من كنت مولاه

لقد توّلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) بنفسه وبأمر إلهي مهمة الإعداد الفكري والعلمي لأمير المؤمنين(عليه السلام)، وتزويده دون سواه بالمعرفة القرآنية الشاملة، وبأصول العلوم وينابيعها، وبالحكمة وآدابها، وبأحكام المعرفة بالشريعة حلالها وحرامها، وكان(صلى الله عليه وآله) يُعِدّ الأمة الإسلامية أيضاً إعداداً فكرياً لترسيخ ولاية علي بن أبي طالب(عليه السلام)، والشواهد على ذلك كثيرة منها: أحاديث (الدار) و(المنزلة) و(الثقلين) وردّ الودائع في مكة، وأداؤه عن النبي سورة براءة، ومواقف وأحاديث أخرى لا يتسع القرطاس لتدوينها ولكن أهمها وأوضحها نصاً لولايته(عليه السلام) هو حديث الغدير الطويل، وهو حديث لم ينكره أحد من المسلمين، والذي قرر النبي(صلى الله عليه وآله) فيه ولاية أمير المؤمنين(عليه السلام) في فقرة: «مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ، اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالَاهُ، وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ»[1] .

تطلق كلمة المولى على عدة معان منها: الرب، والمالك، والسيد، والأولى، والمنعم، والمعتق، والعبد، والناصر، والمحب، والتابع، والجار، وابن العم، والحليف، والعقيد، والصهر، والمعتق، والمنعم عليه... وهي في الجميع لا تخرج عن الموالاة ضد المعاداة، وقد ورد لفظ الموالاة والمولى بالمعاني المذكورة في آيات كثيرة من القرآن الكريم.

والذي يهمنا هو كيف نعين المعنى المراد من بين هذه المعاني الكثيرة.

ذهب بعض المسلمين أن الولاية في الحديث تعني النصرة والمحبة، يستندون بذلك إلى قوله تعالى: (فَإِنَّ الله هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ)[2]، وفسروا المولى في حديث الغدير بالمحبة ببيان أن من أحبني فليحب علياً(عليه السلام) وهذا المعنى وإن كان موجوداً في اللغة لكننا في مقام تعيين أو تعيّن المعنى من بين المعاني الأخرى، وهذا مما عجز عنه أصحاب هذا الرأي.

أما نحن أتباع أهل البيت(عليهم السلام) فإن لفظ المولى في حديث الغدير عندنا يتعين بمعنى (الأولى) دون المعاني الأخرى - وهو المعنى الذي تلازمه الإمامة والخلافة - ولنا قرائن كثيرة على ذلك منها:

أولاً: سبق في الحديث عبارة «أَلَسْتُ أَوْلَى بِكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ؟ ...أَلَسْتُ أَوْلَى بِكُمْ مِنْ آبَائِكُمْ؟»[3].

ثم فرّع على ذلك قوله: «مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ» فلو كان (صلى الله عليه وآله) يريد في كلامه غير المعنى الذي صرح به في المقدمة لتعرّى كلامه عن البلاغة، ولتفكك الارتباط بين أجزاء كلامه، حاشاه وهو أبلغ من نطق بالضاد.

ثانياً: قوله (صلى الله عليه وآله): (يا أيها الناس؟ بم تشهدون؟

قالوا: نشهد أن لا إله إلا الله، قال: ثم مه؟ قالوا: وأن محمداً عبده ورسوله، قال:

فمن وليكم؟ قالوا: الله ورسوله مولانا. ثم ضرب بيده إلى عضد علي فأقامه فقال: من يكن الله ورسوله مولاه فإن هذا مولاه)[4].

فإن وقوع الولاية في سياق الشهادة بالتوحيد والرسالة، والمولوية المطلقة لله سبحانه ولرسوله من بعده لا يمكن إلا أن يراد بها معنى الإمامة الملازمة للأولوية على الناس منهم بأنفسهم.

ثالثاً: قوله في ذيل الحديث: «الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ورضى الرب برسالتي وولاية علي بن أبي طالب (عليه السلام) بعدي» فأي معنى من المعاني يكمل به الدين، ويتم النعمة، ويرضي الرب في عداد الرسالة غير الإمامة المستلزمة للأولوية؟ وإن كان معنى المحبة محتملاً فلماذا قال (بعدي)؟

رابعاً: قوله(صلى الله عليه وآله) في ذيل الحديث: «اللهم أنت شهيد عليهم إني قد بلغت ونصحت» فالإشهاد على الأمة بالبلاغ والنصح يستدعي أن يكون ما بلغه أمراً يهم الرسالة، أما معنى الحب والنصرة لا تتصور فيه أي حاجة إلى الإشهاد على الأمة.

خامساً: أبيات حسّان المشهورة في وصف ما جرى يوم الغدير التي يقول فيها

فقال له:

قم يا علي؟ فإنني

رضيتك من بعدي إماما وهاديا

فمن كنت مولاه فهذا وليه

فكونوا له أتباع صدق مواليا

فإنه فهم معنى الإمامة والقيادة والأولوية، ولم يشكل عليه باقي العرب ولا اعترض عليه باقي الشعراء.

إذاً يتضح الأمر جلياً أن تعيين معنى الولاية بالمحبة دون غيرها من المعاني ترجيح دون دليل وبرهان، وأن معنى الأولوية في جميع الأمور هي مقتضى أجواء تلك الوقفة النبوية الخالدة، كما قدمنا من قرائن الكلام والحال في هذا الاختصار، وإلا فالأدلة على تنصيب مقام الإمامة في يوم الغدير كثيرة لا يسعها المقام.

مجلة ولاء الشباب العدد (40)

 


[1]  ينابيع المودة، القندوزي: ج4، ص303.

[2] التحريم: 4.

[3] البداية والنهاية، ابن كثير: 11 / 73.

[4] الغدير، العلامة الأميني: ج1، ص374.