عَوَامِلُ تَحْصينِ الأُمّةِ في زَمَنِ الغَيْبَةِ
هناك جملة من الحقائق من شأنها تحقيق الاستقلال للأمّة - في عصر الغيبة - عن الجهاز الحاكم المنحرف، ومن هذه الحقائق:
بيّن الأئمة (عليهم السلام) أن الخلافة اغتُصبت منهم وأنهم القادة الشرعيون، والحكام الحقيقيون، وأن هؤلاء الحكام والخلفاء غاصبون لهذا المنصب، وأنهم طغاة مستكبرون، ولهذا عندما سأل الخليفة العباسي المهدي الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) عن حدود فدك ليردّها إليه، كان جواب الإمام الكاظم (عليه السلام): أن فدكحدودها حدود الدولة الإسلامية، وكانت بعض الروايات تعبّر عن الخلفاء العباسيين والأمويين بولاة الجور.
إن الحكام الحقيقيين هم الأئمة (عليهم السلام) في عصر حضورهم، وإلا فنوابهم: وهم المجتهدون العدول، وعلى هذا يكون الحكام الغاصبون للخلافة حكّاماً ظلمة لا يجوز إعانتهم على ظلمهم، ودعمهم وتثبيت حكمهم بشكل من الأشكال.
لقد شدّد الأئمة (عليهم السلام) على ذلك وأوضحوا أن إعانتهم ظلم، فقدروي عن جعفر بن محمد عن آبائه (عليهم السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (إذا كانَ يومُ القِيامةِنادَى مُنادٍ: أيْنَ أعْوانُ الظّلمَةِ، وَمنْ لاقَ لَهُم دَوَاةً، أَو رَبَطَ كِيْساً، أَو مَدَّ لَهُم مَدَّةَ قَلَمٍ؟ فَاحْشُرُوهُمْ مَعَهُمْ)[1]، فالقادة الشرعيون كانوا يحاولون قطع كل صلة إيجابية بين الأمة والطغاة.
ويترتب على ذلك أن كل ممتلكات الدولة ليست بيد حكام الجور، وليس لهم حق التصرف فيها، وإنما هي للإمام أو لنائبه المجتهد، والتي تسمى بمجهول المالك، ولا يجوز التصرف بها إلا بإذن الإمام، أو نائبه المجتهد العادل.
إذن، من هذا كله، يتضح فصل الأمّة عن الطغاة حكام الجور وعدم التعاون معهم، وربط الأمّة بالحكام الحقيقيين وهم المجتهدون الواعون الأمناء، وهذا من شأنه أن يخلق للأمة كياناً مستقلاً عن الكيانات الجاهلية، كياناً مرتبطاً بالإسلام.
2) حرمة التخاصم:
إن القادة من أهل البيت (عليهم السلام) أوضحوا بشكل صريح حرمة التخاصم عند الحكام الغاصبين وعند أجهزتهم، وأن المال المأخوذ نتيجة هذا الترافع حرام- حتى لو كان حقّاً-، لأن الرجوع في ذلك يجب أن يكون إلى الإمام المعصوم (عليه السلام) أو نائبه المنصوب من قبله، الخاص أو العام، الذي هو المجتهد في عصر الغيبة الكبرى؛ ففي مقبولة أبي خديجة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال لي أبو عبدالله: (إِيَّاكُمْ أَنْ يُحَاكِمَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً إِلى أَهْلِ الْجَوْرِ، وَلكِنِ انْظُرُوا إِلىرجُلٍمِنْكُمْيَعْلَمُشَيْئاًمِنْقَضَائِنَا،فَاجْعَلُوهُبَيْنَكُمْ،فَإِنِّيقَدْجَعَلْتُهُقَاضِياً،فَتَحَاكَمُوا إِلَيْهِ)[2].
ففي هذا رفض للظلمة ولحكمهم، وربط بالقادة الحقيقيين والتحاكم إليهم، وهو فصل للأمة عن الطغاة وعدم الاعتراف بهم مطلقا.
إن وجوب الرجوع إلى المجتهد –فيزمنالغيبة - لأخذالأحكامومعرفةمواقفالإسلاموالذييسمىبالتقليد فإنه يجعلوجوب ارتباط الأمة بقيادتها قوياً، ويجعل الأمة مرتبطة بالمنبع الصافي الذي لا شوائب فيه، مهما كان البعد الزماني عن مصادر التشريع، ومهما تمادى الباطل في غيّه، وحاول تحريف الإسلام وتشويه معالمه.
فالأمة لا تأخذ معالم دينها من الحكام المنحرفين وأعوانهم، ولا الباطل قادر للتأثير على القادة المجتهدين الذين ترجع الأمة إليهم، لعمق إيمانهم ولتحذير الأئمة (عليهم السلام) من التعاون، أو الركون إلى الظلمة، أو حتى زيارتهم والوقوف على أبوابهم.
إن علاقة الأمة بالمرجع القائد علاقة حية، علاقة تلقّي وطاعة؛ فإن المجتهد يعتبر نائباً عن الإمام القائد المنتظر (عجل الله فرجه) وممثّلاً له، وامتداداً للأنبياء والأئمة(عليهم السلام) فقد ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله):(علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل) و(العلماء ورثة الأنبياء)[3].
لهذا نجد قادة الأمة ومراجعها العظام في عصر الغيبة بينوا معالم الدين وأصوله، وشرحوا قواعد الإسلام وقرآنه، وحذروا الأمة من الانخداع والسير خلف الطغاة، وكشفوا مخططاتهم.
إذن الارتباط بالقيادة، وأخذ الأحكام منها، والانقياد لها، يعطي حصانة للأمة من الانحراف والتميع، ويأخذ بيدها إلى النصر المؤزر.
4) الخمس:
من الأمور التي تعطي للأمة استقلاليتها في وجودها وقيادتها وتعاملها وتمنع من الذوبان ضمن القيادات المنحرفة الظالمة هو وجود قدر من المال، لسد احتياجاتها وتيسير أمورها بنفسها؛ فالمال له دور مهم في المحافظة على كيان الأمة إذا استعمل في محله، ولهذا فقد أوجب الإسلام إخراج خمس ما زاد على مؤنة سنة، ثم دفعه إلى القيادة الإسلامية، والتي هي بدورها تصرفه في احتياجاتها التي هي رعاية الأمة والحفاظ عليها وعلى الإسلام من أي خطر، سواء كان من الداخل أو الخارج، ويصرف على النشاطات الإسلامية وعلى الدفاع عنها، وعن الإسلام من قبل الأعداء والطغاة والذين يرهبهم وجود الإسلام ومن يؤمن به.
إذن المقدار من المال الذي يعطى إلى القيادة الإسلامية يعطيها حصانة للحفاظ على وجودها واستقلالها، ولو كانت الأمة تعيش في ضمن حكومة ظالمة متجبرة.
ثم هناك تأكيدات من القيادة المعصومة على بعض المسائل التي تساعد في تحصين الأمة؛ مثل وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن المنكر والتقية والجهاد في سبيل الله.
إن هذه الحقائق وغيرها جعلت للأمة استقلالية في ضمن الدولة المنحرفة، وأعطتها حصانة ذاتية.
والرجوع إلى القيادة الإسلامية في عصر الغيبة وأخذ الأحكام الشرعية منها والإذن في التصرف بالمجهول المالك، والرجوع إليها في النزاعات والترافع، وإعطاء حصة من المال تحت تصرفها، والانقياد لها، إلى غير ذلك، يجعل للأمة استقلالية واقعية، تمكّنها من عدم الذوبان والانصهار بمرور الزمن.
ثم التأكيد على هذه الحقائق جعلت حاجزاً نفسياً بين الإنسان المسلم، والحكم المنحرف الغاصب من كل جانب، ومن جانب آخر جعلت صلة بين الأمة وقيادتها، صلة انقياد وطاعة وحيوية وتفاعل؛ لأنها منبع التشريعات الإسلامية التي تستنبط.
المصدر:
- كتاب الأمة وقائدها المنتظر للسيد محمد الحيدري (بتصرف).