من الفرق التي ظهرت في الصدر الأول من الإسلام هي (المحكِّمة)، وقد اقترن اسم هذه الفرقة على مدى تاريخها بالتعصب لأفكارهم وأهوائهم على حساب الدين واستغلال ذلك كمبرر للقتل والتنكيل بخصومهم من المسلمين وغير المسلمين، ومواجهة الحكام تحت دعوى تفضيلهم للدنيا على حساب الآخرة.
وقد كانت بدايات ظهور هذه الفرقة في معركة النهروان (38هـ 659م) وفي قضية التحكيم حصرا فسموا بـ (المحكِّمة)، وهم الذين رفضوا التحكيم وحكم عمرو بن العاص وأبو موسى الأشعري، وقالوا: (لا حكم إلا لله).
ظهور المحكِّمة:
لما أحاطت الهزيمة في النهروان بجيش معاوية، نظر عمر بن العاص وكان من دهاة العرب في حال القراء الذين هم في جيش الإمام(عليه السلام)، فأمر أحد قادة جيش معاوية برفع المصاحف على أسنة الرماح درأً للهزيمة المحققة، فطلبوا التحكيم لكتاب الله فأنخدع جمع من الذين كانوا مع جيش الإمام (ونادوا إن الحكم إلا لله) فشعر أمير المؤمنين(عليه السلام) علي بن أبي طالب أن هذه خدعة، لكنه وحين قبل بالتحكيم، فإنه قبل بالتحكيم الذي لو التزم الحكمان بشروطه، وفق ما يفرضه عليهما الواجب الشرعي لكانت نتيجته هي إحقاق الحق، وإبطال الباطل، وذلك يعني ظهور علي (عليه السلام)، وظهور سلطانه ونصره، وخذلان معاوية وخطه الانحرافي واندحاره، وبوار حجته.
فهؤلاء رأوا أن كتاب الله قد (حكم) في أمر هؤلاء (البغاة)، يقصدون (معاوية وأنصاره)، ومن ثم فلا يجوز تحكيم (عمرو بن العاص وأبو موسى الأشعري) فيما حكم فيه الله، صاحوا قائلين: (لا حكم إلا لله)، ومن هنا أطلق عليهم (المحكِّمة)، فما كان من عليٍّ (عليه السلام) إلا أن علق على عبارتهم تلك قائلا: (إنها كلمة حق يراد بها باطل).
ولذلك نجد علياً (عليه السلام) يقول لأبي موسى بثقة وحزم: (أحكم بالقرآن، ولو في حز عنقي، وقال في خطبته لما استوى الصفان بالنهروان: (وأخذتُ على الحكمين فاستوثقت، وأمرتهما أن يحييا ما أحيا القرآن، ويميتا ما أمات القرآن، فخالفا أمري الخ..) ، وهذه الخطبة أشهر من أن تذكر، وهي كالنار على المنار، وكالشمس في رابعة النهار.
وبعد اجتماع عمرو بن العاص وأبو موسى الأشعري نتج عنه تضعيف لشرعية عليّ (عليه السلام)، وتعزيز لموقف معاوية.
ازداد المحكِّمة يقيناً بسلامة موقفهم وطالبوا عليّا بـ:
1- رفض التحكيم ونتائجه والتحلل من شروطها.
2- النهوض لقتال معاوية.
ولكن عليّا رفض ذلك قائلا: (ويحكم.. أبعد الرضا والعهد والميثاق أرجع؟ أبعد أن كتبناه ننقضه؟ إن هذا لا يحل).
وهنا انشق المحكِّمة وخرجوا عن عليّ (عليه السلام)، واختاروا لهم أميراً من الأزد وهو عبد الله بن وهب الراسبي وقُدِّر عددهم بستة آلاف، وفي رواية بثمانية آلاف، وكان هذا بداية ظهورهم كفرقة أطلق عليها (الخوارج).
ووضع الخليفة الشرعي علي بن ابي طالب (عليه السلام) منهجًا قويمًا في التعامل مع هذه الطائفة، تمثّل هذا المنهج في قوله للخوارج: (إلا أن لكم عندي ثلاث خلال ما كنتم معنا: لن نمنعكم مساجد الله، ولا نمنعكم فيئا ما كانت أيديكم مع أيدينا، ولا نقاتلكم حتى تقاتلونا).
وقد ذكروا: أن من شعر أمير المؤمنين (عليه السلام) الذي لا اختلاف فيه أنه قاله، وكان يردده، وذلك أنهم ساموه أن يقر بالكفر ويتوب، حتى يسيروا معه إلى الشام، فقال: (أبعد صحبة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، والتفقه في الدين، أرجع كافراً)، ثم قال:
يا شاهد الله علي فاشهد
إني على دين النبي أحمد
من شك في الله فإني مهتد
وحين رجع (عليه السلام) إلى الكوفة، لم يدخل «الخوارج» معه، وساروا حتى نزلوا حروراء، وكانوا اثني عشر ألفاً، وقيل: ستة عشر ألفاً.
المصدر: مجلة اليقين العدد (47)