الشقاء والشقاوة خلاف السعادة، وفُسّر السعيد بأنه من يدخل الجنة، فإن السعادة والشقاوة حالتان متقابلتان للإنسان يترتب عليهما أثر، ولهما سبب قريب وسبب بعيد.
أما الأثر فهو استحقاق الثواب والعقاب.
وأما السبب القريب فهو الإتيان بالخيرات التي أشرفُها الإيمان والإتيان بالشرور التي أخسُها الكفر، وقد تُطلق السعادة والشقاوة على نفس هذا السبب أيضاً، وقول الإمام الصادق (عليه السلام) السعادة سبب خير يمسك به السعيد فجرّه إلى النجاة، والشقاوة سبب خذلان يمسك به الشقي فجرّه إلى الهلكة، وكل بعلم الله، يحتمل الأمرين.
وأما السبب البعيد فهو ما أشار إليه مولانا الباقر (عليه السلام) بقوله: (إن الله جل وعز قبل أن يخلق الخلق قال كن ماء عذباً أخلق منك جنتي وأهل طاعتي، وكن ملحاً أجاجاً أخلق منك ناري وأهل معصيتي، ثم أمرهما فامتزجا فمن ثم صار يلد المؤمن الكافر والكافر المؤمن) الحديث[1].
فإن هذين الماءين سبب لاقتدار الإنسان على فعل الخير والشر وتكليفه وامتحانه بهما، ومبدأ لاستعداده لقبول السعادة والشقاوة وميله إليهما ولا يقتضي ذلك الجبر، لأن الجبر إنما يلزم لو خلقه من ماء أجاج وحده فإن ذلك كان يوجب انتفاء القدرة على الخير، فتأمل.
1 - عَنْ مَنْصُورِ بْنِ حَازِمٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) قَالَ: (إِنَّ الله خَلَقَ السَّعَادَةَ والشَّقَاءَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ خَلْقَه فَمَنْ خَلَقَه الله سَعِيداً لَمْ يُبْغِضْه أَبَداً، وإِنْ عَمِلَ شَرّاً أَبْغَضَ عَمَلَه ولَمْ يُبْغِضْه، وإِنْ كَانَ شَقِيّاً لَمْ يُحِبَّه أَبَداً وإِنْ عَمِلَ صَالِحاً أَحَبَّ عَمَلَه وأَبْغَضَه لِمَا يَصِيرُ إِلَيْه، فَإِذَا أَحَبَّ الله شَيْئاً لَمْ يُبْغِضْه أَبَداً وإِذَا أَبْغَضَ شَيْئاً لَمْ يُحِبَّه أَبَداً)[2].
الشرح:
قول أبي عبد الله (عليه السلام): (إِنَّ الله خَلَقَ السَّعَادَةَ والشَّقَاءَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ خَلْقَه)، أي: قدّرهما قبل تقدير الخلق أو قبل إيجاده، لأن مبدأ الخير والشر مما أوجده الله تعالى في مبدأ الإنسان الذي هو الماء الذي اختمرت به طينته (فَمَنْ خَلَقَه الله سَعِيداً)، أي: إيجاده مقروناً بالسعادة في علم الله تعالى بحسن أعماله، لا أنه تعالى موجد لها، على ما هو الحق عند الإمامية.
ثم قال (عليه السلام): (لَمْ يُبْغِضْه أَبَداً) لتحقق السعادة الموجبة للمحبة والرضا عنه، (وإِنْ عَمِلَ شَرّاً) بمقتضى ما فيه من القوة الداعية إلى الشر (أَبْغَضَ عَمَلَه ولَمْ يُبْغِضْه) فبغضه لعمله يعود إلى كراهته له بما هو شر وبعدم وقوعه على نهج الصواب واستحق بذلك العذاب فيقتصّ منه بالآلام والمصائب في الدنيا أو يمحوه ويعفو عنه لمن يشاء، ثم يوفقه للتوبة الماحية له حتى يرد عليه خالصاً من الذنوب.
ثم قال (عليه السلام): (وإِنْ كَانَ شَقِيّاً لَمْ يُحِبَّه أَبَداً) لغلبة شقاوته الموجبة للمقت والبغض، والجدير بالذكر إن الله تعالى لا يخلق أحداً شقياً وإنما الشقاوة من كسب العبد.
ثم قال (عليه السلام): (وإِنْ عَمِلَ صَالِحاً) لما فيه من القوة الداعية إلى الصلاح (أَحَبَّ عَمَلَه) حبه لعلمه يعود إلى وقوعه على نهج الصواب، وإرادة المكافأة لصاحبه بالإحسان والإنعام الدنيوي ونحوه، هو مقتضى العدل، وليرد عليه خالياً عما يوجب الدخول في الجنة.
ثم قال (عليه السلام): (وأَبْغَضَه لِمَا يَصِيرُ إِلَيْه) بسوء اختياره من الشقاوة التامة الموجبة للدخول في النار.
ثم قال (عليه السلام): (فَإِذَا أَحَبَّ الله شَيْئاً) سواء كان عملا أو غيره (لَمْ يُبْغِضْه أَبَداً وإِذَا أَبْغَضَ شَيْئاً لَمْ يُحِبَّه أَبَداً) توضيح ذلك:
أن الإنسان عبارة عن مجموع الجوهرين: النفس والبدن ولكل واحد منهما طريقان طريق الخير وطريق الشر فطريق الخير للأول هي العقائد الصحيحة والأخلاق المرضية وللثاني هي الأعمال الحسنة، وطريق الشر للأول هي العقائد الباطلة والأخلاق الرذيلة، وللثاني هي الأعمال القبيحة، فإن استقام هذان الجوهران في شخص دائماً كما في الأنبياء والأوصياء كان سعيداً مطلقاً محبوباً لله دائماً غير مبغوض أبداً، وإن لم يستقم شيء منهما أبداً كان شقياً مبغوضاً أبداً غير محبوب أصلاً، وإن استقام الأول دائماً دون الثاني كان هو محبوباً دائماً غير مبغوض أبداً لأن الجوهر الأول أولى بالحقيقة الإنسانية بل هو الإنسان حقيقة وكان عمله مبغوضاً، وإن استقام الثاني دائماً دون الأول كان هو مبغوضاً وعمله محبوباً، وإن استقام كل واحد منهما في وقت دون آخر يعتبر حاله في الخاتمة فإن استقاما أو استقام الأول وحده كان هو عند الله محبوباً وكان عمله مبغوضاً، وإن استقام الثاني أو لم يستقم شيءٌ منهما كان هو عند الله مبغوضاً وكان عمله محبوباً، وكلما كان العمل وحده مبغوضاً أمكن أن يتداركه بالتوبة أو المصيبة الدنيوية أو البرزخية أو الشفاعة أو العفو، ومما ذكرنا ظهر أن الكافر الذي يؤمن محبوب له تعالى في علم الغيب والمؤمن الذي يكفر مبغوض أبداً.
لا يقال: هذا ينافي قوله تعالى: (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة) فإن هؤلاء كانوا محبوبين لله تعالى، لأن الرضا عنهم يوجب المحبة ثم صار بعضهم مبغوضاً بالنفاق في حال حياته (صلى الله عليه وآله) وبعضهم بالخلاف بعده.
لأنا نقول: الرضا متعلق بالمؤمنين وكون هؤلاء من المؤمنين عند المبايعة ممنوع، وعلى تقدير التسليم كان الرضا مشروطاً بالوفاء وعدم النكث كما يدل عليه قوله تعالى:
(فمن نكث فإنما ينكث على نفسه) وهؤلاء لما نكثوا علم أنهم فقدوا شرط المحبة، وفي هذا الحديث رد على الأشاعرة القائلين بأنه تعالى أراد جميع أفعال العباد ورضي بها وأحبها بناء على ما زعموا من أنه الموجد لها.
2 - عَنْ أَبِي بَصِيرٍ قَالَ كُنْتُ بَيْنَ يَدَيْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) جَالِساً وقَدْ سَأَلَه سَائِلٌ فَقَالَ: (جُعِلْتُ فِدَاكَ يَا ابْنَ رَسُولِ الله مِنْ أَيْنَ لَحِقَ الشَّقَاءُ أَهْلَ الْمَعْصِيَةِ حَتَّى حَكَمَ الله لَهُمْ فِي عِلْمِه بِالْعَذَابِ عَلَى عَمَلِهِمْ؟ فَقَالَ أَبُو عَبْدِ الله (عليه السلام) أَيُّهَا السَّائِلُ حُكْمُ الله عَزَّ وجَلَّ لَا يَقُومُ لَه أَحَدٌ مِنْ خَلْقِه بِحَقِّه، فَلَمَّا حَكَمَ بِذَلِكَ وَهَبَ لأَهْلِ مَحَبَّتِه الْقُوَّةَ عَلَى مَعْرِفَتِه ووَضَعَ عَنْهُمْ ثِقْلَ الْعَمَلِ بِحَقِيقَةِ مَا هُمْ أَهْلُه، ووَهَبَ لأَهْلِ الْمَعْصِيَةِ الْقُوَّةَ عَلَى مَعْصِيَتِهِمْ لِسَبْقِ عِلْمِه فِيهِمْ ومَنَعَهُمْ إِطَاقَةَ الْقَبُولِ مِنْه فَوَافَقُوا مَا سَبَقَ لَهُمْ فِي عِلْمِه ولَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يَأْتُوا حَالاً تُنْجِيهِمْ مِنْ عَذَابِه لأَنَّ عِلْمَه أَوْلَى بِحَقِيقَةِ التَّصْدِيقِ وهُوَ مَعْنَى شَاءَ مَا شَاءَ وهُوَ سِرُّه) [3].
الشرح:
قول أبي بصير: (كُنْتُ بَيْنَ يَدَيْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) جَالِساً وقَدْ سَأَلَه سَائِلٌ فَقَالَ جُعِلْتُ فِدَاكَ يَا ابْنَ رَسُولِ الله مِنْ أَيْنَ لَحِقَ الشَّقَاءُ أَهْلَ الْمَعْصِيَةِ)، أي: من أي محل أو من أي سبب لحق الشقاء أهل المعصية، (حَتَّى حَكَمَ الله لَهُمْ فِي عِلْمِه بِالْعَذَابِ) عليهم (عَلَى عَمَلِهِمْ)، أي: بسبب علمه بسوء حالهم وقبح مآلهم وفساد أعمالهم، أو لاستقرار هذا الحكم في علمه المحيط بكل شيء.
ولما سأل سائل عن المبدأ الأول والسبب الأصلي للشقاء أشار (عليه السلام) إلى أن ذلك سر من الأسرار التي لا يصل إليها العقول الناقصة، فقال (عليه السلام): (أَيُّهَا السَّائِلُ حُكْمُ الله عَزَّ وجَلَّ لَا يَقُومُ لَه) أي: لمعرفته ومعرفة أسراره (أَحَدٌ مِنْ خَلْقِه بِحَقِّه) أي: بحق الحكم، أو بحق القيام بالثواب والعقاب على عملهم، أو حكمه تعالى في مادة الإنسان بامتزاج الماءين أو بامتزاج الطينتين طينة الجنة وطينة النار كما في بعض الروايات، وهذا الامتزاج مبدأ للقوة الداعية إلى الخير والشر والسعادة والشقاوة (فَلَمَّا حَكَمَ بِذَلِكَ) أي: بالثواب والعقاب أو بالامتزاج المذكور (وَهَبَ لأَهْلِ مَحَبَّتِه) أي: للذين علم أنهم سيصبرون على طاعته ويقومون على أمره ونهيه ويسلكون باختيارهم سبيل محبته (الْقُوَّةَ عَلَى مَعْرِفَتِه) القوة المؤثرة في الخير وترك الشر أو بالفعل والترك، (ووَضَعَ عَنْهُمْ) لطفاً وتوفيقا لهم (ثِقْلَ الْعَمَلِ بِحَقِيقَةِ مَا هُمْ أَهْلُه) من الإتيان بالطاعات والاجتناب عن المنهيات والسلوك إلى الله، وبذلك صاروا من أهل المحبة والسعادة، فالقوة والإعانة منه تعالى، والفعل منهم على سبيل الاختيار.
ثم قال (عليه السلام): (ووَهَبَ لأَهْلِ الْمَعْصِيَةِ الْقُوَّةَ عَلَى مَعْصِيَتِهِمْ) وهنا أضاف المعصية إليهم لا إليه سبحانه كما في المحبة والمعرفة للتنبيه على أن معصيته مما ينبغي أن لا يقع وأنها لكونها من مقتضيات نفوسهم وجب أن يضاف إليهم.
ثم أشار (عليه السلام) إلى تعليل هبتها بوجه يخرجها عن الجبر والظلم بقوله: (لِسَبْقِ عِلْمِه فِيهِمْ) أي: بعلمه بما يصيرون إليه من المعصية والمخالفة، ثم قال (عليه السلام): (ومَنَعَهُمْ إِطَاقَةَ الْقَبُولِ مِنْه) والمقصود منه سلب التوفيق والإعانة عنهم بسبب إبطالهم الاستعداد الفطري لإطاقة القبول منه وإفسادهم القوة المعدة لقبول الطاعة ولا يلزم منه جبر ولا ظلم، لأن الجبر إنما يلزم لو لم يهب لهم القوة على الطاعة وإطاقة القبول.
والظلم إنما هو وضع الشيء في غير موضعه، وهم بسبب ذلك الإبطال والإفساد خرجوا عن استحقاق الإعانة والتوفيق (فَوَافَقُوا مَا سَبَقَ لَهُمْ فِي عِلْمِه) من المعاصي الموجبة لعذابهم (ولَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يَأْتُوا حَالاً تُنْجِيهِمْ) لأَنَّ عِلْمَه أَوْلَى بِحَقِيقَةِ التَّصْدِيقِ وهُوَ مَعْنَى شَاءَ مَا شَاءَ وهُوَ سِرُّه) أي: إعطاء القوة على الطاعة والمعصية وعدم الجبر على شيء منها تحقيقاً لمعنى الاختيار والتكليف.
مجلة بيوت المتقين العدد (26)