مما لا شك فيه أن إسبانيا بها الكثير من المعالم السياحية الإسلامية، واليوم نتوقف مع المسجد الجامع في قرطبة، والذي يعد واحداً من أروع ما أنشأ المسلمون من الأعمال المعمارية، ويقع بالقرب من نهر الوادي الكبير، وتحيط به ومن جوانبه الأربعة أزقة ضيقة، وقد استغرق بناء هذا الجامع قرنين ونصفا من الزمان.
واللافت للنظر أن هذا الجامع لا يزال من أهم معالم قرطبة السياحية، وهو الأثر الوحيد الباقي حتى الآن، وهو قمة من قمم الفن المعماري العالمي على مر العصور. وقد خضع هذا المسجد للترميم والتعديل والإضافة ولكن جميع هذه الأعمال سارت في اتجاه واحد هو احترام شخصية المسجد وطرازه. ويمتاز هذا المسجد بزخارف الفسيفساء المذهبة ذات الرسوم الجميلة وشبابيكه الرخامية والمفرغة وعقوده المزدوجة التي يعلو بعضها البعض الآخر. ويأخذ المسجد رقعة فسيحة من الأرض قرب نهر الوادي الكبير، ويشغل مكان الصلاة ثلثي المساحة، والثلث الباقي يشكل الصحن والمسجد مغروساً بأشجار النخيل والليمون.
مكانة كبيرة:
ويحتل مسجد قرطبة ومئذنتاه في تاريخ الهندسة المعمارية الإسلامية، مكانة كبيرة، وهو واحد من أعظم الآثار الإسلامية القائمة إلى يومنا هذا.
تصمیم جامع قرطبة يختصر النمو الذي عرفه على مر قرنين من الزمان، ووحدة تاريخ تطور الفن العربي الإسلامي سواء في مبادئ العمارة أو في "السمات" الزخرفية.
وهذا النمو هو تطور بالمعنى المباشر للكلمة، إذ أن مسجد قرطبة جرى توسيعه أربع مرات حتى بلغ درجة من الضخامة لم يبلغها من قبل.
ويرجع الفضل في بناء جامع قرطبة بالأندلس إلى عبد الرحمن الداخل المعروف باسم "عبد الرحمن الأول"، وقد تم تشييده عام 169هـ، وأخذ شكله نفس تصميم المساجد الأموية التي شيدت في ذلك الوقت، وكان مسجد قرطبة قريب الشبه بالجامع الأموي في دمشق مع بعض الفروق البسيطة.
ويتكون مسجد قرطبة من جناح مرکزي عریض بشكل زاوية قائمة مع جدار القبلة، ويتناقص العرض تدريجياً في الأجنحة، وفي الاتجاه الجانبي ويبلغ عرض المجاز القاطع 7.85 متر، أما عرض الأجنحة التي تحيط بكلا الجانبين فيبلغ 6،86
متر، بينما عرض البهوين الآخرين 5.35متر، ويعتقد خبراء الآثار أن الهدف من هذه الاختلافات هو التخفيف من الرتابة البصرية عندما تنظر من المجاز القاطع في اتجاه الجدران الجانبية.
مآذن بديعة:
وأكثر ما يلفت انتباه السائح عند زيارته المسجد الجامع بقرطبة مئذنته المصنوعة من خشب الساج النفيس والمسماة (بمنارة عبد الرحمن الناصر) وهي من المآذن البديعة التي تحتوي على مسلمين ولها 107 درجات وفي أعلاها ثلاث مظلات: اثنتان من الذهب والثالثة من الفضة، فوقها سوسنة من الذهب يوجد فوقها رمانة ذهبية صغيرة، وقد حول الإسبان هذه المئذنة إلى برج للأجراس الكاتدرائية، ويبلغ طول باب المئذنة النحاسي 8م وارتفاعه 20م وواجهة البناء من الرخام المنقوش بنقوش عربية بديعة.
وفي الزاوية الجنوبية لمسجد قرطبة بالأندلس توجد مئذنة أخرى مربعة الشكل ارتفاعها 93م وهي مكونة من خمسة طوابق في كل طابق عدد من الأجراس وفيه 19 باباً مصنوعة من صفائح النحاس القوي وتقوم قبته على 365 عموداً من المرمر، وعدد قناديله نحو 4700 قندیل وكان للجامع 1293 عموداً من الرخام بقي منها 1093عموداً. وتنطوي التكوينات المعمارية الفنية المسجد قرطبة على قيم ومبادئ متميزة ومنفردة، تعكس بوضوح التطورات التي حصلت في تصاميم المساجد الجامعة الأخرى، والتي شيدت في الأقاليم المختلفة، وتجسد هذه التكوينات في قرطبة نقاء الإرث الثقافي المعماري العربي والإسلامي.
وتعلو المسجد قباب من ضلوع متقاطعة فيما بینها، تتوسطها القبة المخرمة الكبرى وهي قبة الضوء، وتبلغ عدد نوافذها ست عشرة نافذة، يدخل منها الضوء فينير جوانب المسجد، ويفصل المسجد بزخارف الفسيفساء المذهبة ذات الرسوم الجميلة وشبابيكه الرخامية المفرغة، وعدد ثرياته 280 ثرية، منها ثريات المقصورة من الفضة الخالصة، وكان وسط الجامع تنور من نحاس يحمل ألف مصباح، ويخدم الجامع تسعة أبواب مصفحة بالنحاس الأصفر، إلا باب المقصورة فإنه من الذهب.
المصدر: بيوت المتقين (76) شهر رمضان 1441هـ