(وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ* إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)[1].
تحدثت الآيات السابقة لهذه الآيتين عن الإنفاق وبذل المال في سبيل الله، وأن ينفق الشخص ذلك المال من الطيب دون الخبيث، وأن يكون مشفوعاً بالمحبة والإخلاص وحسن الخلق، أما في هاتين الآيتين أعلاه فيدور الحديث عن كيفية الإنفاق وعلم الله تعالى بذلك.
فيقول الله تعالى في الآية الأولى: (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ).
ومعنى ذلك، أن كل ما تنفقونه في سبيل الله سواء كان قليلاً أو كثيراً، جيداً أم رديئاً، من حلال اكتسب أم من حرام، مخلصاً كان في نيته أم مرائياً، أتبعه المن والأذى أم لم يتبعه، أكان الإنفاق مما أوجب الله تعالى عليه أم مما أوجبه الإنسان على نفسه بنذر أوغيره؛ فإن الله تعالى يعلم تفاصيله ويثيب عليه أو يعاقب.
وفي ختام الآية تقول: (وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ) (الظالمين) هنا إشارة إلى المحتكرين والبخلاء والمرائين والذين ينفقون بالمن والأذى، فإن الله تعالى لا ينصرهم، وسوف لا ينفعهم ما أنفقوا لا في الدنيا ولا في الآخرة.
أو أن المراد هم الأشخاص الذين امتنعوا من الإنفاق إلى المحرومين والمعوزين، فإنهم بذلك قد ظلموهم وظلموا كذلك أنفسهم ومجتمعهم.
أو أنهم الأشخاص الذين لا ينفقون في موارد الإنفاق، لأن مفهوم الظلم واسع يشمل كل عمل يأتي به الإنسان في غير مورده، وبما أنه لا منافاة بين هذه المعاني الثلاثة، فيمكن أن تدخل هذه المعاني في مفهوم الآية بأجمعها.
أجل، هؤلاء ليس لهم ناصر في الدنيا ولا شفيع في الآخرة، وهذه النتيجة من الخصائص المترتبة على الظلم والجور بأي صورة كان.
ويستفاد من هذه الآية ضمنا مشروعية النذر ووجوب العمل بمؤداه، وهو من الأمور التي كانت موجودة قبل الإسلام وقد أمضاها الإسلام وأيدها.
في الآية الثانية إشارة إلى كيفية الإنفاق من حيث السر والعلن فتقول: (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ).
وسوف يعفو الله عنكم بذلك: (وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ).
بحوث:
1 - لا شك أن لكل من الإنفاق العلني والإنفاق الخفي في سبيل الله آثاراً نافعة، فإذا كان الإنفاق واجباً فالإعلان عنه يشجع الآخرين على القيام بمثله، كما يرفع عن المنفق تهمة إهماله لواجبه.
أما إذا كان الإنفاق مستحباً، فإنه يكون في الواقع أشبه بالدعاية والإعلان العملي لحثّ الناس على فعل الخير، ومساعدة المحتاجين، والقيام بالأعمال الخيرية الاجتماعية العامة.
أما الإنفاق الخفي البعيد عن الأنظار فهو بلا شك أبعد عن الرياء وحب الظهور وخلوص النية فيه أكثر، خاصة وأن مدّ يد العون إلى المحتاجين في الخفاء يحفظ لهم ماء وجههم وكرامتهم، ولذلك تثني الآية على كلا الأسلوبين.
وذهب بعض المفسرين إلى أن الإخفاء يقتصر على الإنفاق المستحب، وأما الإنفاق الواجب كالزكاة وغيره فيفضل في حالة الجهر، وليست هذه بقاعدة عامة، بل تختلف باختلاف حالات الإنفاق.
إنَّ الحالات التي يكون فيها الجانب التشجيعي أكثر ولا يصادر فيها الإخلاص فالإظهار أولى، وفي الحالات التي يكون فيها المحتاجون من ذوي العزة والكرامة، فإن حفظ ماء وجوههم يقتضي إخفاء الإنفاق، كما أنه إذا خشي الرياء وعدم الإخلاص فالإخفاء أولى.
وقد جاء في بعض الأحاديث أن الإنفاق الواجب يفضل فيه الإظهار، والمستحب يفضل فيه الإخفاء.
وقد نقل عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنه قال: «الزكاة المفروضة تخرج علانية وتدفع علانية، وغير الزكاة إن دفعه سراً فهو أفضل»[2].
إلا أن هذه الأحاديث لا تتعارض مع ما قلناه آنفا، لأن أداء الواجب يكون أقل امتزاجاً بالرياء، فهو واجب لابد أن يؤديه كل مسلم، وعليه فإن إظهار الإنفاق أفضل، أما الإنفاق المستحب فليس إلزامياً، فإظهار إنفاقه قد يشوبه شيء من الرياء وعدم خلوص النية، فيكون الأجدر إخفاؤه.
2- قوله عز وجل: (وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ) يوضح أن للإنفاق في سبيل الله أثراً في غفران الذنوب، فالتكفير عن السيئات - أي تطغية الذنوب - كناية عن ذلك.
بديهي أن هذا لا يعني أن إنفاق بعض المال يذهب بكل ذنوب الإنسان، ولذلك لابد من ملاحظة استعمال "من" التبعيضية، أي أن الغفران يشمل قسماً من ذنوب الإنسان، وأن هذا القسم يتناسب مع مقدار الإنفاق وميزان الإخلاص.
3 - يستفاد من جملة: (وَاللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ). هو أن الله عالم بما تنفقون سواء أكان علانية أم سراً، كما أنه عالم بنياتكم وأغراضكم من إعلان إنفاقكم ومن إخفائه.
على كل حال أن الذي له تأثير في الإنفاق هو النية الطاهرة والخلوص في العمل لله وحده؛ لأنه هو الذي يجزي أعمال العبد، وهو عالم بما يخفي ويعلن[3].