صفات المؤمنين في سورة المؤمنين

فضيلة سورة المؤمنون:

ذكرت أحاديث مروية عن الرسول (صلى الله عليه وآله) وأئمة أهل البيت (عليهم السلام) فضائل لهذه السورة، فعن النبي (صلى الله عليه وآله): ((من قرأ سورة المؤمنين، بشرته الملائكة يوم القيامة بالروح والريحان وما تقر به عينه عند نزول ملك الموت))[1].

وروي عن الإمام الصادق (عليه السلام): ((من قرأ سورة المؤمنين ختم الله له بالسعادة إذا كان يدمن قراءتها في كل جمعة، وكان منزله في الفردوس الأعلى مع النبيين والمرسلين))[2].

ونؤكد أن فضيلة السورة، ليست فقط في تلاوتها، وإنما يجب أن يرافق ذلك التمعن في معانيها والعمل بما أوجبته، لأن هذا الكتاب يبني الذات الإنسانية ويربيها، فهو برنامج عملي لتكامل الإنسان، ولو طابق المرء برنامجه العملي مع محتوى هذه السورة - حتى إن طابق مع آياتها الأولى التي تبين صفات المؤمنين - لنال النصيب الأوفر من لدن العلي القدير.

لهذا ذكر في رواية عن الرسول (صلى الله عليه وآله) أنه قال حين نزلت الآيات الأولى من هذه السورة: ((لقد أنزل إلي عشر آيات من أقامهن دخل الجنة))[3].

عبارة ((أقام)) التي ذكرت مكان ((قرء)) تعبر عن الحقيقة التي ذكرناها أعلاه، فالهدف تطبيق ما تضمنته هذه الآيات وليس تلاوتها فقط.

مضمون سورة المؤمنين:

القسم المهم من هذه السورة - كما يبدو من اختيار اسم المؤمنين لها - شرحت بعبارات وجيزة معبرة صفات المؤمنين، .... فهو يبدأ بالآية (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) وينتهي بعدد من الآيات التي تذكر صفات هي مدعاة لفلاح المؤمنين، وهذه الصفات دقيقة وشاملة تغطي جوانب الحياة المختلفة للفرد والمجتمع، ثم تناولت السورة العقيدة والعمل بها، وهي تتمة لتلك الصفات، فقد جاء في بداية السورة المباركة: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ هُمْ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)

ومما يلفت النظر أنها أشارت إلى مستقبل المؤمنين السعيد قبل بيان صفاتهم، استثارة للشوق في قلوب المسلمين للوصول إلى هذا الفخر العظيم باكتساب صفة المؤمنين.

 تقول الآية: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ).

كلمة ((أفلح)) مشتقة من الفلح والفلاح، وتعني في الأصل الحرث والشق، ثم أطلقت على أي نوع من النصر والوصول إلى الهدف والسعادة بشكل عام، والحقيقة أن المنتصرين يزيلون من طريقهم كل الموانع والحواجز لينالوا الفلاح والسعادة، ويشقون طريقهم لتحقيق أهدافهم في الحياة، ولكلمة الفلاح معنى واسع يضم الفلاح المادي والمعنوي، ويكون كلاهما للمؤمنين، فالفلاح الدنيوي أن يحيا الإنسان حرا مرفوع الرأس عزيز النفس غير محتاج، ولا يمكن تحقيق كل ذلك إلا في ظلال الإيمان والتمسك بالله وبرحمته، أما فلاح الآخرة فهو الحياة في نعيم خالد إلى جانب إخوة مؤمنين طاهرين، حياة العز والرفعة.

 ويخلص الراغب الأصفهاني خلال شرحه هذه المفردة بأن الفلاح الدنيوي في ثلاثة أشياء: البقاء والغنى والعز، وأما الفلاح الأخروي ففي أربعة أشياء: بقاء بلا فناء، وغناء بلا فقر، وعز بلا ذل، وعلم بلا جهل.

ثم تشرح الآيات هذه الصفات فتؤكد قبل كل شيء على الصلاة فتقول: (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ)

قوله تعالى: (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ):

((خاشعون)) مشتقة من خشوع، بمعنى التواضع وحالة التأدب يتخذها الإنسان جسما وروحا بين يدي شخصية كبيرة، أو حقيقة مهمة تظهر في الإنسان وتبدو علاماتها على ظاهر جسمه. والقرآن اعتبر الخشوع صفة المؤمنين، وليس إقامة الصلاة، إشارة منه إلى أن الصلاة ليست مجرد ألفاظ وحركات لا روح فيها ولا معنى، وإنما تظهر في المؤمن حين إقامة الصلاة حالة توجّه إلى الله تفصله عن الغير وتلحقه بالخالق، ويغوص في ارتباط مع الله، ويدعوه بتضرع في حالة تسود جسمه كله، فيرى نفسه ذرة إزاء الوجود المطلق لذات الله، وقطرة في محيط لا نهاية له. لحظات هذه الصلاة درسا للمؤمن في بناء ذاته وتربيتها، ووسيلة لتهذيب نفسه وسمو روحه. وقد جاء في حديث عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) حين شاهد رجلا يلهو بلحيته وهو يصلي قوله: ((أما لو خشع قلبه لخشعت جوارحه))[4].إشارة منه (صلى الله عليه وآله) إلى أن الخشوع الباطني يؤثر في ظاهر الإنسان. وكان كبار قادة المسلمين يؤدون صلاتهم بخشوع حتى تحسبهم في عالم آخر، يذوبون في الله، حيث نقرأ عنهم في حديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): ((إنه كان يرفع بصره إلى السماء في صلاته، فلما نزلت الآية طأطأ رأسه ورمى ببصره إلى الأرض))[5]

الخشوع روح الصلاة:

إذا اعتبر الركوع والسجود والقراءة والتسبيح جسم الصلاة، فالتوجه الباطني إلى حقيقة الصلاة، وإلى من يناجيه المصلي، هو روح الصلاة، والخشوع ما هو إلا توجه باطني مع تواضع، وعلى هذا يتبين أن المؤمنين لا ينظرون إلى الصلاة كجسم بلا روح، بل إن جميع توجههم إلى حقيقة الصلاة وباطنها، وهناك عدد كبير من الناس يود بشوق بالغ أن يكون خاشعا في صلاته، إلا أنه لا يتمكن من تحقيق ذلك.

ولتحقيق الخشوع والتوجه التام إلى الله في الصلاة وفي سائر العبادات، نوصي بما يلي:

1 - نيل معرفة تجعل الدنيا في عين المرء صغيرة تافهة، وتجعل الله كبيرا عظيما، حتى لا تشغله الدنيا بما فيها عن الذوبان في الله عند مناجاته وعبادته.

2 - الاهتمام بالأمور المختلفة يمنع الإنسان من تركيز أفكاره وحواسه، وكلما تمكن الإنسان من التخلص من مشاغله حصل على توجه إلى الله في العبادة.

3 - اختيار مكان الصلاة وسائر العبادات له أثر كبير في هذه المسألة، لهذا فإن الصلاة مع انشغال البال بغيرها تعد مكروهة، وكذلك في موضع مرور الناس أو امام المرآة والصورة، ولهذا الأسباب تكون المساجد الإسلامية أفضل إن كانت أبسط بناء وأقل زخرفة وأبّهة، ليكون التوجه كله لله فاطر السماوات والأرض.

4 - اجتناب المعاصي عامل مؤثر في التوجه إلى الله، لأن المعصية والذنب تبعد الشقة بين قلب المسلم وخالقه.

5 - معرفة معنى الصلاة وفلسفة حركاتها والذكر عامل مؤثر كبير على ذلك.

6 - ويساعد على ذلك أداء المستحبات، سواء كانت قبل الدخول في الصلاة أو في اثنائها.

7 - وعلى كل حال فإن هذا العمل هو كبقية الأعمال الأخرى يحتاج إلى تمرين متواصل، ويحدث كثيرا أن يحصل الإنسان على قدرة التركيز الفكري في لحظة من لحظات الصلاة، وبمواصلة هذا العمل ومتابعته يحصل على قدرة ذاتية يمكنه بها إغلاق أبواب فكره في أثناء الصلاة إلا على خالقه (فتأملوا جيداً).

مجلة بيوت المتقين العدد (1-2)

 


[1] تفسير مجمع البيان، المجلد السابع، صفحة 98.

[2] روح المعاني، المجلد الثامن عشر، صفحة 2.

[3] روح المعاني، المجلد الثامن عشر، صفحة 2.

[4]  تفسير الصافي، وتفسير مجمع البيان، في تفسير الآية موضع البحث.

[5]  تفسير مجمع البيان، وتفسير الفخر الرازي، للآية موضع البحث.