الحكمة من غَيبة صاحب الزمان (عجل الله فرجه الشريف)

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين نتناول في هذا البحث المختصر بعض الحكم التي ذكرت لغيبة مولانا الإمام المهدي (عجل الله فرجه الشريف).

وقبل بيان بعض الحِكم التي تُذكر لغَيبة الإمام (عليه السلام) لابد من معرفة إنّ مسألة غيبته (عليه السلام) من المسائل المهمّة الغامضة، ولا يهتدي أحد إلى أسرارها، فلا شكّ أنّ الله جعل ذلك لأسباب ومصالح، وأخفاها علينا، ولا تظهر تلك الأسرار إلّا بعد ظهوره (عليه السلام)، وقد يختلج في الذهن بعض الأسئلة، منها:

هل حصلت الغيبة لنبيّ أو وصيّ قبل الإمام المهدي (عليه السلام)؟

الجواب:

إنّ مسألة الغَيبة لم تختصّ بالإمام الحجة (عليه السلام)، بل حصل ما يشابه هذه الغَيبة لبعض أنبياء الله العظام (عليهم السلام)، كآدم، ونوح، وإدريس، وصالح، وإبراهيم، ويوسف، وموسى، وشعيب، وإسماعيل، وإلياس، ولوط، ودانيال، وعزير، وعيسى (عليهم السلام)، ونبيّنا محمّد (صلى الله عليه واله)، فكان لبعضهم غَيبة قصيرة، ولبعضهم غَيبة طويلة، وبعضهم غاب ولا يزال غائباً إلى الآن، فنبيّ الله صالح (عليه السلام) غاب عن قومهِ فترة من الزمن ثمّ رجع إليهم، فافترق قومه فيه إلى ثلاثة فِرق: فرقة أنكروا نبوّته، وفرقة ما زالت في الشكّ، وفرقة بقيت على الوفاء بعدها وإيمانها به؛ وأمّا إدريس، فغاب عن قومهِ بعد مواجهة طاغوت عصره ما يقارب عشرين سنة، فقال لعشرة من أتباعهِ قبل غَيبتهِ: لقد دعوت الله عزّ وجلّ أن يحبس قطر السماء عن هذه البلدة فأخرجوا أنتم منها أيضاً. وهكذا إلياس (عليه السلام)، الذي خرج إلى الصحاري والقفار وغاب عن قومه سبع سنين. وهكذا موسى (عليه السلام)، غاب سبع وعشرين سنة، ودانيال (عليه السلام)، غاب تسعين سنة.

فالمسألة لم تنحصر بالإمام المهدي (عليه السلام)، بل سبقه جمع من الأنبياء (عليهم السلام) في ذلك، فانّ الله عزّ وجلّ أجرى سننه في أنبياءهِ، ومن المعلوم أن يجري شبيه هذه السنن في قائم آل محمّد (عجل الله فرجه)، ومن جملة هذه السنن مسألة غَيبة الأنبياء (عليهم السلام)، فكان اللازم عليهم طبقاً للمصالح والعلل أن يغيبوا مدّة عن قومهم، وكانت هذه الغيبات تطول أحياناً وتقصر اُخرى، وفي اُمّة الإسلام أيضا جرت هذه المسألة بالإمام المهدي (عليه السلام).

يقول سدير الصيرفي: قال الإمام الصادق (عليه السلام): (إنّ للقائم منّا غَيبة يطول أمدها فقلت: ولِمَ ذلك يا بن رسول الله؟ قال: إنّ الله عزّ جلّ أبى إلّا أن يُجري منه سنن الأنبياء في غيباتهم، وأنّه لا بدّ له ـ يا سدير ـ من استيفاء مدد غيباتهم. قال الله تعالى (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ) أي سنناً على سنن من كان قبلكم، وهذه تُذكر كحِكمة من حِكم غيبته (عليه السلام)، ولنجعلها الحِكمة الاولى.

الحِكمة الثانية:

لعلّ من أهمّ الحِكم في غَيبة الإمام المهدي (عليه السلام) هي اختبار الشيعة وامتحانهم في غَيبة إمامهم، وما أصعب هذا الاختبار حتّى يتميّز فيه المخلص من غيره، والجيّد من الرديء.

قال الإمام الصادق (عليه السلام): (والله لا يكون الذي تمدّون إليه أعناقكم حتّى تميّزوا وتمحّصوا، ثمّ يذهب من كلّ عشرة شيء، ولا يبقى منكم إلّا الأندر، ثمّ تلا هذه الآية: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ)، وروي عن جابر الجعفي، قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): متى يكون فرجكم؟ فقال: (هيهات لا يكون فرجنا حتّى تغربلوا، ثمّ تغربلوا، ثم تغربلوا، يقولها ثلاثاً حتّى يذهب الله تعالى الكدر ويبقى الصفو). 

وورد أيضاً في عدّة روايات تعابير مختلفة عن هذا التمحيص، والاختبار بقولهم إلّا بعد إياس، أو حتّى يشقى من شقي، أو إنّما هي محنة من الله، أو حتّى يذهب ثلثا النّاس، أو كمخيض الكحل في العين، أو لتكسرنّ كسر الزجاج، أو لتكسرنّ كسر الفخار.

الحِكمة الثالثة:

تأديب النّاس: من سنن الله عزّ وجلّ تأديب النّاس إذا كفروا بالنعم الإلهية، ولم يؤدّوا شكره، ومن أفضل الأساليب للتأديب، سلب النعمة منهم؛ ممّا يسبّب انتباههم، وتغيير ما بأنفسهم، فيعودوا إلى التضرّع، والابتهال إلى الله تعالى؛ حتّى يعيد عليهم تلك النعم التي سلبت منهم لكفرهم، وأيّ نعمة أعظم، وأكثر بركة من وجود النبيّ والمعصومين (عليهم السلام)، فهم الذين عاشوا قرابة (٢٧٣) سنة بين النّاس، أي من بداية البعثة النبويّة إلى استشهاد الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)، ولكنّ النّاس لم يعرفوا منزلتهم، فأخذ الله عزّ وجلّ هذه النعم منهم، ولقد حاربتهم الحكومات الظالمة، وزجّتهم في السجون، واستهانت بهم، وقتلتهم واحداً تلو الآخر، فلو عرف النّاس منزلة هذه النعم لما أصابنا اليوم حرقة فراق الإمام (عليه السلام). روي الشيخ الصدوق في علله بسنده عَنْ مَرْوَانَ الْأَنْبَارِيِّ، قَالَ: خَرَجَ مِنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام): (إِنَّ الله إِذَا كَرِهَ لَنَا جِوَارَ قَوْمٍ، نَزَعَنَا مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ).

الحِكمة الرابعة:

حتّى لا يكون في عنقه بيعة لأحد: ومن الحِكَم المشار إليها في الروايات ألا تكون لأحد في عنقه بيعة: لأنّ الإمام المهدي (عليه السلام) ـ كما أشارت الروايات بذلك ـ تختلف ظروفه تماماً عن سائر المعصومين (عليهم السلام)، فهو لا يخضع لأي سلطة، فلو ظهر قبل تحقّق شروط ظهوره، فإمّا أن يكون تابعاً لحكومة معيّنة وخاضعاً لها، وهذا الأمر مخالف لما روي، فعليه أن يكون غائباً حتّى لا يكون في عنقه بيعة لأحد من الخلق.

  عن الحسنِ بنِ فَضّالٍ عنِ الإمامِ الرضا (عليه السلام): (كأنّي بالشِّيعةِ عندَ فِقْدانِهِم الثّالثَ مِن وُلدي يَطلُبونَ المَرعى فلا يَجِدونَهُ! قلتُ له: ولِمَ ذلكَ يا بنَ رسولِ الله ِ؟ قال: لأنَّ إمامَهُم يَغيبُ عنهُم، فقلتُ: ولِمَ؟ قالَ: لِئلاّ يكونَ لأحدٍ في عُنُقِهِ بيعةٌ إذا قامَ بالسَّيفِ).

الحِكمة الخامسة:

الخوف من القتل: ورد في عدّة روايات عن الإمامين الباقر والصادق (عليهما السلام)، حِكمة أُخرى لغَيبة الإمام المهدي (عليه السلام)، وهي الخوف من القتل، فعن زرارة عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: (إنّ للغلام غَيبة قبل ظهوره، قلت: لِمَ؟ قال: يخاف، وأومأ بيده إلى بطنه. قال زرارة: يعني القتل). 

فلو قيل: ألم يكن بقيّة المعصومين (عليهم السلام)، قد عاشوا بين النّاس رغم أنّهم كانوا عرضة للقتل؟

  قلنا: مع علم الظالمين بأن الأئمة المعصومين (عليهم السلام)، لم يقصدوا السلطة، ولكن مع ذلك خلقوا لهم مشاكل من التضييق، والتهمة، والحبس، والقتل، فكيف بالإمام المهدي (عليه السلام)، الذي يقوم بالسيف، ويُنكِّس المستكبرين من على عروشهم، فهل يمكنه أن يعيش بكلّ حريّة بين النّاس من دون أي مضايقة وشدّة من قِبل سلاطين الجور، فلا شكّ أنّه مهدّد بالقتل أينما وجد، وإن رأوه معلّقاً بأستار الكعبة.

  ومن جهة أُخرى: هناك اختلاف بين ظرف الإمام المهدي (عليه السلام)، وظروف الأئمة (عليهم السلام)، الذين سبقوه، فإنّه لو قتل أحدهم كان آخر يقوم مقامه، أما إذا قتل الإمام المهدي (عليه السلام)، فمن الذي يقوم مقامه؟! ومَنْ يملأ الأرض عدلاً بعد ما تُملئ ظلماً وجوراً، فخوفاً من قتله قبل ظهوره وجبت غيبته.

  وأمّا الخوف المصرّح به في الروايات فلا يكون على نفسه كخوفنا على أنفسنا؛ لأنّ الشهادة، والقتل في سبيل الله هي إحدى الكرامات التي يفتخر بها الأئمّة (عليهم السلام)، والإمام المهدي (عليه السلام)، أيضاً سوف يستشهد في النهاية على ما قيل، ولكن علينا أن نعرف ما هو سبب خوفه؟

فنقول: إذا قُتل قبل أن يظهر، فإنّ الأرض ستخلو من الحجّة، وهذا غير ممكن، وستبقى أيضاً دولة الحقّ بدون قائدها، وهو غير ممكن أيضاً.

الحِكمة السادسة:

من حِكم غيبة مولانا صاحب الزمان (عليه السلام) حتّى يخرج المؤمنون من أصلاب الكافرين.

لا شكّ أنّ في كثير من أصلاب الكفّار رجال مؤمنون، ولا يظهر الإمام المهدي (عليه السلام)، إلّا بعد تفريغ هذه الأصلاب؛ لأنّه عندما يظهر لا يساوم مع أعدائه، فانه سوف يقضي عليهم إن لم يدخلوا في السلم كافّة، فلو لم تفرغ هذه الأصلاب قبل الظهور المبارك، ولم يُولد مَنْ كان مِن حقّه أن يعيش ويستضيئ بنور الإمام المهدي (عليه السلام) لا يظهر الإمام (عليه السلام)، ومن هنا فإنّ الإرادة الإلٰهيّة قد اقتضت أن تطول غيبة الإمام (عليه السلام) الغائب حتّى يأتي إلى الدنيا جميع المؤمنين ممّن لا بدّ أن يولدوا.

روى القمّي عن أحمد بن عليّ، قال: (حدّثنا الحسين بن عبد الله السعدي، قال: حدّثنا الحسن بن موسى الخشّاب، عن عبد الله بن الحسين، عن بعض أصحابه، عن الكرخي، قال رجل لأبي عبد الله (عليه السلام): ألم يكن عليّ قوياً في بدنه، قويّاً في أمر الله؟ قال له أبو عبد الله (عليه السلام): بلى. قال له: فما منعه أن يدفع أو يمتنع؟ قال: قد سألتَ فافهم الجواب، منع عليّاً من ذلك آية من كتاب الله.

فقال: وأيّ آية؟ فقرأ: (لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) إنّه كان لله ودائع مؤمنون في أصلاب قوم كافرين ومنافقين، فلم يكن عليّ (عليه السلام) ليقتل الآباء حتّى تخرج الودائع، فلمّا خرج ظهر على من ظهر وقتله، وكذلك قائمنا أهل البيت، لم يظهر أبداً حتّى تخرج ودائع الله، فإذا خرجت يظهر على من يظهر فيقتله). 

الحِكمة السابعة:

هي لكي يقر جميع المخالفين بفشلهم في قيادة الأمة: من الممكن أن يكون من أسباب طول غيبته (عليه السلام)، هو أن يمارس جميع المخالفين تطبيق نظرياتهم التي يؤمنون بصحتها مع مخالفتها للمذهب الحق حتى يتيقنوا بفشلهم، ويستسلموا للأمر الواقع حتى إذا ظهر الإمام الحجة (عليه السلام)، لا يبقى أحد على الأرض يقول لو ثنيت ليّ الوسادة قبل ظهوره لا صلحت الأرض فعند فشلهم، وظهور الإمام (عليه السلام)، يكون الإقرار والإذعان إلى ان الإصلاح لا يكون إلّا بإتباع أوامر الله ورسوله وأهل بيته (عليهم السلام).

عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عُمَيْرٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللِه (عليه السلام) أَنَّهُ قَالَ: (مَا يَكُونُ هَذَا الْأَمْرُ حَتَّى لَا يَبْقَى صِنْفٌ مِنَ النَّاسِ إِلَّا وقَدْ وُلُّوا عَلَى النَّاسِ حَتَّى لَا يَقُولَ قَائِلٌ إِنَّا لَوْ وُلِّينَا لَعَدَلْنَا ثُمَّ يَقُومُ الْقَائِمُ بِالْحَقِّ والْعَدْلِ).

هذا ما أطلعنا عليه من الروايات في هذا المضمون ولعل هناك غيرها نسأل الله النفع للمؤمنين بما ذكرنا والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الخلق أجمعين محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين.