هناك جوانب كثيرة من حياة العظماء التي تضئ حياة الإنسان حيث يقتبس منها الدروس والعبر ويستلهم منها الفضائل فتنير له دربه على مدى الحياة، ويتزوّد منها بما يقرّبه إلى الله عز وجل ورسوله وأهل بيته (صلوات الله عليهم)، ومسلم بن عقيل هو أحد العظماء الذي تربّى ونشأ في أحضان بيت طاهر واستلهم منه ما يقومه لأن يكون محطّ ثقة أهل البيت(عليهم السلام) حيث عبر عنه الإمام الحسين(عليه السلام) حينما أرسله إلى الكوفة بعد توالي الكتب والرسائل إليه(عليه السلام) فكتب إليهم: (وإني باعث إليكم أخي وابن عمي وثقتي من أهل بيتي)[1].
ولا يسعنا إلا ذكر بعض الجوانب من حياته (رضي الله عنه).
ولادته ونشأته:
ولد (رضي الله عنه) في المدينة المنورة في سنة 22هـ في أكرم أصول وأطهرها، فوالده هو عقيل بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم، وعمه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وعمه الآخر جعفر الطيار الشهيد في مؤتة، وكان يكنى بـ(أبو داود)، وأمه أم ولد (أي جارية) يقال لها علية اشتراها عقيل بن أبي طالب [2].
عاش ونشأ في بيت علي بن أبي طالب(عليه السلام) وكان ملازماً لولديه الإمامين الحسن والحسين(عليهما السلام) فاغترف من علوم أفراد هذا البيت الطاهر، ومعرفتهم بالدين وأحكامه، وتزود من ورعهم وخوفهم من الله عز وجل وعبادتهم له، فهكذا بدأ حياته، وكان صهراً لأمير المؤمنين(عليه السلام) حيث تزوج من رقية بنت أمير المؤمنين(عليه السلام) المعروفة برقية الصغرى، فولدت له عبد الله ــ والذي استشهد في كربلاء مع الإمام الحسين (عليه السلام) حيث كان برفقة أمه ــ كما تزوج مسلم بأم ولد فولدت له محمداً الذي استشهد في كربلاء أيضاً [3].
كما نقل الشيخ الصدوق في أماليه قصة طفلين صغيرين لمسلم بن عقيل أُسِرا من معسكر الإمام الحسين(عليه السلام) ثم أخذا إلى عبيد الله بن زياد فأوصى السجان بالتضييق عليهما في المأكل والمشرب وغير ذلك، فكانا يصومان النهار فإذا جنّهما الليل أفطرا على قرصين من شعير وكوز من الماء، ثم تذكر الرواية كيفية خروجهما من السجن وهروبهما حتى إلقاء القبض عليهما ثم قتلهما بقطع رؤوسهما [4].
صفاته (رضي الله عنه):
عرف (رضي الله عنه) بقوة البدن والفتوة، كما جاء في بعض كتب المناقب عن علي بن أحمد العاصمي... عن عمرو بن دينار قال: أرسل الحسين(عليه السلام) مسلم بن عقيل إلى الكوفة وكان مثل الأسد، قال عمرو وغيره: لقد كان من قوته أنه يأخذ الرجل بيده، فيرمي به فوق البيت [5].
ومما نقل عنه (رضي الله عنه) أنه شارك في معركة صفين سنة 37هـ ولبسالته وشجاعته جعله أمير المؤمنين(عليه السلام) على ميمنة العسكر مع الحسن والحسين(عليهما السلام) وعبد الله بن جعفر الطيار، بالرغم من أن عمر مسلم لم يبلغ آنذاك الثامنة عشر عاماً.
وكما تقدم النقل سابقاً فقد كان (رضي الله عنه) موضع ثقة الإمام الحسين (عليه السلام) حيث قال في حقه حينما أرسله الى الكوفة: (وإني باعث إليكم أخي وابن عمي وثقتي من أهل بيتي)[6].
وأن يكون مسلم بن عقيل أخاً لسيد الشهداء(عليه السلام) فهذا اختصاص وفضل عظيم، وكذا أن يبلغ رتبة يكون فيها موضع ثقة الإمام الحسين(عليه السلام)، فإن الوثاقة لا تأتي بمجرد الصدق فرب صادق ولكنه بسيط فيخدع، وقد يكون الشخص صادقاً ولكنه لا يثبت ولا يدقق فلا يمكنك الاعتماد عليه، أما مسلم بن عقيل فقد كان موضع الاعتماد، فقد كان عينا للإمام الحسين(عليه السلام) وجاءت في زيارة مسلم بن عقيل الإشارة إلى بعض الجهات الموجبة للاعتماد وهي: (أشهد لك بالتسليم والتصديق والوفاء والنصيحة لخلف النبي المرسل والسبط المنتجب...)[7].
فقد كان مسلّما لإمامه فيما يقول، ومن الشواهد الجلية على ذلك قصة ما جرى عليه في بعثه إلى الكوفة من قبل سيد الشهداء(عليه السلام) سفيراً له، إذ أخذ معه دليلين فتاها وماتا في الطريق، فالتجأ إلى قرية يقال لها «المضيق»، وكتب إلى سيد الشهداء(عليه السلام) ما حدث وأجابه(عليه السلام) أن يتحمل المهمة فسلم له وأذعن لأمره[8].
وهكذا كان (رضي الله عنه) مطيعاً ومذعناً لأمره(عليه السلام) مما يبين هذا عن نيته الخالصة والمقترنة بالإذعان حيث بذل ما تجهد به نفسه في إبلاغ سيد الشهداء عما يراه من ظواهر الأمور، كما في الرسائل التي كتبها إلى الإمام الحسين(عليه السلام) من الكوفة، وكذلك حينما قدّر أن الأفضل أن يبتعد الإمام الحسين(عليه السلام) من الطريق العام حينما خرج من المدينة متوجهاً إلى مكة بعد طلب يزيد من والي المدينة أخذ البيعة له منه، إذ قال له: (يا ابن بنت رسول الله(صلى الله عليه وآله) لو عدلنا عن الطريق وسلكنا غير الجادة كما فعل عبد الله بن الزبير كان عندي الرأي، فإنا نخاف أن يلحقنا الطلب! فقال له الحسين (عليه السلام): لا والله يا ابن عمي لا فارقت هذا الطريق أبداً، أو أنظر إلى أبيات مكة أو يقضي الله في ذلك ما يحب ويرضى)[9].
فقهه وورعه:
ومن الشواهد الجلية على فقهه وورعه عدم شربه الماء المختلط بالدم عند شهادته، فإنه بعد قتاله وأسره من قبل أتباع ابن زياد كان قد أصابه العطش الشديد فلما وصل إلى القصر رأى قُلة مبردة موضوعة على الباب فقال أسقوني من هذا الماء، فقال له مسلم بن عمر وأبو قتيبة بن مسلم الباهلي: أتراها ما أبردها؟ فوالله لا تذوق منها قطرة واحدة حتى تذوق الحميم في نار جهنم، فقال له مسلم بن عقيل: ويلك ولأمك الثكل ما أجفاك وأفظك وأقسى قلبك، أنت يا بن باهلة أولى بالحميم والخلود في نار جهنم ثم جلس وتساند إلى الحائط.
قال أبو مخنف: فحدثني أبو قدامة بن سعد أن عمرو بن حريث بعث غلاماً له يدعى سليماً فأتاه بماء في قلة فسقاه، قال وحدثني مدرك بن عمارة: أن عمارة بن عقبة بعث غلاماً يدعى نسيماً فأتاه بماء في قلة عليها منديل وقدح معه فصب فيه الماء ثم سقاه فأخذ كلما شرب امتلأ القدح دماً فأخذ لا يشرب من كثرة الدم فلما ملا القدح ثانية ذهب يشرب فسقطت ثنيتاه في القدح فقال: الحمد لله لو كان لي من الرزق المقسوم لشربته[10].
ومن الشواهد على ورع مسلم حرصه على أداء دَينه في اللحظات الأخيرة من عمره، فقد روى أبو الفرج الاصفهاني أن ابن زياد حينما أخبر مسلماً بقتله، قال مسلم: دعني إذن أوصي إلى بعض القوم، قال: أوص إلى من أحببت، فنظر ابن عقيل إلى القوم وهم جلساء ابن زياد وفيهم عمر بن سعد، فقال: يا عمر إن بيني وبينك قربة دون هؤلاء، وقد يجب عليك لقرابتي نجح حاجتي، وهي سر، فأبى أن يمكنه من ذكرها، فقال له عبيد الله بن زياد: لا تمتنع من أن تنظر في حاجة ابن عمك، فقام معه وجلس حيث ينظر إليهما ابن زياد ــ لعنه الله ــ فقال له ابن عقيل: إن عليّ بالكوفة ديناً استدنته مذ قدمتها، تقضيه عني حتى يأتيك من غلتي بالمدينة، وجثتي فاطلبها من ابن زياد فوارها، وابعث إلى الحسين من يرده، فقال عمر لابن زياد: أتدري ما قال؟ قال: اكتم ما قال لك، قال: أتدري ما قال لي؟ قال: هات، فإنه لا يخون الأمين ولكن قد يؤتمن الخائن، قال: كذا وكذا، قال: أما مالك فهو لك، ولسنا نمنعك منه فاصنع فيه ما أحببت، وأما حسين فإنه إن لم يردنا لم نرده، وإن أرادنا لم نكفّ عنه، وأما جثته فإنا لا نشفّعك فيها، فإنه ليس لذلك منا بأهل وقد خالفنا وحرص على هلاكنا.
كرامتنا من الله الشهادة:
ومن أمثلة عبادة مسلم انشغاله ليلة شهادته بالعبادة، حيث كان منقطعا في الدعاء إذ سمع حوافر الخيل وصهيلها، فعجّل في دعائه وأتمه فلبس لامته، وقال لطوعة: (يا أمة الله، قد أديت ما عليك من الخير، ولك نصيب من شفاعة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وقد رأيت عمي أمير المؤمنين (عليه السلام) في المنام فقال لي: ستلحق بي غداً)[11].
ويروي أبو الفرج أيضاً أنه لما أرادوا أن يصعدوا بمسلم أعلى القصر ليقتلوه، صعد وهو يستغفر الله ويصلي على النبي محمد (صلى الله عليه وآله) وعلى أنبيائه ورسله وملائكته وهو يقول: اللهم احكم بيننا وبين قوم غرّونا وكادونا وخذلونا[12].
فقد أمر ابن زياد بقطع رأسه بالسيف وإلحاق رأسه بجسمه فاستشهد (رضي الله عنه)
في الكوفة يوم 9 ذو الحجة سنة 60هـ بعد يوم واحد من خروج الإمام الحسين (عليه السلام)
من مكة، فقتله بكير بن حمران الأحمري، ثم رميت جثته الطاهرة من أعلى القصر، ودفن بعد ذلك في مشهده المجاور لمسجد الكوفة.
فسلام عليه يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حياً.
مجلة بيوت المتقين العدد (15)
[1] الإرشاد الشيخ المفيد: ج 2، ص 39.
[2] مقاتل الطالبيين: ص52.
[3] مقاتل الطالبيين: ص62.
[4] الأمالي الشيخ الصدوق: ج2، ص19.
[5] بحار الأنوار المجلسي: ج 44، ص 354.
[6] الإرشاد الشيخ المفيد: ج2، ص39.
[7] كامل الزيارات: ص440.
[8] الإرشاد الشيخ المفيدج2، ص40.
[9] الفتوح لابن أعثم: ج5، ص24.
[10] مقاتل الطالبيين: ص66.
[11] كامل البهائي: ج2، ص275.
[12] مقاتل الطالبيين: ص67.