قوله تعالى: (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً)[1].
لا يزال الكلام في ذكر الآيات التي تتحدث عن محاسن خصال المؤمنين، وقد وصل الكلام بنا إلى قوله تعالى: (وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا) وقد وصفتهم الآية بوصفين من أوصافهم:
أحدهما: ما اشتمل عليه قوله:
(الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا).
وثانيهما: ما اشتمل عليه قوله:
(وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا) أي إذا خاطبهم الجاهلون خطاباً ناشئاً عن جهلهم وسفاهتهم، كهزئهم أو شتمهم أو جدالهم بالهوى مما يكره أن يخاطب به الناس أو يثقل عليهم، فإن المؤمنين يجيبوهم بما هو سالم من القول، ويقولون لهم قولاً سلاماً خالياً عن اللغو والإثم، قال تعالى: (لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا)[2]. [3]
فالمؤمنون لا يقابلون الجهل بالجهل، بل يتجاهلون الجاهلين ويعرضون عنهم استخفافاً بشأنهم، وترفعاً عما لا يليق بالرجل الكريم، ينقل أن سفيهاً شتم حكيماً فأعرض عنه، وحين قيل للحكيم: لِمَ لا تبالي؟ قال: لا أتوقع من الغراب تغريد البلابل[4]، فالمؤمن إذا سمع كلمة السوء تجاهلها حتى كأنه لم يسمعها أو كأن المقصود بها غيره، وهذا هو الهجر الجميل المراد بقوله تعالى: (واصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ واهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً)[5]، وليس من شك أن الإعراض عن السفيه إنما يحسن حيث لا قوة تردعه وإلا وجب تأديبه، ولا بد من تقييد الآية بذلك[6].
خُلُق الأنبياء (عليهم السلام):
الإعراض عن الجاهلين من الآداب البارزة عند الأنبياء (عليهم السلام) في معاشرتهم ومحاورتهم مع الناس، وهذا ما يظهر بشكل جليّ في الاحتجاجات المنقولة عنهم في القرآن الكريم مع الكفار، والمحاورات التي حاوروا بها المؤمنين منهم، فإننا لا نجد فيما حُكي من شذرات أقوالهم مع العتاة والجهلة أن يخاطبوهم بشيء مما يسوؤهم أو شتم أو إهانة أو ازدراء، وقد نال منهم المخالفون بالشتم والطعن والاستهزاء والسخرية كل منال فلم يجيبوهم إلا بأحسن القول وأنصح الوعظ مُعرضين عنهم بسلام وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً[7].
ينبغي أن يكون واضحاً أن هذا الإعراض عن الجاهلين والصبر على سفاهاتهم الذي يتصف به المؤمنون لم يكن ناشئاً عن ضعفهم وإنما هو علامة اللامبالاة المقترنة بالعظمة، والسلام دليل على عدم المقابلة بالمثل حيال الجهلة الحمقى، سلام الوداع لأقوالهم غير المتروية، ليس سلام التحية الذي هو علامة المحبة ورابطة الصداقة.
والخلاصة، أنه السلام الذي هو علامة الحلم والصبر والعظمة، نعم المظهر الآخر من مظاهر عظمة المؤمنين الروحية، هو التحمّل وسعة الصدر اللذين بدونهما سوف لا يطوي أي إنسان طريق ((العبودية لله)) هذا الطريق الصعب الممتلئ بالعقبات، خصوصاً في المجتمعات التي يكثر فيها الفاسدون والجهلة[8].
إن الله تعالى يريد من المؤمن أن يكون متعلِّقًا بكرائم الأمور لا بسفاسفها، فإن الله تعالى يُحبُّ معاليَ الأمور ويكره سفاسفها، وهذا الإنسانُ الذي هو عبدٌ لله كما أنه لا يسمح لشيء من الدنيا أن يستهلكه وأن يلغيَ سرَّ وجوده وأن يحجبه عن هدفه الذي خُلِق له، أيضاً لا يسمح لإنسانٍ ساقطٍ جاهل غارق في شهوته أن يجُرَّه إلى معركةٍ جانبية، فالعظماءُ دائماً لا يعتمدون على ردود الفعل والناس الذين هم في المستوى الأدنى يعتمدون على الفعل وردِّ الفعل، فأيُّ إنسان يجرُّه إلى معركة جانبية ويشغله بها، ولكنْ الإنسان الذي يُخطِّط والذي يعرف هدفَه ويسعى نحوه لا يسمح لكائن من كان أن يجرَّه إلى معركة جانبية وينحرف يمنةً ولا يسرةً.
ويروى أن رسول الله(صلى الله عليه وآله) قال: ((إن الله كريم يحب الكرم ومعالي الأمور ويبغض ـ يكره ـ سفسافها))[9].
المؤمنون لا يمارون الجاهل ولا يقارعونه بالحجة تلو الحجة التي لا يستطيع هضمها وفهمها، بل يرفقون به ويقدرون مبلغ علمه ومستوى جهله ويرأفون بحاله ولا يُسمعونه ما يثقل عليه من كلمات تجرح شعوره مما هي فيه وهو أهلها ويستحقّها لغروره وتبلّد ذهنه إذ وضع نفسه الوضيعة في غير موضعها، بل راح يتعالى عليهم عند مخاطبتهم، ويراهم دونه في المستوى.
نعم، فإذا كانت هذه حقيقة ماثلة في أغلب النفوس، وهي كذلك، فلماذا لا يرفق العالم بالجاهل، والأعلم بالمتعلم، ويقول له: سلاماً، في المواضع التي يتطاول فيها الجاهل، ويترك للزمن إقناعه، وللمراحل التي يلزم طيّها حتى يبلغ الفهم ويبلغ التواضع للحقيقة التي يراد له الوصول إلى فهمها وبلوغها.
ومن لم يتلطف ويرأف بهذه النفوس المريضة بداء الجهل والغرور، ولم يداوها بدواء الرفق والسماحة فليس هو بالحكيم الذي يضع الأمور في محلها، كما هو ليس أهلاً بأن ينسب إلى الرحمن بالعبودية (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما)[10].
كانَ إبراهيمُ بن المهدي، الخليفة العبّاسي، المكنّى بأبي إسحاق شَديدَ الاِنحِرافِ عَن عَلِيِّ بنِ أبي طالِب(عليه السلام)، فَحَدَّثَ المَأمونَ يَومًا أنَّهُ رَأى عَلِيًّا فِي النَّومِ، فَقالَ لَهُ: مَن أنتَ؟ فَأَخبَرَهُ أنَّهُ عَلِيُّ ابنُ أبي طالِب، فَمَشَينا حَتّى جِئنا قَنطَرَةً، فَذَهَبَ يَتَقَدَّمُني لِعُبورِها فَأَمسَكتُهُ، وقُلتُ لَهُ: إنَّما أنتَ رَجُلٌ تَدَّعي هذَا الأَمرَ بِإِمرَة ونَحنُ أحَقُّ بِهِ مِنكَ! فَما رَأيتُ لَهُ فِي الجَوابِ بَلاغَةً كَما يوصَفُ عَنهُ.
فَقالَ: وأيُّ شيء قالَ لَكَ؟ فَقالَ: ما زادَني عَلى أن قالَ: سَلامًا سَلامًا!
فَقالَ لَهُ المَأمونُ: قَد وَاللهِ أجابَكَ أبلَغَ جَواب.
قالَ: وكَيفَ؟!
قالَ: عَرَّفَكَ أنَّكَ جاهِلٌ لا يُجاوَبُ مِثلُكَ، قالَ اللهُ عزّ وجلّ: (وَإذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلَمًا).
فَخَجِلَ إبراهيمُ، وقالَ: لَيتَني لَم أُحَدِّثكَ بِهذَا الحَديثِ[11].
مجلة بيوت المتقين العدد (15)