بسم الله الرحمن الرحيم
(وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ)
بيّنت الآية التاسعة من سورة المؤمنين صفة من صفات المؤمنين وهي صفة المحافظة على الصلاة فهم يحافظون على أوقات صلاتهم، فلا يضيّعونها ولا يشتغلون عنها حتى تفوتهم، ولكنّهم يراعونها حتى يؤدوها في أوقاتها.
ومما يُلفت النظر أن أول صفة للمؤمنين في هذه السورة كانت هي الخشوع في الصلاة، وآخرها المحافظة عليها، بدأت بالصلاة وانتهت بها، لماذا؟
لأن الصلاة أهم رابطة بين الخالق والمخلوق، وأغنى مدرسة للتربية الإنسانية، وهي وسيلة ليقظة الإنسان، وخير وقاية من الذنوب، وإذا أقيمت على وفق آدابها اللازمة، أصبحت أرضية أمينة لأعمال الخير جميعا.
وجدير بالذكر إن هاتين الآيتين تغير فيهما أسلوب التعبير، فالآية الأولى تحدثت عن الصلاة بصورة مفردة، والأخيرة بصورة جماعية، الأولى تضمنت الخشوع والتوجه الباطني إلى الله، هذا الخشوع الذي يعتبر جوهر الصلاة، لأن له تأثيرا في جميع أعضاء جسم الإنسان، والآية الأخيرة أشارت إلى آداب وشروط صحة الصلاة من حيث الزمان والمكان والعدد، فأوضحت للمؤمنين الحقيقيين ضرورة مراعاة هذه الآداب والشروط في صلاتهم.
والمتتبع للروايات المنقولة عن النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة الطاهرين (عليهم السلام) يلاحظ تعبيرات متعددة تكشف عن الأهمية الكبرى للصلاة في نظر الإسلام.
يقول أبو عثمان: كُنتُ مَعَ سَلمانَ تَحتَ شَجَرَة فَأَخَذَ مِنها غُصنًا يابِسًا فَهَزَّهُ حَتّى تَحاتَّ وَرَقُهُ، قالَ: أما تَسأَلُني لِمَ أفعَلُ هذا؟ قُلتُ لَهُ: لِمَ فَعَلتَهُ؟
قالَ: هكَذا فَعَلَ بي رَسولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) ثُمَّ قالَ: (إنَّ المُسلِمَ إذا تَوَضَّأَ فَأَحسَنَ الوُضوءَ وصَلَّى الخَمسَ تَحاتَّت ذُنوبُهُ كما تَحاتَّ هذَا الوَرَقُ، ثُمَّ قالَ: (وأقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وزُلَفًا مِنَ اللَّيلِ... ذلِكَ ذِكرى لِلذّاكِرينَ)[1].
كما نقل عن علي (عليه السلام) أنه قال: (كنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) ننتظر الصلاة فقام رجل وقال: يا رسول الله، أذنبت، فأعرض النبي (صلى الله عليه وآله) بوجهه عنه، فلما انتهت الصلاة قام ذلك الرجل وأعاد كلامه ثانية، فقال النبي (صلى الله عليه وآله): ألم تصل معنا وأحسنت لها الوضوء؟ فقال بلى، فقال: هذه كفارة ذنبك)[2].
ونقل عن علي (عليه السلام) أيضاً أنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (إنما منزلة الصلوات الخمس لأمتي كنهر جار على باب أحدكم، فما ظن أحدكم لو كان في جسده دَرَن، ثم اغتسل في ذلك النهر خمس مرات في اليوم أكان يبقى في جسده دَرَن؟! فكذلك والله الصلوات الخمس لأمتي)[3].
وعنه (صلى الله عليه وآله): ما مِن صَلاة يَحضُرُ وَقتُها إلاّ نادى مَلَكٌ بَينَ يَدَيِ اللهِ: أيُّهَا النّاسُ، قوموا إلى نيرانِكُمُ الَّتي أوقَدتُموها عَلى ظُهورِكُم فَأَطفِئوها بِصَلاتِكُم[4].
وعلى كل حال، لا مجال للشك في أنه متى ما أُدِيَت الصلاة بشرائطها فإنها تنقل الإنسان إلى عالمٍ من المعنوية والروحانية بحيث توثّق علائقه الإيمانية بالله، وتغسل عن قلبه وروحه الأدران وآثار الذنوب، الصلاة تجير الإنسان من الذنب، تجلو صدأ القلوب، الصلاة تُجذّر الملكات السامية للإنسان في أعماق الروح البشرية، والصلاة تقوّي الإرادة وتطهّر القلب والروح، وبهذا الترتيب فإن الصلاة الواعية الفاعلة هي مذهب تربوي عظيم.
إن توقيت الصلاة اليومية عملية رائعة يتذكر الناس من خلالها بصورة أكيدة ودائمة وعلى أحسن وجه صلتهم بربهم على مدار اليوم من الفجر إلى العشاء، فالإنسان يحتاج في حياته في هذا العالم - وبسبب تعاطيه للجوانب المادية المؤدية إلى الغفلة ـ إلى عمل يذكِّره بالله والقيامة ودعوة الأنبياء وهدف الخلق في فترات زمنية مختلفة، كي يحفظه من الغرق في دوّامة الغفلة والجهل، وتقوم الصلاة بهذه الوظيفة المهمة.
فالإنسان يستيقظ في الصباح من النوم.. ذلك النوم الذي عزله عن كل موجودات العالم، ويريد أن يبدأ نشاطه الحياتي، فقبل كل شيء يتوجه إلى الصلاة، ويصفّي قلبه وروحه بذكر الله، ويستمد منه القوة والمدد، ويستعد للجد والسعي الممتزج بالصدق والمودة.
وعندما يغرق في زحمة الأعمال اليومية، وتمضي عدة ساعات وقد نسي ذكر الله، وفجأة يحين الظهر، ويسمع صوت المؤذن: الله أكبر! حي على الصلاة! فيتوجه إلى الصلاة ويقف بين يدي ربه ويناجيه، وإذا كان غبار الغفلة قد استقر على قلبه فإنه يغسله بهذه الصلاة، ومن هنا يقول الله سبحانه لموسى في أول الأوامر في بداية الوحي: (وَأَقِمْ الصَّلاةَ لِذِكْرِي).
ومما يجلب الانتباه أن هذه الآية تقول: وأقم الصلاة لذكري، أما الآية (28) من سورة الرعد فتقول: (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)، والآيات (27-30) من سورة الفجر تقول: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي)، وإذا جعلنا هذه الآيات الثلاثة جنباً إلى جنب فسنفهم جيداً أن الصلاة تذكر الإنسان بالله، وذكر الله يجعل نفسه مطمئنة، ونفسه المطمئنة ستوصله إلى مقام العباد المخلصين والجنة الخالدة.
وينبغي الالتفات إلى أمر مهم، وهو أن أداء الصلاة في أوقات معينة ليس معناه أن ينسى الإنسان ذكر الله في الأوقات الأخرى، فالصلاة أمر انضباطي يحيى ويجدد روح التوجه إلى الله لدى الفرد، فيستطيع في أوقات أخرى غير وقت الصلاة أن يحتفظ بذكر الله في ذهنه.
وقد يقول البعض: إننا لا ننكر فلسفة وأهمية الصلاة وآثارها التربوية، ولكن لماذا لابد من إقامتها في أوقات محددة، بل الأحسن أن يترك الناس أحراراً لكي يؤدي كل منهم الصلاة متى ما سنحت له الفرصة أو متى ما وجد استعدادا روحيا لأداء هذه الفريضة؟
فنقول له: إن النفس إذا لم تتروض بالنظام والقانون الصارم لم يصلح شأنها ولم يتحقق الهدف من التربية الإسلامية لها، فالإسلام جاء لترويض النفس وضبطها بالفضائل ومكارم الأخلاق ـ إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق -، وهذا الأمر لا يحصل من دون انضباط النفس ببرنامج صارم لا يعتريه التسويف والمماطلة ولا يؤتي أكله إلا بذلك، فإن التجربة قد أثبتت أن القضايا التربوية لو لم تخضع لشروط وقيود معينة، فإن العديد من الناس سيتجاهلونها ويتركونها، وسيؤدي هذا التجاهل إلى أن تتزلزل أركانها، لذلك فإن القضايا التربوية يجب أن تخضع لقيود خاصة ويخصّص لأدائها أوقات محددة، وأن لا يسمح لأحد بتخطي هذه القيود أو تجاهل تلك الأوقات، خاصة وأن أداء فريضة كالصلاة وفي وقت معين وبصورة جماعية يظهر عظمتها وهيبتها وتأثيرها القوي الذي لا يمكن لأحد نكرانه، والصلاة في الحقيقة من أهم العوامل في تربية الإنسان وتكوين شخصيته الإنسانية.
ذكر الأعلام أن لدخول الوقت أسراراً فينبغي الالتفات إليها فقال بعض علمائنا (رحمهم الله جميعا): استحضر عند دخول الوقت أنّه ميقات جعله الله تعالى لك لتقوم فيه بخدمته، وتتأهّل للمثول في حضرته والفوز بطاعته، وليظهر على قلبك السرور وعلى وجهك البهجة عند دخوله لكونه سببا لقربك ووسيلة إلى فوزك، فاستعدّ له بالطهارة والنظافة ولبس الثياب الصالحة للمناجاة كما تتأهّب عند القدوم على ملك من ملوك الدنيا، وتلقّاه بالوقار والسكينة والخوف والرجاء، قال: واستحضر عظمة الله وجلاله ونقصان قدرك وكماله، وقد روي عن بعض أزواج النبيّ (صلى الله عليه وآله) قالت: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يحدّثنا ونحدّثه، فإذا حضرت الصلاة فكأنه لم يعرفنا ولم نعرفه[5]، وكان عليّ (عليه السلام) إذا حضر وقت الصلاة يتململ ويتزلزل فيقال له: مالك يا أمير المؤمنين؟ فيقول: (جاء وقت أمانة عَرَضها الله على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها)[6]، وكان عليّ بن الحسين (عليهما السلام) إذا توضأ اصفرّ لونه... إلى غيرها من حالات الأئمة (عليهم السلام).
المحافظة على أداء الصلاة في وقتها أمر ميسور في أصله وليس فيه مشقة، فإذا أذّن المؤذن فاترك ما أنت فيه من شغل الدنيا، واستعد للشغل الذي خُلقت له فتوضأ وصلِّ، ومن الأمور التي تعينك على المحافظة على الصلاة:
1- أن تعلم بأن أعظم الأعمال بعد الإيمان بالله هو الصلاة، وإنها هي سبب فلاحك ونجاحك في الدنيا والآخرة، فإن حافظت عليها كان لك عند الله عهد بالنجاة في الدنيا والآخرة، وإن ضيعتها فأنت أشدّ تضييعاً لما سواها من الأعمال.
2- معرفة العقوبة الشرعية في الآخرة وفي القبر عند الموت لمن فرّط في المحافظة على الصلاة، وقد ثبت عن النبي (صلى الله عليه وآله) أن العبد الذي ينام عن الصلاة ويفرّط في بعض صلواته بسبب النوم عمداً، أن عقوبته في القبر أن الله يسلّط عليه ملكاً يضربه بحجر على رأسه حتى يهشم رأسه، وأنه يكرر ذلك ويفعل ذلك به عقوبة وجزاء في ظلمة قبره، وأما في الآخرة فإنّ أول ما يُسأل عنه في يوم القيامة هو الصلاة، فإن قُبلت قُبل ما سِواها وإن رُدت رُدَّ ما سواها.
3- المبادرة إلى أداء الصلاة في أول وقتها، بحيث أنك بمجرد سماع الأذان تبادر إلى الوضوء والصلاة حتى تقطع حبائل الشيطان، بحيث لا يشغلك عن أدائها في وقتها، والأفضل أداؤها في المسجد مع الجماعة، فإن تأخير الصلاة يؤدي إلى ثقلها أكثر.
4- الاهتمام بأن يكون لك رفقاء صالحين محافظين على صلاتهم، والابتعاد عن الرفقاء الذين لا يُصلّون، أو يشتغلون بأمور منكرة لا ترضي الله تعالى.
5- اتخاذ الأسباب المعِينة على أداء الصلاة، كتهيئة ما يؤدي إلى الاستيقاظ من النوم لأداء صلاة الفجر مثلا، وعدم السهر كثيرا بحيث يتيقن أو يطمئن بتفويتها.
6- الإلحاح في الدعاء والطلب من الله تعالى للتوفيق لأداء الصلاة بشروطها والمحافظة عليها، فقد كان من دعاء إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام: (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ)[7]، وقد كان النبي (صلى الله عليه وآله) يقول عقيب الصلاة: (اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)[8].
مجلة بيوت المتقين العدد (8)