البيان والتعريف ولزوم الحجة

وقع الكلام بين الإعلام في المراد من (البيان) و(التعريف) وبالتالي (لزوم الحجة) وهناك جملة من الأقوال نذكر منها ما يلي:

القول الأول: المراد بالبيان: توضيحه تعالى لمعرفه ومعرفة رسوله والأئمة (عليهم السلام) في الميثاق وبالتعريف: تعريف الرَّسول والأئمّة تلك المعارف والأحكام للأمّة في هذا العالم، وبلزوم الحجّة أنَّ الحجّة لا تلزم إلّا بعد البيان والتعريف، وبالجملة المقصود أنَّ الأحكام الاُصوليّة والفروعيّة جلّها توقيفيّة لا يمكن معرفة شيء منها إلّا بالبيان والتعريف وبعدهما لزمت الحجّة على المطيع والعاصي، وقال الفاضل الأسترآبادي: المقصود ها هنا شيئان:

الأوَّل: أنّ الصور الإدراكيّة كلّها تفاض من الله تعالى بأسبابها وهذا هو قول الحكماء وعلماء الإسلام، قال الله تعالى: (سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إلّا مَا عَلَّمْتَنَا)[1]، وشبهها من الآيات.

والثاني: أنَّ الله تعالى لم يكلّفنا بالكسب لنعرف أنَّ لنا خالقاً وله مُبلِّغاً رسولاً بل عليه أن يعرَّفنا نفسه ورسوله وبذلك لزمت الحجّة على الخلق.

القول الثاني: قيل المراد بالبيان: بيان الأحكام الشرعيّة في القرآن لرسوله وبالتعريف: تعريف الرسول تلك الأحكام للأمّة، وبلزوم الحجّة: لزومها على الخلق بعد البيان والتعريف.

ونذكر هنا جملة من الروايات التي وردت في كتاب الكافي:

1 - عَنْ جَمِيلِ بْنِ دَرَّاجٍ عَنِ ابْنِ الطَّيَّارِ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) قَالَ: (إِنَّ الله احْتَجَّ عَلَى النَّاسِ بِمَا آتَاهُمْ وعَرَّفَهُمْ)[2].

الشرح:

عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: (إِنَّ الله احْتَجَّ عَلَى النَّاسِ بِمَا آتَاهُمْ)، أي من الحجج الباطنة وهي العقل والقدرة والعلم وغيرها (وعَرَّفَهُمْ)، بالحجج الظاهرة من إرسال الأنبياء ونصب الأوصياء وإنزال الكتب.

والمقصود أنّه تعالى أكمل حجّته عليهم باطناً وظاهراً وأمّا باطناً فبأن أعطاهم قوَّة على فعل الخيرات وعقلاً قابلاً لمعرفتها وسلوك سبيلها، وأمّا ظاهراً فبأن عرَّفهم طريق التوحيد وما يليق به أوَّلاً وطريق الخيرات والشرور ثانياً بوضع الشرائع وإرسال الرُّسل وإنزال الكتب ونصب الأوصياء وبذلك يحتُّج عليهم يوم القيامة كما قال الله تعالى: (كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا)[3] وقال عز وجل: (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ)[4]، إلى غير ذلك من الآيات.

2- عَنْ يُونُسَ عَنْ حَمَّادٍ عَنْ عَبْدِ الأَعْلَى قَالَ قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام): (أَصْلَحَكَ الله هَلْ جُعِلَ فِي النَّاسِ أَدَاةٌ يَنَالُونَ بِهَا الْمَعْرِفَةَ قَالَ فَقَالَ لَا قُلْتُ فَهَلْ كُلِّفُوا الْمَعْرِفَةَ قَالَ لَا عَلَى الله الْبَيَانُ: (لا يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) و (لا يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلَّا ما آتاها) قَالَ وسَأَلْتُه عَنْ قَوْلِه: (وما كانَ الله لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ) قَالَ حَتَّى يُعَرِّفَهُمْ مَا يُرْضِيه ومَا يُسْخِطُه)[5].

الشرح:

عن عبد الأعلى قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): (أَصْلَحَكَ الله هَلْ جُعِلَ فِي النَّاسِ أَدَاةٌ)، الأداة هنا العقل والذُّكاء (يَنَالُونَ بِهَا الْمَعْرِفَةَ)، أي معرفة الله تعالى ومعرفة الرَّسول ومعرفة الأحكام أيضاً.

فقال (عليه السلام): (لَا، قُلْتُ فَهَلْ كُلِّفُوا الْمَعْرِفَةَ)، أي بالنظر والاستدلال (قَالَ لَا عَلَى الله الْبَيَانُ) وعليهم القبول كما دلَّ عليه ما رواه الصدوق في كتاب التوحيد عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (ليس لله على خلقه أن يعرفوا قبل أن يعرفهم، وللخلق على الله أن يعرفهم، ولله على الخلق إذا عرفهم أن يقبلوه)[6].

ثمِّ أشار (عليه السلام) إلى أنَّ تكليفهم بالمعرفة تكليف بالمحال واستدل على ذلك بقوله الله عز وجل: (لا يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلَّا وُسْعَها)[7]، وبقوله تعالى: (لا يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلَّا ما آتاها)[8]، فبعد المعرفة، بالمعارف والأحكام فهم مكلّفون بقبولها بعد البيان لا بتحصيلها إذ المعارف والأحكام توقيفيّة فهي من صنع الله تعالى لا من صنعهم وإذا لم تكن من صنعهم كان التكليف بها تكليفاً بالمحال، وفيه ردٌّ، وعلى مَن زعم من الأشاعرة أنَّ تصوُّر الخطاب من غير سبق معرفة إلهاميّة بخالق العالم وبأنَّ له رضاً وسخطاً وبأنّه لابدَّ من معلّم من جهته تعالى ليعلّم الناس ما يصلحهم وما يفسدهم كافٍ في تعلّق التكليف بهم.

ثم قال الراوي سَأَلْتُه عَنْ قَوْلِه تعالى: (وما كانَ الله لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ)[9]، فقال (عليه السلام): (حَتَّى يُعَرِّفَهُمْ مَا يُرْضِيه ومَا يُسْخِطُه)، دلَّ على أنَّ تعذيبهم والحكم بضلالتهم بعد هدايتهم في الميثاق إلى المعرفة ونسيانهم إيّاها منفيٌّ حتّى يبعث إليهم رسولاً يُذكّرهم على العهد (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)[10].

3 - عَنْ حَمْزَةَ بْنِ مُحَمَّدٍ الطَّيَّارِ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) فِي قَوْلِ الله عَزَّ وجَلَّ: (وما كانَ الله لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ) قَالَ: حَتَّى يُعَرِّفَهُمْ مَا يُرْضِيه ومَا يُسْخِطُه، وقَالَ: (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وتَقْواها) قَالَ: بَيَّنَ لَهَا مَا تَأْتِي ومَا تَتْرُكُ وقَالَ: (إِنَّا هَدَيْناه السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وإِمَّا كَفُوراً) قَالَ: عَرَّفْنَاه إِمَّا آخِذٌ وإِمَّا تَارِكٌ، وعَنْ قَوْلِه: (وأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) قَالَ: (عَرَّفْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى وهُمْ يَعْرِفُونَ وفِي رِوَايَةٍ بَيَّنَّا لَهُمْ).

الشرح:

قوله الله تعالى (وما كانَ الله لِيُضِلَّ قَوْماً)، أي ليُسمّيهم ضُلالاً أو يؤاخذهم مؤاخذتهم، أو يَسمهم بِسِمَةِ الضلالة يعرف بها من يشاء من ملائكته إذا نظروا إليها أنّهم من الضالّين أو يخذلهم بسلب اللّطف والتوفيق عنهم (بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ)، إلى طريق معرفته بإلهام فطريّ (حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ) قال: (حَتَّى يُعَرِّفَهُمْ مَا يُرْضِيه ومَا يُسْخِطُه)، فالمعارف اليقينيّة والأحكام الدِّينية توقيفيّة، على الله بيانها وعليهم القبول.

ثم سأله الراوي عن قول الله تعالى: (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وتَقْواها) فقَالَ (عليه السلام): (بَيَّنَ لَهَا مَـا تَأْتِي ومَــا تَتْرُكُ)، أي عرّفها ما ينبغي أن تأتي به من المعرفة، والطاعة وما ينبغي أن تتركه من الكفر والمعصية، وقد أشار القاضي إلى هذا التفسير بقوله إلهام الفجور والتقوى إفهامهما وتعريف حالهما والتمكين من الإتيان بهما.

ثم سأله الراوي عن قول الله سبحانه: (إِنَّا هَدَيْناه السَّبِيلَ)، أي سبيل الخيرات والطاعات (إِمَّا شاكِراً وإِمَّا كَفُوراً)، قال القاضي: هما حالان من الهاء (في هديناه)، وإمّا للتفصيل أو التقسيم أي هديناه في حاليه جميعاً أو مقسوماً إليهما بعضهم شاكر بالاهتداء والأخذ فيه وبعضهم كفور بالإعراض عنه أو من السبيل ووصفه بالشكر والكفر مجاز.

فأجابه الإمام (عليه السلام) بقوله: (عَرَّفْنَاه إِمَّا آخِذٌ وإِمَّا تَارِكٌ) الآخذ: هو الشاكر، والتارك: هو الكافر، ولعلّ المراد أنَّ بيان الواجبات مطلقاً أصليّة كانت أو فرعيّة على الله وليس عليهم النظر في تحصيل معارفه وأحكامه، ومن لطف الله تعالى علينا أنّه منَّ علينا بنعمة هي الهداية وجعل قبول تلك النعمة شكراً لها وتركها كفراناً، فسبحانه ما أرفع شأنه وأعظم امتنانه.

وأخيرا سأله الراوي عن قول الله عز وجل: (وأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) فقال (عليه السلام): (عَرَّفْنَاهُمْ)، أي عرفناهم سبيل الحقِّ وهو طريق التوحيد والمعرفة وغيرهما من الأحكام (فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى)، أي فاختاروا الضلالة على الهداية (وهُمْ يَعْرِفُونَ)، أي يعرفون سبيل الحقِّ والهداية أو التفاوت بينهما وبين الضلالة، وفي رواية أنه قال (بَيَّنَّا لَهُمْ)، أي أوضحنا طريق الهداية فاختاروا طريق الضلالة بعد البيان والإيضاح.

4- عن مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى وغَيْرُه عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عُمَيْرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَكِيمٍ قَالَ: (قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) الْمَعْرِفَةُ مِنْ صُنْعِ مَنْ هِيَ قَالَ مِنْ صُنْعِ الله لَيْسَ لِلْعِبَادِ فِيهَا صُنْعٌ)[11].

الشرح:

عن محمّد ابن حكيم قال: (قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) الْمَعْرِفَةُ مِنْ صُنْعِ مَنْ هِيَ)، أي أهي من صنع الله تعالى وتوفيقه أو من صنع العباد وكسبهم بأفكارهم (قَالَ: مِنْ صُنْعِ الله لَيْسَ لِلْعِبَادِ فِيهَا صُنْعٌ)، وقد رويت في هذا المعنى روايات كثيرة بلغت لكثرتها حدَّ التواتر المعنوي منها مذكورة في كتاب التوحيد للصدوق (عليهم السلام) وغيره من الكتب المعتبرة، وفيه دلالة على أنَّ معرفته تعالى توقيفيّة وأنَّ العباد لم يكلّفوا بتحصيلها بالنظر والاستدلال وأنَّ على الله البيان والتعريف:

أوَّلاً: في عالم الأرواح بالإلهام.

وثانياً: في عالم الأجسام بإرسال الرَّسول وإنزال الكتب وأنَّ عليهم قبول ما عرّفهم الله تعالى، فبطل ما ذهب إليه الأشاعرة والمعتزلة حيث قالوا يجب معرفته نقلاً بالنظر والمعرفة بعده من صنع الله تعالى بطريق العادة، والمعتزلة ومن يحذو حذوهم قالوا: يجب معرفته عقلاً بالنظر والمعرفة بعده من صنع العبد يولّدها النظر كما أنَ حركة اليد تولّد حركة المفتاح.

وبالجملة لم يتعلّق وجوب ولا غيره من التكليفات إلّا بعد بلوغ خطاب الشارع، ومعرفة الله تعالى قد حصلت لهم قبل بلوغ الخطاب بطريق إلهام بمراتب وكلُّ من بلغته دعوة النبيِّ (صلى الله عليه وآله) يقع في قلبه من الله يقين بصدقه فإنّه تواتر الأخبار عنهم (عليهم السلام) بأنّه (ما من أحد إلّا وقد يرد عليه الحقُّ حتّى يصدع قلبه قبله أو تركه)[12]، وذلك أن الله يقول في كتابه: (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمْ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ)[13]، وقد تواترت الأخبار أنَّ معرفة خالق العالم ومعرفـة النبيّ(صلى الله عليه وآله)

والأئمّة (عليهم السلام) ليستا من أفعالنا الاختياريّة، وأنَّ على الله بيان هذه الأمور وإيقاعها في القلوب بأسبابها وأنَّ على الخلق بعد أن أوقع الله تعالى تلك المعارف الإقرار بها والعزم على العمل بمقتضاها، أقول: الّذي استفدته من كلامهم (عليهم السلام) أنَّ المراد بالمعرفة: ما يتوقّف عليه حجيّة الأدلّة السمعيّة من معرفة صانع العالم وأنَّ له رضا وسخطاً وينبغي أن ينصب معلّماً ليعلّم الناس ما يصلحهم وما يفسدهم، ومن معرفة النبيِّ(صلى الله عليه وآله).

والمراد بالعلم الأدلّة السمعيّة كما قال النبي (صلى الله عليه وآله): (إنما العلم ثلاثة: آية محكمة، أو فريضة عادلة، أو سنة قائمة)[14]، وفي قول الإمام الصادق (عليه السلام): (إن من قولنا إن الله يحتج على العباد بما آتاهم وعرفهم، ثم أرسل إليهم رسولا وأنزل عليهم الكتاب فأمر فيه ونهى)[15]، وفي نظائره إشارة إلى ذلك ألا ترى أنّه (عليه السلام) قدَّم أشياء على الأمر والنهي، فتلك الأشياء كلّها معارف وما يستفاد من الأمر والنهي كلّه هو العلم. ويحتمل أيضاً أن يراد بها معرفة الأحكام الشرعيّة وهو الّذي ذهب إليه بعض أصحابنا قال: المراد بهذه المعرفة المعرفة الّتي لا تلزم حجّته تعالى بالثواب والعقاب يوم القيامة إلّا بها وهي معرفة الأحكام التكليفيّة الّتي يعذَّب ويثاب مخالفها وموافقها.

5- عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنِ ابْنِ بُكَيْرٍ عَنْ حَمْزَةَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله(عليه السلام) قَالَ: (سَأَلْتُه عَنْ قَوْلِ الله عَزَّ وجَلَّ: (وهَدَيْناه النَّجْدَيْنِ) قَالَ: نَجْدَ الْخَيْرِ والشَّرِّ)[16].

الشرح:

عن أبي عبد الله(عليه السلام) في قوله تعالى: (وهَدَيْناه النَّجْدَيْنِ) قَالَ: نَجْدَ الْخَيْرِ والشَّرِّ)، أي عرَّفناه سبيلهما، والنجد في الأصل الطريق الواضح المرتفع وفيه دلالة على أنَّ الهداية تطلق على إراءة طريق الشرِّ أيضاً.

وقال سيّد المحقّقين: إذا أُريد تخصيص الهداية بالخير، قيل أي نجدي العقل النظري والعقل العملي وسبيلي كمال القوَّة النظريّة وكمال القوَّة العمليّة أو نجدي المعاش والمعاد أو نجدي الدُّنيا والآخرة أو نجدي الجنّة والثواب والفناء المطلق في نور وجه الله والبهجة الحقّة للقاء بقائه.

6- عَنْ يُونُسَ عَنْ سَعْدَانَ رَفَعَه عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) قَالَ: (إِنَّ الله لَمْ يُنْعِمْ عَلَى عَبْدٍ نِعْمَةً إِلَّا وقَدْ أَلْزَمَه فِيهَا الْحُجَّةَ مِنَ الله فَمَنْ مَنَّ الله عَلَيْه فَجَعَلَه قَوِيّاً فَحُجَّتُه عَلَيْه الْقِيَامُ بِمَا كَلَّفَه واحْتِمَالُ مَنْ هُوَ دُونَه مِمَّنْ هُوَ أَضْعَفُ مِنْه ومَنْ مَنَّ الله عَلَيْه فَجَعَلَه مُوَسَّعاً عَلَيْه - فَحُجَّتُه عَلَيْه مَالُه ثُمَّ تَعَاهُدُه الْفُقَرَاءَ بَعْدُ بِنَوَافِلِه ومَنْ مَنَّ الله عَلَيْه فَجَعَلَه شَرِيفاً فِي بَيْتِه - جَمِيلاً فِي صُورَتِه فَحُجَّتُه عَلَيْه أَنْ يَحْمَدَ الله تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ وأَنْ لَا يَتَطَاوَلَ عَلَى غَيْرِه فَيَمْنَعَ حُقُوقَ الضُّعَفَاءِ لِحَالِ شَرَفِه وجَمَالِه)[17].

الشرح:

قال الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (إِنَّ الله لَمْ يُنْعِمْ عَلَى عَبْدٍ نِعْمَةً)، سواء النعم الظاهرية أو الباطنية.

ثم قال (عليه السلام): (إِلَّا وقَدْ أَلْزَمَه فِيهَا الْحُجَّةَ مِنَ الله)، بعد البيان والتوضيح لما ألزمه فزاد عليه، تكليفاً بإزائها شكراً لها.

ثم قال (عليه السلام): (فَمَنْ مَنَّ الله عَلَيْه فَجَعَلَه قَوِيّاً)، أي جعله قوياً بجسمه وعقله.

ثم قال (عليه السلام): (فَحُجَّتُه عَلَيْه الْقِيَامُ بِمَا كَلَّفَه)، من الجهاد والطاعات والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك ممّا لا يصدر إلّا عن الأقوياء، والمراد أنَّ القيام بما كلّفه به أمر يحتجٌّ به سبحانه على القويِّ يوم القيامة إن تركه.

وقوله (عليه السلام): (واحْتِمَالُ مَنْ هُوَ دُونَه مِمَّنْ هُوَ أَضْعَفُ مِنْه) يعني حجّته عليه أيضاً أن يتحمّل ممّن هو أضعف منه ولا يأخذه بالجريرة وسوء الأدب أو يتحمّل منه ثقله بدفع ظلم الظالم وجور الجائر وغير ذلك ممّا يكسر ظهره ويجرح قلبه.

ثم قال (عليه السلام): (ومَنْ مَنَّ الله عَلَيْه فَجَعَلَه مُوَسَّعاً عَلَيْه)، أي في الرِّزق والمال (فَحُجَّتُه عَلَيْه مَالُه)، حيث يحتجُّ به عليه إن لم يخرج ما فيه من الواجبات الماليّة مثل الزَّكاة والخمس وغيرهما (ثُمَّ تَعَاهُدُه الْفُقَرَاءَ بَعْدُ بِنَوَافِلِه)، يعني ثمَّ حجّته تعالى عليه بعد إخراجه الواجبات المالية ومفروضاتها أن يتعاهد حال الفقراء بنوافل ماله بالهدايا والتصدُّقات المندوبة (ومَنْ مَنَّ الله عَلَيْه فَجَعَلَه شَرِيفاً فِي بَيْتِه) أي فجعله شريفاً في نسبه وكريماً في حسبه ورفيعاً في خُلقه (جَمِيلاً فِي صُورَتِه) الظاهرة بحسن هيئته ولطافة تركيبه ورشاقة قدِّه وصباحة خدِّه.

ثم بين(عليه السلام) ما يجب عليه بعد ثبوت الحجة بقوله: (فَحُجَّتُه عَلَيْه أَنْ يَحْمَدَ الله تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ) لأنَّ ذلك من عظيم نعمائه تعالى عليه بلا سبق استحقاق فينبغي أن يحمده عليه أكمل من الحمد على نعمة له مدخل في اكتسابها لئلاّ يكون يوم القيامة محجوجاً بتركه (وأَنْ لَا يَتَطَاوَلَ عَلَى غَيْرِه)، يعني لا يطلب الزِّيادة على غيره بالتكبّر والافتخار ولا ينظر إليه بالإهانة والاستصغار (فَيَمْنَعَ حُقُوقَ الضُّعَفَاءِ) وهو متفرِّع على المنفي وهو التطاول، يعني فيمنع التطاول أو فيمنع ذلك الشريف بسبب التطاول حقوق الضعفاء من زيارتهم وعيادتهم والمشي إلى قضاء حوائجهم وحضور جنائزهم إلى غير ذلك من الحقوق (لِحَالِ شَرَفِه وجَمَالِه)، متعلّق بتطاول أو بمنع، والأخير أظهر.

وأعلم أنَّ الأحاديث السابقة دلّت على أنَّ المعارف كلّها من صنع الله تعالى، وهذا الحديث دلَّ على أنَّ للعبد اكتساب الأعمال وأنَّ لله تعالى حجّة عليهم في جميع ذلك، يدلُّ على ذلك ما رواه الصدوق في كتاب التوحيد بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله(عليه السلام): (أنّه سُئل عن المعرفة أمكتسبة هي؟ فقال: لا، فقيل له: فمَن صنع الله عزَّ وجلَّ وعطائه هي؟ قال: نعم، وليس لهم صنع ولهم اكتساب الأعمال، وقال (عليه السلام): أفعال العباد مخلوقة خلق تقدير لا خلق تكوين).

مجلة بيوت المتقين العدد (30 - 31)

 


[1] سورة البقرة: 32.

[2] الكافي، الشيخ الكليني: ج١، ص ١٦٢.

[3] سورة طه: آية 126.

[4] سورة الملك: آية 8.

[5] الكافي، الشيخ الكليني: ج١، ص١٦٣.

[6] التوحيد: ص412.

[7] سورة البقرة: آية 286.

[8] سورة الطلاق: آية 7.

[9] سورة التوبة: آية 115.

[10] سورة الإسراء: آية 15.

[11] الكافي، الشيخ الكليني: ج١، ص١٦٣.

[12] البحار: ج5، ص302.

[13] سورة الأنبياء: آية 18.

[14] الكافي: ج1، ص32.

[15] الكافي: ج1، ص164.

[16] الكافي، الشيخ الكليني: ج١، ص١٦٣.

[17] الكافي، الشيخ الكليني: ج١، ص١٦٣.