخير والناهية عن الشر، فما لبث أن أصدر أمرا جاء فيه: ليكن في علم جميع المقاطعات أنه إذا افترى أحد الموظفين أو الرعايا على المسلمين بالتمرد، متذرعا بذريعة تافهة، فلا بد من معاقبته معاقبة شديدة قبل استشارة القيادة العليا، وليتمسك المسلمون بالإسلام دون السماح لهم بمخالفة أمري هذا.
ويحتفظ المسجد بالعديد من التحف الأثرية القيمة التي تسجل تاريخ الإسلام في المنطقة، ومن بينها قدر نحاسي كبير وسط ساحة المسجد.
يصل قطر هذا القدر إلى 270 سنتيمترا، ونقش عليه تاريخ الصنع الذي يعود إلى عهد أسرة تشينغ الملكية.
مضاف الى ذلك، يوجد نصب تذكاري يدل على تاريخ بناء المصلى الأكبر للمسجد، ويعود تاريخه إلى أكثر من 500 سنة خلت.
قبور العلماء:
لو ذهبت إلى الركن الجنوبي الشرقي من المسجد لألفيت نفسك أمام مرقدين للشيخ أحمد البرتاني المتوفي سنة 1280 م والشيخ عماد الدين المتوفى سنة 1283م، وهما من علماء الإسلام العرب الذين جاءوا إلى الصين لنشر الإسلام. وتنتصب بجوار هذين الضريحين شاهدتان منقوشتان بكتابات عربية واضحة الخطوط حتى يومنا هذا. وهما في نظر المسلمين المحليين من روائع الآثار الإسلامية.
ويستقبل هذان الضريحان يوميا مئات الزوار الذين يأتون لقراءة الفاتحة على أرواح الشيخين والأولياء الصالحين.
الإسلام في الصين:
إن تاريخ الإسلام في الصين يعود إلى الرحلات التجارية التي كانت ترد من إيران والجزيرة العربية في القرن السادس الميلادي،
ورغم أنه لا توجد إحصائية رسمية لعدد المسلمين، لكن التقديرات الرسمية الصينية تقول إن عددهم نحو 20 مليون نسمة يتوزعون على مناطق مختلفة من الصين حيث تدين (10) من قوميات الصين الـ (56) بالإسلام.
كما يبلغ عدد المساجد في الصين أكثر من ثلاثين ألف مسجد تنتشر في كل أنحاء البلاد.
يتمكن جميع المسلمين في الصين من ممارسة/ طقوسهم الدينية بكل حرية حسب ما يخوله لهم القانون، حيث يوجد أكثر من 30000 مسجد تنتشر في أرجاء البلاد، لأداء الصلوات الخمس ومختلف شعائرهم الدينية.
ويتميز شهر رمضان عن غيره من سائر شهور السنة بالعديد من الأنشطة الدينية التي يمارسها الصينيون مثل أداء الصلوات المستحبة وتلاوة القرآن وأداء أعمال ليلة القدر.
كذلك يبدأ أئمة المساجد في إلقاء دروس للمسلمين حول تعاليم القرآن وآداب السنة النبوية، خاصة تلك التي ترتبط بالصيام وأخلاق الصائمين.
أما عن المسلمين أنفسهم فهم يتعايشون مع قومية الهان وهي أكبر قومية في الصين، وفي المناسبات الدينية وخصوصًا في هذا الشهر الكريم يقدِّم هؤلاء المسلمون لجيرانهم من قومية الهان أطعمتهم التقليدية، وفي نفس الوقت يعطي الهان بدورهم الهدايا لجيرانهم من المسلمين. ويوجد في الصين أكثر من 988 مطعم ومتجر للأطعمة الإسلامية. ومن أشهر الأطعمة التي تنتشر في رمضان بين المسلمين في رمضان لحم الضأن المشوي، ويحرص المسلمون أيضًا على تبادل الحلوى والبلح والشاي..
وقد تأسست جمعيات إسلامية في الصين وهي تمثل الحقوق والمصالح الشرعية لمسلمي مختلف القوميات في الصين، وتعمل منذ إنشائها على نشر سياسات الحكومة الصينية الخاصة بحرية الإيمان الديني وإجراء مختلف الأنشطة الإسلامية في أنحاء البلاد، بالإضافة إلى تطوير التعليم الإسلامي وكشف التراث الثقافي الإسلامي وكذلك تنظيم أعمال بحوث الثقافة الإسلامية وترجمة وتحرير ونشر الكتب الإسلامية، وطبع القرآن الكريم وبناء المساجد وتنظيم المسلمين لأداء فريضة الحج وتحسين الأطعمة الإسلامية، وتعزيز الصداقة بين الشعوب العربية و الاسلامية مع مسلمي الصين. وغيرها من الأعمال المختلفة.
المصدر: بيوت المتقين (34) شهر شوال 1437هـ