النسب والحسب:
قيس بن سعد بن عُبادة بن دُليم... بن يعرب بن قحطان. الرجل الوفيّ الموالي، والشخصيّة الدينيّة الاجتماعيّة الأدبيّة البارزة، قضى عمراً مديداً في رحاب صحبة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ومن بعده كان تحت ظِلال إمامة أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، وثبت مقاتلاً صنديداً وقائداً شجاعاً مخلصاً في صفوف جيش الإمام الحسن(عليه السلام). أصله من اليمن، ومنشأه في بيت عزّ وشرف، فأبوه سعد بن عُبادة الأنصاريّ زعيم الخزرج. وقد كانت لقيس ولأبيه سعد مواقف ولائيّة مشرّفة، ولثباته وحسن بصيرته، ولاّه الإمام علي(عليه السلام) على مصر، وفيه قوله (عليه السلام): (وقد بعثتُ لكم قيس بن سعد الأنصاريّ أميراً، فوازروه وأعينوه على الحق، وقد أمرته بالإحسان إلى محسنكم، والشدة على مريبكم، والرفق بعوامكم وخواصكم، وهو ممن أرضى هديه، وأرجو صلاحه ونصحه. نسأل الله لنا ولكم عملاً زاكياً، وثواباً جزيلاً ورحمة واسعة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.)[1].
المولد والسِّمات:
لم تذكر المصادر التاريخيّة تاريخاً محدّداً لولادة قيس الأنصاريّ، إلاّ أنّ قرائن عديدة من خلال الأحداث تخمّن أنّ عمره عند هجرة النبيّ(صلى الله عليه وآله) كان ستّة عشر عاماً، وقد قُدّر أن تكون ولادته وقعت بين(10 ـ 15) قبل الهجرة النبويّة المباركة، أو ما يقارب ذلك.
أمّا خصال هذا الرجل فهي جملة من العطاءات الرحمانيّة، تحكي عن مواهب عديدة فاخرة، فُوصِفَ أنّه كان شيخاً كريماً شجاعاً، وكان مجرّباً، وأهمّ من ذلك كلّه كان وفيّاً مناصحاً لأهل البيت (عليهم السلام).
الولاء الصادق:
ذاك شأن مشهور في شخصيّة قيس بن سعد، فهو من الطليعة المؤمنة ومن أصحاب أمير المؤمنين(عليه السلام) بعد الأركان المعروفين: سلمان وأبي ذرّ والمقداد وعمّار(رضي الله عنه).
ويكفينا دليلاً على ذلك مواقفه الواضحة المشرّفة مع النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله)
في حروبه وغزواته، ومع الإمام علي(عليه السلام) في خلافته وحروبه الثلاث، ومع الإمام المجتبى(عليه السلام) في حروبه وصلحه.
وفوق ذلك كلّه ما قرّره أمير المؤمنين(عليه السلام) نفسه في قيس بن سعد بن عبادة، فحين قيل له: اعزِلْ قيسَ بن سعد عن مصر، قال(عليه السلام) لهم: (إنّي واللهِ ما أُصدّق بهذا على قيس..)[2]. وبعد وقعة صفين أثنى الإمام علي(عليه السلام) على قيس ثناءً حسَناً وجازاه، قال نصر بن مزاحم: (..ثمّ إنّ عليّاً (عليه السلام) دعاه فأثنى عليه خيراً وسوّده على الأنصار)[3].
أمّا الإمام الحسن(عليه السلام) فقد شكر له موقفه المؤيّد المنقاد، وقد قام قيس يؤنّب الناس ويلومهم على خذلانهم لإمامهم، فقال الإمام (عليه السلام) له ولبقيّة أصحابه المخلصين: عَدِيّ بن حاتم الطائيّ، ومعقل بن قيس الرياحيّ، وزياد بن صَعْصَعة التَّيميّ: (صدقتم - رحمكم الله -، ما زلتُ أعرفكم بصِدق النيّة، والوفاءِ بالقول والمودّة الصحيحة، فجزاكم الله خيراً)[4].
وفضلاً عن الولاء الصادق، عُرف قيس بن سعد ببراءته من أعداء النبيّ وآله (صلى الله عليه وآله).
ينقل الزمخشريّ لنا هذا الموقف:
دعا معاويةُ قيسَ بن سعد بن عبادة إلى مُفارقة علي (عليه السلام) حين تفرّق عنه الناس، فكتب قيس إلى معاوية: (يا وثنُ ابنَ وثن، تدعوني إلى مفارقة علي بن أبي طالب والدخول في طاعتك، وتخوّفني بتفرّق أصحابه عنه وانثيال الناس عليك واجفالهم إليك، فواللهِ الذي لا إله غيره، لا سالمتُك أبداً وأنت حربُه ولا دخلت في طاعتك وأنت عدوّه، ولا اخترتُ عدوَّ الله على وليّه، ولا حزبَ الشيطان على حزبه والسلام)[5].
ويروى أنّه: بعد محاججة طويلة جرت بين قيس ومعاوية، وقعت بعد استتاب الأمر لمعاوية، قال قيس في جملتها: ولَعمري، ما لأحدٍ من الأنصار ولا لقريشٍ، ولا لأحد من العرب والعجم في الخلافة حقّ مع علي (عليه السلام) وولْده من بعده. فغضب معاوية وقال: يا ابن سعد، عمّن أخذت هذا وعمّن رويتَه، وعمّن سمعتَه؟ أبوك أخبرك بذلك وعنه أخذته؟ فقال قيس: سمعته وأخذته ممّن هو خير من أبي، وأعظم علَيّ حقّاً من أبي، قال: من؟ قال: علي بن أبي طالب (عليه السلام) عالم هذه الاُمّة وصدّيقها، الذي أنزل الله فيه: (قُلْ كَفَى بِالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ)[6].. فلم يدَع آيةً نزلت في علي (عليه السلام) إلاّ ذكرها[7].
ملكاته الأدبيّة والفكريّة:
وهي كهمّته وبصيرته أثمرت عن مواقف إيمانيّة ولائيّة عالية، ولوحات هي من روائع الأدب مقرونة بالمواقف الصادقة الراسخة، فكانت خُطبه صواعق تنقضّ على رؤوس الجبابرة والطواغيت، وكانت قصائده تدفع رؤوس النفاق والرِّدة والخذلان.
وكم أفرغ قيس بن سعد عن قلبه جمراتٍ تحكي لنا غيرته على الرسالة الإلهية والإمامة المظلومة، فنهض يُرغم أنوف الناكثين والقاسطين، ويرفع شعار نصرة البيت النبويّ الشريف، وكم كانت له احتجاجات واعية صبّها في قوالب مسجّعة، أو صيغ موزونة مقفّاة.
وكان له في كلّ مشهد كلمة وموقف، يعبّر بهما عن إيمانه وتقواه، ويذكّر بأمر الله تعالى وحُكمه الشرعيّ، ويعلن بأدبه الملتزم أنّ الحقّ هنا وأنّ الباطل هناك، وأن هذا هو وليّ الله وذاك عدوّه، فكانت لقيس بن سعد أشعاره وخطبه في كل مناسبة، شهدت بذلك الساحة الإسلامية، وكانت له أغراضه الهادفة وبياناته الرساليّة. وقد صدع فيما صدع به قيس للولاية، فهو يهتف بغدير خمّ قائلاً:
وعـلـيٌّ إمـامُـنا وإمـــامٌ لِسـوانا أتـى بـه التــنزيلُ
يوم قال النبيّ مَن كنتُ مَو لاهُ، فهذا مولاهُ، خَطْب جـليلُ
إنّ ما قاله النبيّ عـلى الأُمّةِ حَـتمٌ.. مـا فيـه قـالٌ وقــيلُ[8]
وفاته:
وإذا كان قيس بن سعد قد حُرم الشهادة بالسيف، فما حُرم(رضي الله عنه) الشهادة بالوفاة وهو على حبّه الصادق الثابت لمحمّد وآل محمّد(صلى الله عليه وآله). فبعد أن استُشهد الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام)، والإمام الحسن المجتبى(عليه السلام)، وتفرّق الأصحاب وخذل المسلمون واستتبّت الأمور لمعاوية، كانت الفرصة سانحة للانتقام من قيس بن سعد؛ لِما أبلى من بلاءٍ حسَن في نصرة الإسلام والنبوّة والإمامة. وكان معاوية قد توعّده وهدّده مراراً حين وصلته قصيدته اللاّميّة في صفّين، وهدر دمه حتّى مع الصلح، فتحيّن الأمويّون المبادرة لاغتياله، وسعى مروان بن الحكم محاولاً الغدر به في المدينة، فكان قيس يذهب مرّة إلى مصر، ومرّة يمكث في المدينة، وأخرى يتركها إلى الكوفة. وأخيراً استقرّ به الرأي إلى أن يسكن في تفليس هارباً من ملاحقة معاوية له ومحاولته قتله بكلّ وسيلة، فسكن فيها سنة 85 من الهجرة حتّى تُوفّي فيها على عهد مروان بن الحكم، وقيل: في أواخر حكم معاوية، كما قيل: في زمن حكم عبد الملك بن مروان.. إمّا في سنة 95 هجريّة أو 60، وقيل: في تفليس، كما قيل: في المدينة المنوّرة كانت وفاته رحمه الله.
مجلة بيوت المتقين العدد (41)