من كان نوره ساطعاً خفي بجنبه نور الأقمار واضمحل ببهائه ضياء الأنجم ذاك هو مرقد أمير المؤمنين بقبته الشامخة ومئذنتيه الذهبيتين، وكثيرة هي المراقد والمساجد التي خفيت على كثير من الناس لا لقلة قدرها بل لأنها جاورت من غطى نوره كل ضياء، ومن تلك المساجد مسجد عمران بن شاهين.
وهذا المسجد يمتلك مكانة كبيرة في ذاكرة أهالي مدينة النجف الأشرف كونه أحد أقدم المساجد المشيدة في هذه المدينة المقدسة حيث يعود إلى القرن الرابع الهجري، ويمكننا أن نحدد فترة بناء الرواق فيما بين سنة تولي عضد الدولة البويهي الحكم في العراق عام (367هـ) ، وبين وفاة عمران عام (369هـ).
لقد ارتبط اسم هذا المسجد باسم رجل تعرض لواقعة تاريخية يذكرها بعض المؤرخين، وقد نذر هذا الرجل لأجلها نذراً تجسد وفاؤه به في بناء هذا الصرح الذي يعد الآن من المعالم الأساسية للصحن الشريف، والواقع على جهة اليمين لمن دخل من جهة باب الطوسي (الجهة الشمالية للصحن العلوي الشريف).
فالباني لهذا المسجد هو عمران بن شاهين الخفاجي الذي عاش في القرن الرابع الهجري وأسس الدولة الشاهينية وعرف بالحكمة والشجاعة والذكاء وبقي ذكره خالداً لارتباطه بالمسجد.
ذكر الشيخ جعفر محبوبة أن عمران بن شاهين في بدء أمره كان من أهل الجامدة (قرية من قرى واسط)، جنا جناية فهرب إلى البطيحة من سلطان الناحية فأقام بين القصب والآجام، واقتصر على ما يصيده من السمك، ثم اصطر إلى معارضة من يسلك البطيحة متلصصاً، وعرف خبره جماعة من صيادي السمك فاجتمعوا إليه مع جماعة من المتلصصة حتى حمي جانبه من السلطان فلما أشفق من أن يقصد، استأمن أبا القاسم البريدي فقلده الجامدة بالحماية والأهوار التي في البطائح، فما زال يجمع الرجال إلى أن كثر أصحابه وقوي، فغلب على تلك النواحي وحارب سلطان عصره (عضد الدولة) مراراً وصارت مملكة من الممالك الشيعية، توفي فجأة سنة (369هـ) وجاء بعده ولده حسن بن عمران ثم أبو المعالي بن حسن[1].
وقد ذكر السيد ابن طاووس، عن ابن طحّال قيّم الروضة الحيدرية، أن عمران بن شاهين من أمراء العراق عصى على عضد الدولة، فطلبه طلباً حثيثاًَ، فهرب منه إلى المشهد (العلوي) متخفياً فرأى أمير المؤمنين (عليه السلام) في منامه، وهو يقول: إن في غد يأتي (فنّاخسرو) إلى ها هنا (وأشار إلى زاوية من القبة) فإهم لا يرونك، فسيدخل ويزور ويصلي ويبتهل بالدعاء والقسم بمحمد وآله أن يظفره بك، فادن منه، وقل له: أيها الملك من هذا الذي ألححت بالقسم بمحمد وآله أن يظفرك الله به؟ فسيقول: رجل شقّ عصاي ونازعني في ملكي وسلطاني، فقل له: ما لمن يظفرك به؟ فيقول: إن حتم عليّ بالعفو عنه عفوت عنه، فاعلمه بنفسك، فإنك تجد منه ما تريد، فكان كما قال له، فقال له: أنا عمران بن شاهين، قال: من أوقفك ها هنا؟ قال له: هذا مولانا قال في منامي: غداً يحضر (فنّاخسرو) إلى ها هنا، وأعاد عليه القول، فقال له: بحقه قال لك: (فنّاخسرو)، قلت: إي وحقه، فقال عضد الدولة: ما عرف أحد اسمي (فنّاخسرو) إلا أمي والقابلة وأنا، ثم خلع عليه خلعة الوزارة، وطلع من بين يديه إلى الكوفة، وكان عمران بن شاهين قد نذر عليه أنه متى عفا عنه عضد الدولة، أتى زيارة أمير المؤمنين (عليه السلام) حافياً حاسراً، فلما جنّه الليل، خرج من الكوفة وحده، فرأى جدي علي بن طحال مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو يقول: اقعد، افتح لوليي عمران بن شاهين الباب، فقعد وفتح الباب، وإذا بالشيخ قد أقبل، فلما وصل قال: بسم الله مولانا، فقال ومن أنا؟ فقال: عمران بن شاهين، قال: لست بعمران بن شاهين، فقال: بلى، إن أمير المؤمنين (عليه السلام) أتاني في منامي، وقال لي: افتح لوليي عمران بن شاهين، قال له: بحقه هو قال لك؟ قال: أي وحقه هو قال لي، فوقع على العتبة يقبلها، وأحاله على ضامن السمك بستين ديناراً، وكانت له زوارق تعمل في الماء في صيد السمك[2].
وقد نذر عمران بن شاهين إن عفا عنه السلطان عضد الدولة يبني رواقاً في مدينة النجف، وبعد أن حصلت تلك الكرامة من أمير المؤمنين (عليه السلام) ترتب على عمران الإيفاء بالنذر، فبنى رواقين أحدهما في النجف، والآخر في كربلاء[3].
وخلال قرون سابقة (منذ القرن الرابع الهجري) طرأت إصلاحات عدة على رواق عمران، فقد كان رواق (مسجد) عمران بن شاهين متصلاً بالمرقد الشريف من الجهة الشمالية وبابه في مدخل باب الشيخ الطوسي (قدس سره) على يمين الداخل منه إلى الصحن الشريف، وقد هُدم قسم من هذا الرواق وأدخل إلى الصحن الشريف عند مجيء الشاه عباس الأول للنجف مما وسع ساحته من هذه الجهة، وقام الشاه صفي الصفوي بهدم الدور المجاورة للصحن من الجهتين الشرقية والجنوبية فأدخلهما إلى الصحن، وبذلك اتسع من جهاته الثلاث، وهي العمارة القائمة إلى وقتنا هذا، وإن الجزء المتبقي من الرواق الذي بناه عمران بن شاهين هو ما يطلق عليه اليوم (مسجد عمران).
وقد ناقش الشيخ جعفر محبوبة ما قيل في (آثار الشيعة الإمامية) الجزء الثالث صفحة (128) من أن ما بناه عمران بن شاهين كان مسجداً فقال: (مسجد عمران لم يعلم قبل أنه كان مسجداً، بل المشهور والمسطور أنه بنى رواقاً، فعلى هذا هو من جملة أروقة الحرم العلوي ولا ريب في جواز الدفن فيه، وغير بعيد أنه بعد انفصاله عن الحرم العلوي رتبت عليه آثار المسجدية، والآثار الموجودة كما يزعم إنما حدثت وقت انفصاله).
ويمكن القول أن رواث عمران بن شاهين حُوّل إلى مسجد في القرن العاشر الهجري على أقل تقدير، أي في العصر الصفوي، حيث إن عمران - حسبما ذكرت المصادر - بنى رواقاً، وقد دفن فيه بعض العلماء كما في أروقة الصحن الشريف، ثم حول إلى مسجد حين اقتطعت منه أجزاء أضيفت إلى الصحن الشريف.
لمسجد عمران اليوم بابان أحدهما في مدخل باب الشيخ الطوسي (الذي توسع وأخذ جزءاً من رواق عمران في عام (1369هـ))، والباب الآخر مطل على الصحن الشريف.
تبلغ مساحة المسجد اليوم حوالي (215 متر مربع)، ترتفع من أرضيته أربعة أقواس كبيرة متجاورة ومتقابلة، تحيط عند السقف بقبة صغيرة ذات نوافذ للتهوية والإضاءة عددها 12 نافذة، وهذه الأقواس تحصر من أرض المسجد ما يشبه الغرف الصغيرة وعددها أربعة، في إحداها توجد مقبرة العلامة اليزدي (قدس سره) وهي عند الجهة الجنوبية الغربية من المسجد.
وأشارة عدد من المؤرخين والباحثين إلى أن المسجد كانت تقام فيه صلاة الجماعة، ويشير السيد عبد المطلب الخرسان إلى ذلك بقوله: (لقد أدركنا المرجع الديني آية الله العظمى السيد محسن الطباطبائي الحكيم (قدس سره) يقيم الجماعة فيه لصلاة المغرب والعشاء في فصل الشتاء، ويدرّس فيه عندما يكون في مسجد الرأس تعمير.
المقابر الموجودة في مسجد عمران بن شاهين:
توجد في هذا المسجد مقبرة المرجع الكبير السيد محمد كاظم اليزدي(قدس سره) التي دفن فيها سنة 1334هـ بعد أن استقطع جزء من الجامع لهذه المقبرة، وأيضاً في الركن الجنوبي الغربي للمسجد توجد مقبرة السيد شرف الدين الموسوي(قدس سره)، وهو أيضاً من علمائنا البارزين.
المصدر: بيوت المتقين العدد (بسم الله) - شهر شوال 1434هـ.