حصار النبي (صلى الله عليه وآله) في شعب أبي طالب

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على خاتم الأنبياء والمرسلين أبي القاسم محمد وآله الطيبين الطاهرين.

عن الصحيح من سيرة النبي(صلى الله عليه وآله)، ج2: لما رأت قريش عزة النبي(صلى الله عليه وآله) بمن معه، وعزة أصحابه في الحبشة، وفشوّ الإسلام في القبائل، وأن جميع جهودها في محاربة الإسلام قد باءت بالفشل، حاولت أن تقوم بتجربة جديدة، وهي الحصار الاقتصادي والاجتماعي، ضد الهاشميين، وأبي طالب [خاصة]، فإما أن يرضخوا لمطالبها في تسليم محمد لها للقتل، وإما أن يتراجع محمد(صلى الله عليه وآله) نفسه عن دعوته. وإما أن يموتوا جوعاً وذلاً، مع عدم ثبوت مسؤولية محددة على أحد في ذلك، يمكن أن تجر عليهم حرباً أهلية، ربما لا يمكن لأحد التكهن بنتائجها، وعواقبها السيئة. فكتبوا صحيفة تعاقدوا فيها على عدم التزوج والتزويج لبني هاشم، وبني المطلب، وأن لا يبيعوهم شيئاً، ولا يبتاعوا منهم، وأن لا يجتمعوا معهم على أمر من الأمور، أو يسلموا لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) ليقتلوه. وقد وقع على هذه الصحيفة أربعون رجلاً من وجوه قريش، وختموها بخواتيمهم، وعلقت الوثيقة في الكعبة مدة ويقال: إنهم خافوا عليها السرقة؛ فنقلوها إلى بيت أم أبي جهل.

تاريخ الحصار:

كان ذلك في سنة سبع من البعثة على أشهر الروايات، وقيل ست.

مدة الحصار:

ثلاث سنين على المشهور، أي استمر إلى السنة العاشرة بعد البعثة النبوية، وقيل أكثر، كما سيأتي الحديث عن ذلك. 

صبر وتضحيات:

أمر أبو طالب بني هاشم أن يدخلوا برسول الله (صلى الله عليه وآله) الشعب ـ الذي عرف بشعب أبي طالب ـ ومعهم بنو المطلب بن عبد مناف، باستثناء أبي لهب لعنه الله وأخزاه. ووضعت قريش عليهم الرقباء حتى لا يأتيهم أحد بالطعام، وكانوا ينفقون من أموال خديجة، وأبي طالب، حتى نفدت، حتى اضطروا إلى أن يقتاتوا بورق الشجر. وكان صِبْيَتُهُم يتضاغون (أي: يتصارخون) جوعاً، ويسمعهم المشركون من وراء الشعب، ويتذاكرون ذلك فيما بينهم، فبعضهم يفرح. ولم يكونوا يجسرون على الخروج من شعب أبي طالب إلا في موسم العمرة في رجب، وموسم الحج في ذي الحجة، فكانوا يشترون حينئذٍ ويبيعون ضمن ظروف صعبة جداً، حيث إن المشركين كانوا يلتقون بكل من يقدم مكة أولاً، ويطمعونه بمبالغ خيالية ثمناً لسلعته، شرط أن لا يبيعها للمسلمين. وكان أبو لهب هو رائدهم في ذلك؛ فكان يوصي التجار بالمغالاة عليهم حتى لا يدركوا معهم شيئاً، ويضمن لهم، ويعوضهم من ماله كل زيادة تبذل لهم. بل لقد كان المشركون يتهددون كل من يبيع المسلمين شيئاً بنهب أمواله، ويحذرون كل قادم إلى مكة من التعامل معهم. والخلاصة:أن قريشاً قد قطعت عنهم الأسواق، فلا يتركون لهم طعاماً يقدم مكة، ولا بيعاً إلا بادروهم إليه، يريدون بذلك أن يدركوا سفك دم رسول الله (صلى الله عليه وآله). وقد استمرت هذه المحنة سنتين أو ثلاثاً، وكان علي أمير المؤمنين (عليه السلام) أثناءها يأتيهم بالطعام سراً من مكة، من حيث يمكن، ولو أنهم ظفروا به لم يبقوا عليه، كما يقول الإسكافي وغيره. وكان أبو طالب (رضي الله عنه) كثيراً ما يخاف على النبي (صلى الله عليه وآله) البيات، فإذا أخذ الناس مضاجعهم، اضطجع النبي (صلى الله عليه وآله) على فراشه، حتى يرى ذلك جميع من في شعب أبي طالب، فإذا نام الناس جاء وأقامه، وأضجع ابنه علياً مكانه. فقال له علي (عليه السلام) ليلة: يا أبت إني مقتول.

فقال له:

اصبرن يا بني فالصبر احجى                

كل حي مصيره لشعــوبِ

قد بذلناك والبـــــلاء شديـد

                 لفداء الحبيب وابن الحـبيب

لفداء الأغر ذي الحســــب الثا

   قب، والباع والكريم النجيب

إن تصبك المنون فالنبل تبرى

                فمصيب منها وغير مصيب

كـــل حي وإن تملى بعمرٍ

                  آخذ من مذاقها بنصيب

فأجابه علي (عليه السلام) بقوله:

أتأمرني بالصبر في نصر أحمـــــد

                       ووالله ما قلت الذي قلت جازعا

ولكنني أحببت أن ترى (رؤية) نصرتي

                         وتعلم أني لم أزل لك طائعــــــا

سأسعى لوجه الله في نصر أحمــد

                          نبي الهدى المحمود طفلاً ويافعـا

وقال (عليه السلام) بعد ذلك:

وقيت بنفسي خير من وطأ الحصــى

                             ومن طاف بالبيت العتيق وبالحجْــرِ

رسول إله الخلق إذ مكروا بــــــــه

                               فنجاه ذو الطول الكريم من المكـــر

وبت أراعيهم متى يثبتوننـــــــــي

                              وقد صبرت نفسي على القتل والأسر

وبات رسول الله في الشعب آمنـــــاً

                               وذلك في حفظ الإله وفي ستـــــــر

أردت به نصر الإله تبتــــــــــــلاً

                               وأضمرته حتى أوسد في قبــــــري

نقض الصحيفة:

وبعد ثلاث سنوات تقريباً من حصر المسلمين في شعب أبي طالب، أخبر النبي (صلى الله عليه وآله) عمه أبا طالب بأن الإرضة قد أكلت كل ما في صحيفتهم من ظلم وقطيعة رحم ولم يبق فيها إلا ما كان اسماً لله. وفي نص آخر: (أنها قد أكلت كل اسم لله تعالى فيها، ولم تُبْق إلا كل ظلم وشر، وقطيعة رحم). والأصح هو الأول كما هو صريح الكلام المنقول عن أبي طالب (عليه السلام). فخرج أبو طالب من شعبه، ومعه بنو هاشم إلى قريش، فقال المشركون: الجوع أخرجهم. وقالوا له: يا أبا طالب، قد آن لك أن تصالح قومك. قال: قد جئتكم بخير، ابعثوا إلى صحيفتكم، لعله أن يكون بيننا وبينكم صلح فيها. فبعثوا، فأتوا بها، فلما وضعت وعليها أختامهم. قال لهم أبو طالب: هل تنكرون منها شيئاً؟ قالوا: لا. قال: إن ابن أخي حدثني ولم يكذبني قط: أن الله قد بعث على هذه الصحيفة الأرضة، فأكلت كل قطيعة وإثم، وتركت كل اسم هو لله، فإن كان صادقاً أقلعتم عن ظلمنا، وإن يكن كاذباً ندفعه إليكم فقتلتموه. فصاح الناس: أنصفتنا يا أبا طالب، ففتحت، ثم أخرجت، فإذا هي كما قال (صلى الله عليه وآله): فكبر المسلمون، وامتقعت وجوه المشركين. فقال أبو طالب: أتبين لكم: أينا أولى بالسحر والكهانة؟ فأسلم يومئذٍ عالم من الناس ولكن المشركين لم يقنعوا بذلك، بل استمروا على العمل بمضمون الصحيفة، حتى قام جماعة منهم بالعمل على نقضها، ويذكرون منهم: هشام بن عمرو بن ربيعة، وزهير بن أمية بن المغيرة، والمطعم بن عدي، وأبا البختري بن هشام، وزمعة بن الأسود، وكلهم له رحم ببني هاشم والمطلب، وتكلموا في نقضها، فعارضهم أبو جهل فلم يلتفتوا إلى معارضته، ومزقت الصحيفة، وبطل مفعولها. وخرج الهاشميون حينئذٍ من شعب أبي طالب رضوان الله تعالى عليه.

ما بعد نقض الصحيفة:

واستمر الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) يعمل على نشر دينه، وأداء رسالته، واستمرت قريش تضع في طريقه العراقيل، وتحاول أن تمنع الناس من الاجتماع به، والاستماع إليه، بكل الوسائل التي تقع تحت اختيارها، والنبي (صلى الله عليه وآله) يتحمل ويصبر، لا يكل ولا يمل، ولم تفلح قريش في ذلك، ولا وصلت إلى نتيجة، والأحداث التي في هذا السبيل كثيرة، لو أردنا استقصاءها لطال بنا المقام، ولا محيص لنا عن تجاوزها إلى غيرها، وإن كان يعز ذلك علينا.

حنكة أبي طالب، وإيمانه:

إن المطالع لأحداث ما قبل الهجرة النبوية الشريفة ليجد عشرات الشواهد الدالة على حنكة أبي طالب (عليه السلام). وخير شاهد نسوقه الآن على ذلك، هو ما ذكرناه آنفاً، حيث رأيناه يطلب منهم أن يحضروا صحيفتهم، ويمزج ذلك بالتعريض بإمكان أن يكون ثمة صلح في ما بينهم وبينه. وما ذلك إلا من أجل أن لا تفتح الصحيفة إلا علناً، يراها كل أحد، وأيضاً حتى يهيئهم للمفاجأة الكبرى، ويمهد السبيل أمام طرح الخيار المنطقي عليهم، ليسهل عليهم تقبله، ثم الالتزام به، ولا سيما إذا استطاع أن ينتزع منهم وعداً بما يريد، ويضعهم أمام شرف الكلمة، وعلى محك قواعد النبل واحترام الذات، حسب المعايير التي كانوا يتعاملون على أساسها. وقد نجح في ذلك إلى حد بعيد، حتى ليصيح الناس: أنصفتنا يا أبا طالب. ثم تبرز لنا من النصوص المتقدمة حقيقة أخرى، لها أهميتها وانعكاساتها، وهي تدل على مدى ثقة أبي طالب بصدق النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله)، وبسداد أمره، وواقعية ما جاء به، حتى قال: إن ابن أخي حدثني ولم يكذبني قط. وكان يتألم جداً من اتهام ابن أخيه بالسحر والكهانة، ويعتبر ذلك افتراء ظاهراً، ويغتنم الفرصة السانحة للتعبير عن خطل رأيهم، وسفه أحلامهم، فيقول لهم: (أتبين لكم: أينا أولى بالسحر والكهانة؟). وكانت النتيجة: أن أسلم بسبب هذه المعجزة يومئذٍ عالم من الناس.

ثم هنالك العامل الاقتصادي الذي وفرته له زوجته أم المؤمنين خديجة صلوات الله وسلامه عليها، والتي كانت تمتلك ـ حسبما يرى البعض ـ عصب الاقتصاد في الجزيرة العربية كلها. وقد أنفقت كل تلك الأموال على المسلمين، في الظروف الحرجة التي واجهوها، إبان اضطهاد قريش وحصارها الاقتصادي لهم. ومما يدل على أن النبي (صلى الله عليه وآله) كان يتولى الإنفاق على المسلمين، من أموال خديجة وأبي طالب قول أسماء بنت عميس لعمر حين عيّرها بأنه سبقها بالهجرة، وإنها حبشية حجرية ـ على ما نقل عن صحيح مسلم وغيره ـ قالت له: (كنتم مع النبي (صلى الله عليه وآله) يطعم جائعكم، ويعظ جاهلكم)

عام الحزن:

قالوا في السنة العاشرة من البعثة كانت وفاة الرجل العظيم، أبي طالب عليه الصلاة والسلام، ولكن عند التأمل ومراجعة الأحداث نرى أن هذا التاريخ غير دقيق، وعليه عدة تساؤلات منها: أن هجرة النبي (صلى الله عليه وآله) كانت بسبب فقده عمه ناصر الإسلام، فكيف بقي النبي (صلى الله عليه وآله) هذه المدة الطويلة وهي ثلاث سنوات في مكة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن حجم الأعمال التي قام بها (صلى الله عليه وآله) لم تكن تستغرق وقتا طويلا، فلم يكن إلا هجرته الى الطائف ولقائه بعض القبائل في الموسم. مضافاً إلى أن وجود أحاديث صرح بها المعصوم (عليه السلام) بأن وفاة أم المؤمنين خديجة(عليها السلام) كانت قبل الهجرة بسنة، وأبو طالب (عليه السلام) توفي بعد خديجة بسنة، بعد ذلك كانت هجرته (صلى الله عليه وآله). فقد ورد في الكافي ج 8، ص340 وكذا في ج1، ص440، للكليني المتوفي(329هـ): (قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ(عليه السلام): وقَدْ كَانَتْ خَدِيجَةُ مَاتَتْ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِسَنَةٍ ومَاتَ أَبُو طَالِبٍ بَعْدَ مَوْتِ خَدِيجَةَ بِسَنَةٍ فَلَمَّا فَقَدَهُمَا رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله) سَئِمَ الْمُقَامَ بِمَكَّةَ (أي ملله المقام فيها) ودَخَلَه حُزْنٌ شَدِيدٌ وأَشْفَقَ عَلَى نَفْسِه مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ فَشَكَا إِلَى جَبْرَئِيلَ (عليه السلام) ذَلِكَ، فَأَوْحَى الله عَزَّ وجَلَّ إِلَيْه: اخْرُجْ مِنَ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وهَاجِرْ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلَيْسَ لَكَ الْيَوْمَ بِمَكَّةَ نَاصِرٌ وانْصِبْ لِلْمُشْرِكِينَ حَرْباً، فَعِنْدَ ذَلِكَ تَوَجَّه رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله) إِلَى الْمَدِينَةِ). وهذا أقرب للواقع من غيره، كما أن المنطق يرجح هذا القول، خصوصاً مع ملاحظة أن قريشا كانت تهاب أبا طالب وتخشاه، وكانوا يصرحون بذلك. فقد ورد في تفسير القمي: 2/431: أنهم تنادوا لقتله وقالوا: (هلموا فاقتلوا محمداً فقد مات الذي كان ناصره)!. وكذا في إعلام الورى: 1/53، وتاريخ الإسلام للذهبي: ج1/233: قوله (صلى الله عليه وآله): (ما زالت قريش كاعَّة [أي جبانة] عني حتى مات أبو طالب). ونستطيع أن نعرف: كم كان لأبي طالب (عليه السلام)، ولخديجة صلوات الله وسلامه عليهما من خدمات جلّى في سبيل هذا الدين من تسمية النبي (صلى الله عليه وآله) عام وفاتهما ب‍: «عام الحزن». وهكذا يتضح: أننا لا يمكن أن نفسر مواقف أبي طالب (عليه السلام) تلك، إلا على أنها بدافع عقيدي وإيماني راسخ، يدفع الإنسان للبذل والعطاء، لكل ما يملك في سبيل دينه وعقيدته. فصلوات الله وسلامه عليك يا أبا طالب، يا أبا الرجال، ويا رائد قوافل التضحية والفداء، في سبيل الحق والدين، ورحمة الله وبركاته.

مقارنة حديث الشعب بليلة الغار:

قال ابن أبي الحديد في شرحه، ج13، ص256: وقد وصف الإسكافي حال علي (عليه السلام) في الشعب، قياساً له على حال أبي بكر في الغار بقوله: «وعلي يقاسي الغمرات، ويكابد الأهوال، ويجوع ويظمأ، ويتوقع القتل صباحاً ومساءً، لأنه كان هو المتوصل المحتال في إحضار قوت زهيد من شيوخ قريش وعقلائها سراً، ليقيم به رمق رسول الله (صلى الله عليه وآله) وبني هاشم، وهم في الحصار. ولا يأمن في كل وقت مفاجأة أعداء رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالقتل، كأبي جهل بن هشام، وعقبة بن أبي معيط، والوليد بن المغيرة، وعتبة بن ربيعة، وغيرهم من فراعنة قريش وجبابرتها. ولقد كان يجيع نفسه ويطعم رسول الله (صلى الله عليه وآله) زاده، ويظمئ نفسه ويسقيه ماءه، وهو كان المعلل له إذا مرض، والمؤنس له إذا استوحش، وأبو بكر في نجوة من ذلك، لا يمسه مما يمسهم ألم، ولم يلحقه مما يلحقهم مشقة، ولا يعلم بشيء من أخبارهم وأحوالهم إلا على سبيل الإجمال دون التفصيل، ثلاث سنين إلخ.

والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله المعصومين المنتجبين.

 

لتحميل الملف اضغط هنا