قال تعالى: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهِ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهِ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)[1].
سبب النزول:
قيل في سبب نزول الآية الثانية أن رسول الله(صلى الله عليه وآله) قال: «من تصدق بصدقة فله مثلاها في الجنة»، فقال أبو الدحداح الأنصاري واسمه عمرو بن الدحداح: يا رسول الله إن لي حديقتين إن تصدقت بإحديهما، فإن لي مثليها في الجنة؟ قال: نعم، قال: وأم الدحداح معي؟ قال: نعم، قال: الصِّبْيَة معي؟ قال: نعم، فتصدق بأفضل حديقته فدفعها إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله)، فنزلت الآية فضاعف الله صدقته ألفي ألف، وذلك قوله تعالى: (أَضْعَافًا كَثِيرَةً).
قال: فرجع أبو الدحداح، فوجد أم الدحداح والصِّبْيَة في الحديقة التي جعلها صدقته، فقام على باب الحديقة وتحرّج أن يدخلها، فنادى يا أم الدحداح، فقالت: لبيك يا أبا الدحداح، قال: إني قد جعلت حديقتي هذه صدقة واشتريت مثليها في الجنة وأم الدحداح معي والصِّبْيَة معي، قالت: بارك الله لك فيما شريت وفيما اشتريت فخرجوا منها، واسلموا الحديقة إلى النبي(صلى الله عليه وآله)، فقال: النبي(صلى الله عليه وآله): «كم من نخلٍ متدلٍّ عذوقها لأبي الدحداح في الجنة»[2].
الجهاد بالنفس والمال:
هذه الآيات تشرع في حديثها عن الجهاد وتعقّب بذكر قصة في هذا الصدد عن الأقوام السالفة، مع الالتفات إلى الأحداث التي مرت على جماعة من بني إسرائيل الذين تهرّبوا من الجهاد بحجة الإصابة بمرض الطاعون وأخيرا ماتوا بهذا المرض، يتضح الارتباط بين هذه الآيات والآيات السابقة.
في البداية تقول الآية: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) يسمع أحاديثكم، ويعلم نياتكم ودوافعكم النفسية في الجهاد.
ثم يضيف القرآن في الآية التالية: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً)، أي ينفق من الأموال التي رزقه الله تعالى إياه في طريق الجهاد وحماية المستضعفين والمعوزين.
فعلى هذا يكون إقراض الله تعالى بمعنى (الإنفاق في سبيل الله)، وكما ذكر بعض المفسرين أنها تعني المصارف التي ينفقها الإنسان في طريق الجهاد؛ لأن تأمين احتياجات الجهاد في ذلك الوقت كان في عهدة المسلمين المجاهدين، في حين أن البعض يرى بأن الآية تشمل كل أنواع الإنفاق[3].
ولكن التفسير الثاني أقرب وأكثر انسجاما مع ظاهر الآية، وخاصة أنه شامل للمعنى الأول أيضا، وأساسا فإن الإنفاق في سبيل الله ومساعدة الفقراء والمساكين وحماية المحرومين يعطي ثمرة الجهاد أيضا، لأن كلّا ًمنها يبعث على استقلال المجتمع الإسلامي وعزته.
(أضعاف) جمع (ضِعْف) على وزن (عِلْم)، والضعف هو أن تضيف إلى المقدار مثله أو أمثاله، وقد ورد هنا الجمع مؤكدا بالكثرة (كثيرة) كما أن كلمة (يضاعف) فيها تأكيد على هذا المعنى أكثر من كلمة (يُضعّف) (قال الراغب في المفردات، في مادة (ضعف): قال البعض: ضاعفتُ أبلغ من ضَعَّفته)، وكل ذلك يدل على أن الله تعالى يعطي كل من ينفق في سبيله الكثير الكثير كالبذرة التي تُبذر في أرض صالحة وتُسقى فينمّيها ويعيدها إلى صاحبها أضعافا كثيرة.
وفي ختام الآية يقول: (وَالله يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)، تشير الآية إلى أنه لا تتصوروا أن الإنفاق والبذل سوف يؤدي إلى قلة أموالكم، لأن سعة وضيق أرزاقكم بيد الله فهو القادر على أن يعوض ما أنفقتموه أضعافا مضاعفا، بملاحظة الارتباط الوثيق لأفراد المجتمع، فإن نفس تلك الأموال التي أنفقتموها سوف تعود إليكم في الواقع.
هذا من البعد الدنيوي، وأما البعد الأخروي للإنفاق فلا تنسوا أن جميع المخلوقات سوف تعود إلى الله عز وجل، وسوف يُثيبكم حينذاك ويُجزل لكم العطاء.
لماذا ورد التعبير بالقرض؟
لقد ورد التعبير بالقرض في مورد الإنفاق في عدة آيات قرآنية، وهذا من جهة يحكي عظيم لطف الله بالنسبة لعباده، وأهمية مسائلة الإنفاق من جهة أخرى، فالبرغم من أن المالك الحقيقي لجميع عالم الوجود هو الله تعالى، وأن الناس يمثّلون وكلاء عن الله في التصرف في جزء صغير من هذا العالم كما ورد في الآية (7) من سورة الحديد: (آَمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ).
ولكن مع ذلك يعود سبحانه إلى العبد ليستقرض منه وأيضا استقراض بربح وفير جدا، فانظر إلى كرم الله ولطفه).
يقول الإمام علي(عليه السلام) في نهج البلاغة:
«واسْتَقْرَضَكُمْ ولَه خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ، وهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ، وإِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يَبْلُوَكُمْ: (أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)[4]»[5].
ثواب الانفاق في سبيل الله:
عَنْ أَبِي عَبْدِ الله الصادق(عليه السلام) قَالَ: «قَالَ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله): الأَيْدِي ثَلَاثَةٌ سَائِلَةٌ ومُنْفِقَةٌ ومُمْسِكَةٌ، وخَيْرُ الأَيْدِي الْمُنْفِقَةُ»[6].
وعَنْ أَبِي عَبْدِ الله(عليه السلام) قَالَ: «قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ صَلَوَاتُ الله عَلَيْه فِي كَلَامٍ لَه: ومَنْ يَبْسُطْ يَدَه بِالْمَعْرُوفِ إِذَا وَجَدَه يُخْلِفِ الله لَه مَا أَنْفَقَ فِي دُنْيَاه ويُضَاعِفْ لَه فِي آخِرَتِه»[7].
وعَنْ أَبِي عَبْدِ الله(عليه السلام) فِي قَوْلِ الله عَزَّ وجَلَّ: (كَذلِكَ يُرِيهِمُ الله أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ) (البقرة: 162) قَالَ: «هُوَ الرَّجُلُ يَدَعُ مَالَه لَا يُنْفِقُه فِي طَاعَةِ الله بُخْلاً، ثُمَّ يَمُوتُ فَيَدَعُه لِمَنْ يَعْمَلُ فِيه بِطَاعَةِ الله أَوْ فِي مَعْصِيَةِ الله، فَإِنْ عَمِلَ بِه فِي طَاعَةِ الله رَآه فِي مِيزَانِ غَيْرِه فَرَآه حَسْرَةً وقَدْ كَانَ الْمَالُ لَه، وإِنْ كَانَ عَمِلَ بِه فِي مَعْصِيَةِ الله قَوَّاه بِذَلِكَ الْمَالِ حَتَّى عَمِلَ بِه فِي مَعْصِيَةِ الله عَزَّ وجَلَّ»[8].
مجلة بيوت المتقين العدد (72)