اتفقت الروايات من الفريقين أنه بعد استشهاد الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) عمد أصحاب السقيفة إلى الاستيلاء على جميع ما تركه النبي (صلى الله عليه وآله) وما نحله -وهبه- إلى الزهراء (عليها السلام) فقط دون ما أعطاه إلى باقي المسلمين فلم يتعرضوا له وتركوه بأيديهم، كما ذكرنا سابقا.
من خلال موقف الزهراء (عليها السلام) ندرك عظمة أولياء الله، وعظم تضحياتهم، وبالمقابل تتكشف لنا حقيقية الادعاءات والشعارات والمواقف الكريمة من غيرها.
فالزهراء (عليها السلام) جسدت إرادة الخالق تعالى، وكل المفاهيم والمثل الإسلامية، فالمتمعن في موقف الزهراء (عليها السلام) يخرج بأمور عدة منها:
أولاً: إن المطالبة بالحقوق والوقوف بوجه الباطل غير مشروط بالحصول على الهدف، بل لابد من القيام وتحمل المسؤولية، وتسجيل موقف من الانحراف، وتنبيه الغافل أو المتغافل عن خطر الانحراف ومحاولة التصحيح..
وثانياً: أظهرت الزهراء (عليها السلام) مخالفة أصحاب السقيفة لسنة النبي (صلى الله عليه وآله)، إذ روى الفريقان عنه (صلى الله عليه وآله) أنه قال: (فاطمة يرضى الله لرضاها ويغضب لغضبها)، حيث إنه (صلى الله عليه وآله) لم يُجِز الكذب عليها (عليها السلام)، والسّنة النبوية بإجماع المسلمين حجة وحجتها ضرورة من ضروريات الدين، ومن جحدها فقد كذّب بالدين، وأنكر القرآن الكريم، إذ أنا لم نعرف أن القرآن الكريم هو كتاب الله تعالى، إلا من قول النبي (صلى الله عليه وآله)، فإذا لم يكن قوله حجة، فلا أثر للقرآن إذن!! إلا أن الانقلابيين تمردوا على حكم النبي (صلى الله عليه وآله) الذي هو حكم الله عزَّ وجل.
وثالثاً: إن الرد على الزهراء (عليها السلام) ومصادرة حقوق أهل البيت (عليهم السلام) يظهر بوضوح لا لبس فيه مخالفةَ السلطة الغاصبة لبديهيات الإسلام ومفاهيمه، وردها لحكم الله تعالى بتنزيه أهل بيت النبي (عليهم السلام) كما يرويه الفريقان في تفسير قوله تعالى:( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)[1].
ورابعاً: إن خروج الزهراء (عليها السلام) وإلقائها تلك الخطبة العظيمة يصور لنا مدى الخطر الذي داهم الدين الإسلامي وعظم الانحراف الذي حدث في المجتمع الإسلامي بعد رحيل النبي (صلى الله عليه وآله).
لقد تصوّر البعض أنّ قلق الزهراء (عليها السلام) كان مقتصراً على حرمانها من موارد فدك المادّية! وإنه لمنتهى الجفاء بحقّ الزهراء (عليها السلام) أن نفكّر بهذه الطريقة، فجميع أموال العالم لا تساوي قبضة من الرماد في نظر
الزهراء (عليها السلام).
إذن هذا لم يكن أصل الموضوع قطعاً، وإنّ ما كان يحزّ في نفوس أهل بيت الرسول (عليهم السلام) ويؤلمهم هو أنّ تلك التصرّفات كانت سبباً في سحق أحكام الإسلام التي صرّح بها القرآن الكريم، بالضبط كما نسي الناس البيعةَ التي أخذها منهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) حتّى كأنّ شيئاً لم يكن. فقد جاء في الخبر أنّه عندما نزلت الآية الشريفة (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ) أعطى النبيّ (صلى الله عليه وآله) هذا المال لفاطمة (عليها السلام)، لكنّ سلوك القوم بعد ذلك كان بشكل يخالف أمر الرسول الأعظم ونصّ القرآن الكريم. مضافاً إلى ذلك فإنّ قوانين القضاء الإسلاميّ باتت في معرض الزوال شيئاً فشيئاً. فإلى أين ستؤول الأمور إذا استمرّ الوضع على هذا المنوال؟ فإن لم يواجَه هذا النهج الذي ابتدأ الآن فسوف يؤدّي إلى الكفر وحينذاك لن يبقى من الإسلام سوى أثر بعد عين.
إذن فإنّ آل الرسول (عليهم السلام) كانوا قلقين من هذه الأمور تحديداً. فالقضيّة كانت تتلخّص في مواجهة هذا التيّار السياسيّ الحاكم، وإتمام الحجّة على الناس كي يفهموا بأنّ هؤلاء غير مؤهّلين للحكم، وإنّ المنصب الإلهيّ للخلافة لابدّ أن يكون من نصيب المعصوم (عليه السلام). ومن هذا يظهر سر الاهتمام بقضية فدك.
وخامساً: يعتبر موقفها (عليها السلام) شعلة منيرة لدرب الأحرار والمطالبين بالحقوق، ومحرقة لعروش الطغاة والظلمة والغاصبين، فموقفها يُعد ترسيخاً للقيم الإسلامية التي دأب على ترسيخها النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)، ورفضا للباطل وإدانته، مهما كانت ظروف المجتمع.