قوله تعالى: (..... واجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً)[1].
الصفة الرفيعة الثالثة عشر لعباد الرحمن والتي ذكرت في سورة الفرقان وهي أهم هذه الصفات من وجهة نظر معينة: وهي أنهم لا يقنعون أبدا أنهم على طريق الحق، بل إن همّتهم عالية بحيث يريدون أن يكونوا أئمة وقدوة للمؤمنين في الفعل، والقول، وفي إقامة الدين، ليدعوا الناس إلى هذا الطريق أيضاً، وسؤالهم أن يجعلهم أئمة للمتقين يُقتدَى بهم هو طلب من الله أن يهديهم، ويوفقهم، ويمنَّ عليهم بالعلوم النافعة، والأعمال الصالحة الظاهرة والباطنة التي توصلهم إلى هذه المنزلة العليّا.
إنهم ليسوا كالزهاد المنزوين في الزوايا، وليس همّهم إنقاذ أنفسهم من الغرق، بل إن سعيهم هو أن ينقذوا الغرقى، لذا فإنهم الذين يقولون: واجعلنا للمتقين إماما.
وينبغي الالتفات إلى هذه النكتة أيضا، وهي أنهم لا يَدْعُون ليكونوا في موقع العظماء جزافا، بل إنهم يهيئون أسباب العظمة والإمامة بحيث تجتمع فيهم الصفات اللائقة بالقدوة الحقيقية، وهذا عمل عسير جدا، وله شرائط صعبة وثقيلة.
ولا ننسى أن القرآن لا يذكر في الآيات السابقة على هذه الآية صفات جميع المؤمنين، بل أوصاف نخبة ممتازة من المؤمنين في الصف المتقدم بعنوان " عباد الرحمن "، نعم إنهم عباد الرحمن، وكما أن رحمة الله العامة تشمل الجميع فإن رحمة الله بهؤلاء العباد عامة أيضاً من أكثر من جهة، فعلمهم وفكرهم وبيانهم وقلمهم ومالهم وقدرتهم تخدم بلا انقطاع في طريق هداية خلق الله.
أولئك نماذج وأسوة المجتمع الإنساني، أولئك قدوات المتقين، إنهم أنوار الهداية في البحار والصحاري، ينادون التائهين إليهم لينقذوهم من الغرق في دوامة الضلال، ومن السقوط في مزالق الشيطان.
نقرأ في روايات متعددة أن هذه الآية نزلت في علي (عليه السلام) وأئمة أهل البيت (عليهم السلام)، ونقرأ في رواية أخرى عن الإمام الصادق (عليه السلام): " إيانا عنى "، (أورد هذه الروايات علي بن إبراهيم القمي، الشيخ عبد علي الحويزي مؤلف كتاب نور الثقلين في تفسيريهما لآخر هذه الآية)
ولا شك أن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) من أوضح مصاديق هذه الآية، لكن هذا لا يمنع من اتساع مفهوم الآية، فالمؤمنون الآخرون أيضاً يكون كل منهم إماما وقدوة للآخرين بمستويات متفاوتة.
واستنتج بعض المفسرين من هذه الآية أن طلب الرئاسة المعنوية والروحانية الأخروية ليس غير مذموم فقط، بل إنه مطلوب ومرغوب فيه أيضا. (يراجع تفسير القرطبي وتفسير الفخر الرازي)
وينبغي الالتفات ضمنا إلى أن كلمة (إمام) وإن كانت للمفرد، إلا أنها تأتي بمعنى الجمع، وهكذا هي في الآية[2].
لماذا لم يجمع كلمة (إماما)
لم يجمع سبحانه لفظ (إماما) ولم يقل واجعلنا للمتقين أئمة، وقد ذكرت لذلك عدة وجوه، ولعل أحسنها هو إنه إنما قال إماما ولم يقل أئمة على نحو قوله (إّنا رسول رب العالمين) ولم يقل (رسولا) وهو من الواحد المراد به الجمع لقول الشاعر:
يا عاذلاتي لا تردن ملامتي... إن العواذل ليس لي بأمير
أي: ليس لي بأمراء، فالمتقين كلهم على طريق واحد ومعبودهم واحد وأتباع كتاب واحد ونبي واحد وعبيد رب واحد فدينهم واحد ونبيهم واحد وكتابهم واحد ومعبودهم واحد فكأنهم كلهم إمام واحد لمن بعدهم ليسوا كالأئمة المختلفين الذين قد اختلفت طرائقهم ومذاهبهم وعقائدهم فالائتمام إنما هو بما هم عليه وهو شيء واحد وهو الإمام في الحقيقة.
هل يتمنى الفاجر أن يكون إماما؟
يتمنى الشقي الفاجر أن يقتدي به الناس لا اقتناعا منه بأنه على هدى من ربه.. كلا، بل لتخفّ عنه المذمّة والملامة، ويُبرّر خطيئته بكثرة المخطئين، ولذا لا يحب أن يكون أولاده وزوجته على شاكلته، تماما كما لا يحب المريض أن يصاب أهله بدائه.. أما البر التقي فهو على يقين من دينه وبصيرة من أمره، ولذا يتمنى من أعماق قلبه مبدأ وعقيدة أن يسير جميع الناس على نهجه، وأن يكون أولاده على شاكلته يفرح بدينهم وسلوكهم، ويتضاعف بهم عدد المتقين والمطيعين.. فالمخلصون يسألون خالقهم أن يجعلهم قدوة لمن رغب في تقوى الله لا ليبرروا أعمالهم عند الناس، ولا طلبا للجاه في الدنيا وقبض الأموال باسم حقوق الله، بل رغبة في عظيم المنزلة عند الله وحده[3].
مجلة بيوت المتقين العدد (26)