الأمانة

قال تعالى: (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا....)[1].

من الواضح أن للأمانة معنى وسيعاً يشمل كل شيء مادي ومعنوي، ويجب على كل مسلم ـ بصريح هذه الآية ـ أن لا يخون أحداً في أيّة أمانة دون استثناء، سواء كان صاحب الأمانة مسلما أو غير مسلم، وهذا هو في الواقع أحد المواد في ـ الميثاق الإسلامي لحقوق الإنسان ـ التي يتساوى تجاهها كل أفراد البشر.

 والجدير بالذكر أن الأمانة المذكورة في سبب النزول لم تكن مجرد أمانة مادية، ومن جانب آخر كان صاحبها المؤدى إليه تلك الأمانة مشركا، فقد روي في تفسير مجمع البيان وتفاسير إسلامية أخرى أن هذه الآية نزلت عندما دخل رسول الله (صلى الله عليه وآله) مكة المكرمة منتصراً فاتحاً، فاستحضر عثمان بن طلحة وكان سادن الكعبة فطلب منه مفتاح الكعبة المعظمة، ليطهّرها من الأصنام والأوثان الموضوعة فيها، فلما فرغ النبي (صلى الله عليه وآله) من ذلك سأله العباس بن عبد المطلب أن يعطيه المفتاح ليجمع له بين منصب السقاية ومنصب السدانة الذي له في العرب شأناً ومجداً ولكن النبي (صلى الله عليه وآله) فعل خلاف ذلك، فإنه بعد ما طهّر الكعبة من الأصنام والأوثان، أمر علياً (عليه السلام) أن يردّ المفتاح إلى ـ عثمان بن طلحة ـ ففعل ذلك وهو يتلو الآية الحاضرة: (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا)[2].

  إن قانون حفظ الأمانة، يمثل أحد القوانين المهمة للمجتمع الإنساني السليم، ولا يستقيم أمر المجتمع من دونه، فهو يقول: إن الأموال والثروات والمناصب والمسؤوليات والمهـــام والثقـــافات والــــتراث والمخلفات التاريخية، كلها أمانات إلهية سُلِّمت بأيدي أشخاص مختلفين في المجتمع، والجميع مكلفون أن يحفظوا هذه الأمانات، ويجتهدوا في تسليمها إلى أصحابها الأصليين، ولا يخونوا فيها أبداً.

 سعة مفهوم الأمانة:

 والأمانة وإن كانت تطلق على الأمانة المالية غالباً، لكنها في منطق القرآن ذات مفهوم أوسع يشمل شؤون الحياة الاجتماعية والسياسية والأخلاقية كافة، ولذلك جاء في الأحاديث أن رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) قَالَ: (الْمَجَالِسُ بِالأَمَانَةِ)[3]، ونقرأ في حديث آخر:

(إذا حدّث الرجل بحديث ثم التفت فهو أمانة)[4] فالأمانة لا تنحصر في الأموال التي يودعها الناس ـ بعضهم عند بعض ـ فإن القرآن المجيد وتعاليمه كل ذلك يعدّ أمانة إلهية كبرى، وأرض الإسلام أمانة إلهية بأيدي المسلمين وأبنائهم أيضاً.

 وهكذا العلم والمجتمع أمانة عند العلماء فيجب عليهم أن لا يكتموا الحقائق، بل حتى أبناء الإنسان وأولاده أمانات إلهية لدى الآباء والأمهات فلا يفرّطوا في تربيتهم، ولا يقصّروا في تأديبهم وتعليمهم، وإلا كان ذلك خيانة في الأمانة الإلهية التي أمر الله بأدائها، بل وفوق ذلك الوجود الإنساني كله، وجميع الطاقات المودعة فيه أمانات الله يجب على الإنسان أن يجتهد في المحافظة عليها، فعليه أن يحافظ على صحة جسمه وسلامة روحه، وفكره، ويحافظ على طاقة الشباب الفيّاضة، ولا يفرّط فيها، ولهذا لا يجوز له أن ينتحر أو يلحق الضرر بنفسه، بل أكثر من ذلك فإنه يُستفاد من بعض الأحاديث والنصوص الإسلامية أن علوم الإمامة وأسرارها وودائعها التي يسلمها كل إمام إلى الإمام الذي بعده داخلة في هذه الآية أيضاً[5].

أهمية الأمانة في الإسلام

لقد ورد تأكيد كبير على هذه المسألة في المصادر الإسلامية إلى درجة أننا قلما نجد مثله في مورد غيره من الأحكام والمسائل، والأحاديث التالية توضح هذه الحقيقة:

أداء الأمانة بعث بها جميع الأنبياء

عن أَبِي عَبْدِ الله الصادق (عليه السلام) قَالَ: (إِنَّ الله عَزَّ وجَلَّ لَمْ يَبْعَثْ نَبِيّاً إِلَّا بِصِدْقِ الْحَدِيثِ وأَدَاءِ الأَمَانَةِ إِلَى الْبَرِّ والْفَاجِرِ)[6].

أداء الأمانة مقياس للإيمان

عن أَبِي عَبْدِ الله الصادق(عليه السلام) قَالَ: (لَا تَغْتَرُّوا بِصَلَاتِهِمْ ولَا بِصِيَامِهِمْ فَإِنَّ الرَّجُلَ رُبَّمَا لَهِجَ بِالصَّلَاةِ والصَّوْمِ حَتَّى لَوْ تَرَكَه اسْتَوْحَشَ ولَكِنِ اخْتَبِرُوهُمْ عِنْدَ صِدْقِ الْحَدِيثِ وأَدَاءِ الأَمَانَةِ)[7].

إن أداء الأمانة من علامات أهل الدين

عن أَبِي عَبْدِ الله الصادق (عليه السلام) قَالَ: قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام): (إِنَّ لأَهْلِ الدِّينِ عَلَامَاتٍ يُعْرَفُونَ بِهَا: صِدْقَ الْحَدِيثِ وأَدَاءَ الأَمَانَةِ ووَفَاءً بِالْعَهْدِ وصِلَةَ الأَرْحَامِ ورَحْمَةَ الضُّعَفَاءِ وقِلَّةَ الْمُرَاقَبَةِ لِلنِّسَاءِ أَوْ قَالَ قِلَّةَ الْمُوَاتَاةِ لِلنِّسَاءِ، وبَذْلَ الْمَعْرُوفِ وحُسْنَ الْخُلُقِ وسَعَةَ الْخُلُقِ واتِّبَاعَ الْعِلْمِ ومَا يُقَرِّبُ إِلَى الله عَزَّ وجَلَّ زُلْفَى)[8].

أداء الأمانة لا عذر فيه للبر والفاجر

عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الباقر (عليه السلام) قَالَ: (ثَلَاثٌ لَمْ يَجْعَلِ الله عَزَّ وجَلَّ لأَحَدٍ فِيهِنَّ رُخْصَةً أَدَاءُ الأَمَانَةِ إِلَى الْبَرِّ والْفَاجِرِ والْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ لِلْبَرِّ والْفَاجِرِ وبِرُّ الْوَالِدَيْنِ بَرَّيْنِ كَانَا أَوْ فَاجِرَيْنِ)[9].

عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ مُصْعَبٍ الْهَمْدَانِيِّ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ الله (الصادق (عليه السلام) يَقُولُ: (ثَلَاثَةٌ لَا عُذْرَ لأَحَدٍ فِيهَا أَدَاءُ الأَمَانَةِ إِلَى الْبَرِّ والْفَاجِرِ والْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ إِلَى الْبَرِّ والْفَاجِرِ وبِرُّ الْوَالِدَيْنِ بَرَّيْنِ كَانَا أَوْ فَاجِرَيْنِ)[10].

أداء الأمانة لا عذر فيه ولو لقاتل الأنبياء

عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ عن أَبِي عَبْدِ الله الصادق(عليه السلام) قَالَ: قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام): (أَدُّوا الأَمَانَةَ ولَوْ إِلَى قَاتِلِ وُلْدِ الأَنْبِيَاءِ)[11].

أداء الأمانة يزيد الرزق:

عَنْ حَفْصِ بْنِ قُرْطٍ قَالَ قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ الله الصادق (عليه السلام): (امْرَأَةٌ بِالْمَدِينَةِ كَانَ النَّاسُ يَضَعُونَ عِنْدَهَا الْجَوَارِيَ فَتُصْلِحُهُنَّ وقُلْنَا مَا رَأَيْنَا مِثْلَ مَا صُبَّ عَلَيْهَا مِنَ الرِّزْقِ فَقَالَ إِنَّهَا صَدَقَتِ الْحَدِيثَ وأَدَّتِ الأَمَانَةَ وذَلِكَ يَجْلِبُ الرِّزْقَ)[12].

عَنِ السَّكُونِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله الصادق (عليه السلام) قَالَ: قَــالَ رَسُـولُ الله (صلى الله عليه وآله): (لَيْسَ مِنَّا مَنْ أَخْلَفَ بِالأَمَانَةِ وقَالَ قَالَ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله) الأَمَانَةُ تَجْلِبُ الرِّزْقَ والْخِيَانَةُ تَجْلِبُ الْفَقْرَ)[13].

مجلة بيوت المتقين العدد (30)

 


[1] النساء: 58.

[2] تفسير مجمع البيان، ج 3، ص 64.

[3] الكافي، الكليني: ج2، ص660.

[4] تحفة السنية، الجزائري: ص323.

[5] الأمثل: ج3، ص 384.

[6] الكافي: ج2، ص104، ح1.

[7] الكافي: ج2، ص104، ح2.

[8] الكافي: ج2، ص239، ح2.

[9] الكافي: ج2، ص162، ح15.

[10] الكافي: ج5، ص132، ح1.

[11] الكافي: ج5، ص132ح3.

[12] الكافي: ج5، ص132، ح6.

[13] الكافي: ج5، ص132، ح7.