اتسمت مرحلة ما بعد رحيل الخاتم (صلى الله عليه وآله) عن عالم الدنيا بالمرحلة الحساسة والخطيرة، إذ أن الأمة الإسلامية والصحابة بالخصوص افترقوا فرقتين، فرقة قبلت بخلافة الأول وسارت مع من اختارته سقيفة بن ساعدة، وفرقة ترى الحقَّ -وهو الحقُّ- مع خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله) الحقيقي علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وقد عرف أتباع أمير المؤمنين (عليه السلام) بصلابة موقفهم وقوة منطقهم وعمق عقيدتهم بالصديق الأكبر والفاروق الأعظم علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ومن أولئك الأفذاذ الذين كان لهم قدم صدق مع أمير المؤمنين (عليه السلام) هو الموالي المخلص ضرار بن ضمرة الكناني (رضوان الله تعالى عليه)، ذلك الصحابي الذي عاصر أمير المؤمنين (عليه السلام) وأخلص له صحبته بل كان خواص أصحابه وأتباعه.
لم ينقل لنا التاريخ الكثير عن حياة هذا البطل الشجاع سوى بعض المواقف القليلة التي أثرت عنه، وفي الحقيقة أن تلك المواقف القليلة صنعت تاريخاً كبيراً وعظيماً لهذا الإنسان الكامل، فقد إثر عنه ذلك الموقف الشجاع والفريد مع معاوية بن أبي سفيان حين طلب منه أن يصف له أمير المؤمنين (عليه السلام)، ذلك الموقف الذي قد يكلفه رقبته آنذاك، لكن يقينه وعقيدته بمولى الموحدين (عليه السلام) جعله لم يتزلزل له قدم، ولم يرجف له جفنٌ أمام جبروت وطغيان معاوية، فقد روي عنه (رضوان الله عليه) أنه دخل على معاوية، فَقَالَ لَهُ ـ معاوية ـ : صِفْ لِي عَلِيّاً؟
فَقَالَ لَهُ: أَوَ تُعْفِينِي مِنْ ذَلِكَ؟
فَقَالَ: لَا أُعْفِيكَ.
فَقَالَ: كَانَ واللهِ بَعِيدَ الْمُدَى، شَدِيدَ الْقُوَى، يَقُولُ فَصْلًا، وَيَحْكُمُ عَدْلًا، يَتَفَجَّرُ الْعِلْمُ مِنْ جَوَانِبِهِ .... إلخ.
ثم قال: كَانَ وَاللهِ غَزِيرَ الْعَبْرَةِ، طَوِيلَ الْفِكْرَةِ، يُقَلِّبُ كَفَّهُ، ويُخَاطِبُ نَفْسَهُ، وَيُنَاجِي رَبَّهُ، يُعْجِبُهُ مِنَ اللِّبَاسِ مَا خَشُنَ، وَمِنَ الطَّعَامِ مَا جَشَبَ.
فَوَكَفَتْ دُمُوعُ مُعَاوِيَةَ عَلَى لِحْيَتِهِ فَنَشَفَهَا بِكُمِّهِ،واخْتَنَقَ الْقَوْمُ بِالْبُكَاءِ.
ثُمَّ قَالَ ـ معاوية ـ: كَانَ واللهِ أَبُو الْحَسَنِ كَذَلِكَ، فَكَيْفَ كَانَ حُبُّكَ إِيَّاهُ؟
قَالَ: فَكَيْفَ صَبْرُكَ عَنْهُ يَا ضِرَارُ؟
قَالَ: صَبْرَ مَنْ ذُبِحَ وَاحِدُهَا عَلَى صَدْرِهَا، فَهِيَ لَا تَرْقَى عَبْرَتُهَا،ولَا تَسْكُنُ حَرَارَتُهَا.
ثُمَّ قَامَ وخَرَجَوهُوَبَاكٍ)[1].
هكذا كان ضرار (رضوان الله عليه) في عقيدته وإيمانه بخليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وهكذا فعل به فراق أمير المؤمنين (عليه السلام)، حتى جعله والهاً حزيناً!
المصدر: المجلة اليقين العدد (48)، الصفحة (11).