قصة نبي الله عيسى (عليه السلام)

كان عيسى (عليه السلام) جالساً في المعبد.. في البيت المقدس، يفكّر في مصير أمّته وشعبه. ثم غادر المعبد، متجهاً نحو التلال.. كان الرعاة يسوقون أغنامهم عائدين، فقد جنحت الشمس للمغيب، وفكّر المسيح في بني إسرائيل وتساءل: كيف لي أن أسوق خراف بني إسرائيل الضالة إلى ينابيع النور؟ كيف لي أن أردّ الضائعين إلى الطريق؟.

غابت الشمس، وعاد الرعاة إلى منازلهم، والأغنام إلى حظائرها، والطيور إلى أوكارها، والأطفال إلى أحضان أمهاتهم، أمّا المسيح فلا يعود.. لماذا؟ لأنه ليس له بيت، كان ينام في البريّة، أمّا إذا نزل المطر أو الثلج فأنه يأوي إلى المغارات في الجبال، وعندما يجوع فأنه يقتطف بعض ما تنبته الأرض من النباتات البرّية، هكذا كان يعيش المسيح حرّاً زاهداً لا يخاف أحداً إلاّ الله، عاش عزيزاً لأنه لا يطمع بشيء في هذه الدنيا.

حلّ المساء وحان وقتُ النوم، توسّد عيسى (عليه السلام) حجراً ونام.

كان ينظر إلى السماء الواسعة المرصّعة بالنجوم.

فجأة ظهر الملاك نوره يملأ المكان، إنّ الله تعالى يأمرك بإبلاغ الرسالة، ونهض المسيح بأمر الله. إنّ روح القدس تؤيده والله معه وهو ناصره. 

الإعلان السماوي:

كان السوق مكتظاً بالناس، ووقف نبي الله عيسى (عليه السلام) ليعلن نبأ السماء، هتف المسيح(عليه السلام) بشجاعة: (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ)[1].

في ذلك الوقت كان (فونتيوس فلاتوس) حاكماً على فلسطين وكانت الحكومة القيصرية، تفرض على حكام الولايات الاستجابة إلى مطالب الناس في الأقاليم المحتلة إذا لم تمس أمن الإمبراطورية الكبرى.

كان الحاكم يراقب عن كثب ما يجري في مقاطعته، وذات يوم وصلته تقارير عما يجري في البلاد، إنّ شاباً يدعى عيسى، يقول إنه رسول من الله، وهو يدعو الناس إلى العودة إلى فطرة الله والابتعاد عما يلوّث النفس.

كان الكهنة اليهود أول من انزعج لدعوة المسيح لماذا؟ لأن المسيح يدعو الناس إلى مواساة الفقراء وإطعام الجياع، لأن المسيح يقول إنّ الكهنة حرّفوا التوراة، لأن الكهنة يخدعون الفقراء، ينهبون أموالهم باسم النذور في ذلك الزمان كان بعض اليهود ينكرون يوم القيامة، والحياة بعد الموت، ولا يؤمنون بالحساب والعقاب والثواب، لم يكونوا يعلنون ذلك، كانوا يتظاهرون بالدين ويضمرون الانحراف، يتظاهرون بالإيمان ويُضمرون الكفر.

الصراع:

بدأ الكهنة حربهم ضد المسيح، راحوا يطلقون الشائعات يتهمونه بالكفر، كانوا يصيحون بحقد لو كان نبياً فأين معجزاته.

لقد كان لموسى معجزات كثيرة، فما الذي جاء به عيسى؟ وكانوا يقولون عن مريم أشياء سيئة، كانوا يتهمونها، وهي الطاهرة البيضاء، ووقف عيسى (عليه السلام) في البرّية يدعو بني إسرائيل إلى الروح إلى أن يتخلصوا من أسر المادّة، قال أحدهم:

الروح هي الدماء التي تجري في عروقنا.قال عيسى بن مريم(عليه السلام): الروح كلمة الله. لا نفهم ما تقول. انحنى المسيح وتناول قبضة من الطين وقال: ما هذه؟ قبضة طين، هل فيها روح؟ كلاّ.

فإذا صنعت منها كهيئة الطير، وإذا نفخت فيها وأصبحت طيراً بإذن الله؟

قالوا بدهشة: ماذا تعني؟! اعني انني قادر على أن انفخ فيها فتصير طيراً بإذن الله، ذلك أن الله هو واهب الحياة، وأن الله على كل شيء قدير.

وفي تلك اللحظات كان عيسى (عليه السلام) يصنع في قبضة الطين شكلاً يشبه الطير، اكتمل الشكل، ونفخ في ذلك الشكل الطيني، فجأة تحولت قبضة الطين إلى حمامة بيضاء، صفقت بجناحيها، ثم طارت في الفضاء الأزرق. وامتلأ المسيح خشوعاً لله القادر الخالق البارئ المصوّر.

الحوّاريون:

هل آمن بنو إسرائيل بعيسى؟ هل خشعوا لله؟ كلاّ، كان الكهنةُ يزدادون حقداً، وراحوا يشيعون بين الناس البُسَطاء: أن عيسى شابٌ كافر. راحوا يتآمرون لقتله، شعر عيسى أن الكفر يبرق في عيونهم من أجل هذا هتف مَنْ أَنصَارِي إِلَى الله؟

 فنهض اثنا عشر رجلاً وهتفوا: (نَحْنُ أَنْصَارُ الله آمَنَّا بِالله وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ)[2].

ثم اتجهوا بأبصارهم نحو السماء وقالوا: (رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ)[3].

عازر:

كان سيدنا المسيح يحب صديقاً له اسمه عازر، وكان عازر شابّاً مؤمناً. ذات يوم ذهب عيسى إلى منزل عازر سأل عنه، خرجت أمّه تبكي قالت: لقد مات.. ودفن قبل ثلاثة أيام، قال المسيح (عليه السلام): أتحبين أن تريه؟ قالت الأم المؤمنة: نعم يا روح الله، قال عيسى(عليه السلام): غداً سآتي لأحييه بأذن الله.

وفي الصباح الباكر، جاء عيسى (عليه السلام) وقال للأم: انطلقي معي إلى قبره. وقف المسيح عيسى بن مريم أمام القبر واتجه ببصره إلى السماء وراح يتضرع إلى الله واهب الحياة، ثم هتف بإيمان ملتهب: انهض من نومتك يا عازر، فجأة انزاح التراب، وانشق القبر، وخرج عازر من قلب التراب، عانقت الأم ابنها ودموع الفرح تموج في عينيها.

قال المسيح (عليه السلام): أتحب أن تبقى مع أمّك؟ قال عازر: نعم يا كلمة الله، قال المسيح (عليه السلام): إن الله قد كتب عمراً جديداً، سوف تتزوج ويرزقك الله أولاداً صالحين.

المائدة السماوية: أوحى الله إلى الحواريين، أن آمنوا بي وبرسولي، قالوا: آمنّا واشهد باننا مسلمون، التف الحواريون حول الرسول عيسى بن مريم يصدقونه، ويدافعون عنه، كانوا مثل جيش صغير، ولكنّه قوي، وكان المسيح (عليه السلام) وجيهاً في الدنيا والآخرة، بلغ من إيمانه انه كلّما سأل الله سبحانه شيئاً استجاب له، ولم يكن عيسى ليسأل إلاّ من أجل أن يؤمن الناس بالله ويعودوا إلى فطرتهم الأولى. كان مثل راع طيّب، حريص على خرافه أن تشذّ فتخطفها الذئاب، وكان الفقراء من بني إسرائيل، مثل خراف ضالّة، وكان الكهنة المنافقون مثل الذئاب، يختطفون الفقراء، ويقتلون في نفوسهم الإيمان برسالة المسيح (عليه السلام).

ذات كان الحواريون جائعين، وكان المسيح عندما يجوع يقتطف بعض النباتات البرية ويسدّ بها جوعه، الحوّاريون لا يستطيعون ذلك، لقد كان المسيح زاهداً، علّم نفسه كيف يكون سيّداً لمعدته، تهامس الحواريون فيما بينهم، أن المسيح الذي خلق من الطين كهيئة الطير، ثم نفخ فيه فكانت طيراً، والمسيح الذي نادى على عازر في قبره فنهض، يستطيع أن يسأل الله طعاماً نأكله، من أجل هذا قالوا: (إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنْ السَّمَاءِ....). تأثر عيسى (عليه السلام) بشدّة، هل يشك هؤلاء بقدرة الله؟ قال لهم محذراً: (.. اتَّقُوا الله إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ)[4]. قَالُوا: (.... نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنْ الشَّاهِدِينَ)[5]؛ أي سوف نشهد بهذه المعجزة أمام الناس جميعاً، فتكون دليلاً آخر على صدق رسالتك، ونريد أيضاً أن نتبرك بمائدة سماوية كريمة، سكت سيدنا عيسى (عليه السلام)، وكان وجهه المضيء حزيناً، وقد شعّ من عينيه نور سماوي. سجد المسيح(عليه السلام) لله رب السماوات، ثم رفع رأسه إلى الفضاء الأزرق وهتف من أعماق نفسه الطاهرة: (قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللهمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنْ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ)[6].

وتألق نور سماوي غمر المكان وسمع عيسى (عليه السلام) والحواريون كلاماً مهيباً ينفذ في القلوب إنّ صوت الله يقول لهم: (قَالَ الله إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنْ الْعَالَمِينَ)[7].

وهبطت مائدة سماوية فيها رزق كريم، وكانت حافلة بالخبز واللحم، وملأت رائحة الطعام الفضاء، وجاء الجياع، وجاء الفقراء الذين لا يجدون شيئاً يأكلونه، جاءوا إلى عيسى بن مريم ليطعمهم، ووجدوا المائدة الكريمة فأكلوا وشبعوا، وأكل الناس في ذلك اليوم أهنأ وأطيب طعام.

الشفاء: ذات مرّة دعا أحد الحواريين سيدنا المسيح (عليه السلام) إلى منزله ولبّى المسيح (عليه السلام) الدعوة فمضى معه.

في الطريق رأى المسيح شابّاً يسير والناس يسخرون منه، كان الشاب أبكم لا يسمع شيئاً لهذا فهو لا يستطيع أن يتكلم؛ لأنه لم يسمع كلاماً أبداً ولكنه كان ينظر بحيرة إلى الناس وهم يضحكون منه، وضع المسيحُ كفّيه بلطف ومسح على رأسه وأذنيه وحدثت المعجزة أن الشاب ولأول مرّة بدأ يسمع، وتحولت سخريات الناس إلى دهشة، وبعضهم آمن بالمسيح (عليه السلام) وأصبح من أتباعه، ومضى المسيح (عليه السلام) في طريقه إلى منزل صديقه في الصباح سمع المسيح (عليه السلام) أصوات طَرْق على الباب، وكانت الحجارة تنهال بشدّة.

وخرج المسيح (عليه السلام) ليرى ما يجري، رأى رجلاً أبرص والناس يقذفونه بالحجارة لكي يجبروه على مغادرة القرية، كانوا يرمونه من بعيد، ويتقززون من رؤيته، وضع المسيح (عليه السلام) يده المباركة ومسح على وجهه مثلما يذوب الملح في الماء اختفت آثار المرض وعادت الفرحة إلى وجه الفتى. أمّا الناس فقد راحوا يتدافعون نحو السيد المسيح (عليه السلام) للتبرّك به.    

عاش المسيح (عليه السلام)، من أجل الفقراء، ومن أجل البؤساء والمساكين. كان يُرشدُ الناس إلى النور، من أجل هذا، حقد كهنة اليهود، وراحوا يحرّضون على قتل المسيح. وانه مرتدّ عن شريعة موسى (عليه السلام). وذات يوم اندفعوا نحو المعبد، وكان المسيح مع حوّاريه، كانوا يريدون قتله وتدخلت الشرطة، وسيق المسيح مخفوراً إلى القصر، واندفع الغوغاء وراءه، خرج فيلاتوس ليتحدث معهم حول سبب نقمتهم، فجاءت الصيحات من كل مكان: هو كافر ملحد، خائن، أغلق الحرسُ بوابة القصر، وراح فيلاتوس يتأمل في وجه المسيح.. الصفاء والسلام يشعان من عينيه، تساءل في نفسه: إن شاباً كهذا لا بدّ وانه يحمل أفكاراً صافية.

قال فيلاتوس: هناك من يقول انك تدعو الناس وتحرّكهم ضد الحكومة؟!. قال المسيح بثقة: انني أدعو إلى عودة الروح.. إلى أن يحسن الإنسان إلى أخيه الإنسان إلى أن يعبد الله الواحد الأحد.كان فيلاتوس قد قرأ عن مذاهب بعض فلاسفة اليونان فلم يجد في أفكار عيسى خطراً على روما من أجل هذا فتُحت بوّابة القصر وأُفرج عن المسيح. أمّا اليهود فقد راحوا يُشِيعُون ان الحاكم قد تأثر بأفكار المسيح، وأنه يريد خيانة القيصر، كانوا خبثاء لم يكتفوا ببث الشائعات بل راحوا يسجّلون الطوامير ويبعثون بالرسائل إلى روما لعزله عن الحكم.

وهكذا حدثت فوضى في البلاد، وخاف الحاكم من أن تنقلب الأمور ضدّه، فسمح لليهود أن يفعلوا بالمسيح ما يشاءون.

كان اليهود في ذروة حقدهم، وكان الكهنة مثل الذئاب يبحثون عن المسيح، ليمزّقوه بأسنانهم، لا لذنب إلاّ لإنسانيته إلاّ لأنه جاء بالشريعة الحقيقية، كما أنزلها الله على سيدنا موسى (عليه السلام) كان كهنة اليهود في اجتماع صاخب، يبحثون في كيفية إلقاء القبض على عيسى ين مريم (عليه السلام).

وانتشر الجواسيس في كل مكان للبحث عنه، وكان اختفاء المسيح قد أثار لهم قلقاً، لأنّ في بقائه خطراً على مصالحهم. رَصدَ الكهنةُ جوائزَ مغرية لمن يعثر عليه أو يقدّم لهم معلومات تساعد في القبض عليه.

 نجح اليهود في الحصول على الضوء الأخضر في قتله، وهاهم يبحثون عنه في كل مكان، وقد وضع الحاكم الروماني مفرزة من الجنود تتولى القبض عليه وصلبه. أين يا تُرى كان المسيح (عليه السلام)؟
كان المسيح يتنقل بخفاء من مكان إلى آخر، وكان يمضي كل ليلة في مكان ومعه بعض أتباعه، وذات ليلة، اختبأ عيسى (عليه السلام) في بستان مع بعض الحوّاريين ونهض المسيح - بعد أن تناولوا طعامهم - ليلقّن أتباعه درساً في التواضع، فغسل أيديهم، قائلاً: لقد فعلت ذلك حتى أكون لكم قدوة، فتواضعوا للناس.
وفي تلك الليلة قال المسيح وقد شعر بالغدر، أخبركم أن الراعي سيذهب، وستبقى الغنم وحدها وسيكفر بي أحدكم قبل أن يصيح الديك ثلاث مرّات، وتبادل الحوّاريون النظرات، وكانت عينا يهوذا الاسخريوطي تبرقان بالغدر، كانت تلك الليلة شتائية قارصة البرد، عندما نام الجميع تسلّل يهوذا خارجاً كان يفكر في الذهب.. في الجائزة التي سيحصل عليها، لهذا اتجه إلى المعبد حيث كهنة اليهود يترقّبون الأخبار، وهمس يهوذا في أذن الكاهن الأكبر، وتسلّم حفنة من النقود الذهبية، وصاح الديك ثلاث مرّات، وأصدر الكهنة أوامرهم إلى مفرزة الجنودِ الرومان بمرافقة يهوذا الاسخريوطي، كان يهوذا متلثماً حتى لا يعرفه أحد، كان يسير والجنود يسيرون وراءه، واستيقظ الناس وحدثت الفوضى، واقتحم عشرات الجنود البستان، فرّ الحوّاريون في جميع الاتجاهات، وأراد الله أن ينتقم من الغادر فألقى شبه السيد المسيح على وجه يهوذا. اما المسيح فقد رفعه الله إلى السماء بعيداً عنهم وخلّصه من مؤامرات اليهود القذرة.

 


[1] سورة الصف: الآية 6.

[2] سورة آل عمران: آية 52.

[3] سورة آل عمران: آية 53.

[4] سورة المائدة: آية 112.

[5] سورة المائدة: آية 113

[6] سورة المائدة: آية114.

[7] سورة المائدة:آية115.