قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في كلام له لكميل بن زياد (رضي الله عنه): «النّاسُ ثَلَاثَةٌ، عَالِمٌ رَبّانِيٌّ، وَمُتَعَلِّمٌ عَلَى سَبِيلِ نَجَاةٍ، وَهَمَجٌ رَعَاعٌ، أتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ، يَمِيلُونَ مَعَ كُلِّ رِيحٍ، لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِنُورِ الْعِلْمِ، وَلَمْ يَلْجَئُوا إِلَى رُكْنٍ وَثِيق»[1].
إنّ من أهم الواجبات على المؤمنين في عصر غيبة الإمام (عجل الله تعالى فرجه الشريف) هو أن يتعاملوا بتثبّت وحذر شديد فيما يتعلق به (عليه السلام) وبظهوره وسبل الارتباط به، فان ذلك من أصعب مواطن الاِبتلاء ومواضع الفتن في طول عصر الغيبة.
فكم من صاحب هوى مبتدع، تلبّس بلباس أهل العلم والدين، ونسب نفسه إليه(عليه السلام)، مستغلاً طيبة نفوس الناس، وحسن ظنهم بأهل العلم، وشدّة تعلقهم بأهل بيت الهدى(عليهم السلام)، وانتظارهم لأمرهم، فاستمال بذلك فريقاً من الناس وصلة به إلى بعض الغايات الباطلة، ثم انكشف زيف دعواه، وقد هلك وأهلك الكثيرين، وكم من إنسان استرسل في الاعتماد على مثل هذه الدعاوى الباطلة والرايات الضالة، بلا تثبّت وحذر، فظن نفسه من المتعلّمين على سبيل نجاة، ولكنه كان في واقعه من الهمج الرُّعاع، قد تعثّر بعد الاِستقامة، وخرج عن الحقِّ بعد الهداية، حتى أتخذ إليه(عليه السلام) طريقاً موهوماً، بل ربما استدرج للإيمان بإمامة غيره من الأدعياء، فأندرج في الحديث الشريف «مَنْ مَاتَ لا يَعرِفُ إمامَهُ مَاتَ ميتَةً جاهِلِيَّةً»[2].
وقد اتّفق من هذه الحركات منذ الغيبة الصغرى إلى هذا العصر شيء كثير حتى أنه ربما كان في زمان واحد عدد من أدعياء الإمامة والسفارة، بحيث لو وقف الناظر على ذلك لكان فيه عبرة وتبصّر، ولتعجّب من جرأة أهل الأهواء على الله سبحانه وعلى أوليائه (عليهم السلام) بالدعاوي الكاذبة؛ وصلةً إلى شيء من حطام هذه الدنيا، واستغرب سرعة تصديق الناس لهم، والاِنسياق وراءهم مع ما أمروا به من الوقوف عند الشبهات، والتجنّب عن الاسترسال في أمور الدين؛ فان سرعة الاِسترسال عثرة لا تقال.
ألا وإنّ الإِمام (عليه السلام) حين يظهر يكون ظهوره مقروناً بالحجّة البالغة والمحجّة الواضحة والأدلة الظاهرة، محفوفاً بعنايته سبحانه، مؤيداً بنصره؛ حتى لا يخفى على مؤمن حجته، ولا يضل طالب للحق عن سبيله، فمن استعجل في ذلك فلا يضلّن إلا نفسه، فإن الله سبحانه لا يعجل بعجلة عباده.
كما أن المرجع في أمور الدين في زمان غيبته (عليه السلام) هم العلماء المتقون، ممن اخُتِبَر أمرهم في العلم والعمل، وعلم بُعدهم عن الهوى والضلال، كما جرت عليه هذه الطائفة منذ عصر الغيبة الصغرى إلى عصرنا هذا.
ولا شك في أن السبيل إلى طاعة الإمام (عليه السلام) والقرب منه ونيل رضاه هو الالتزام بأحكام الشريعة المقدسة، والتحلّي بالفضائل، والابتعاد عن الرذائل، والجري وفق السيرة المعهودة من علماء الدين وأساطين المذهب وسائر أهل البصيرة التي لا يزالون يسيرون عليها منذ زمن الأئمة (عليهم السلام)، فمن سلك طريقاً شاذاً أو سبيلاً مبتدعاً فقد خاض في الشبهة، وسقط في الفتنة، وضل عن القصد.
ولْيُعْلَم أن الروايات الواردة في تفاصيل علائم الظهور هي كغيرها من الروايات الواردة عنهم (عليهم السلام) لا بدّ في البناء عليها من الرجوع إلى أهل الخبرة والاختصاص؛ لأجل تمحيصها وفرز غثها من سمينها ومحكمها من متشابهها، والترجيح بين متعارضاتها، ولا يصح البناء في تحديد مضامينها وتشخيص مواردها على أساس الحدس والتظنّي؛ فإن الظن لا يغني من الحق شيئاً.. وقد أخطأ في أمر هذه الروايات فئتان: فئة شرعوا في تطبيقها واستعجلوا في الأخذ بها ـ على حُسن نية ـ من غير مراعاة للمنهج الذي تجب رعايته في مثلها، فعثروا في ذلك، ومهّدوا السبيل من حيث لا يريدون لأصحاب الأغراض الباطلة،... وفئة أخرى من أهل الأهواء، فإنه كلّما أراد أحدهم أن يستحدث هوى ويرفع راية ضلال ليجتذب فريقاً من البسطاء والسذج اختار جملة من متشابهات هذه الروايات وضعافها، وتكلّف في تطبيقها على نفسه وحركته، ليُمنّي الناس بالأماني الباطلة، ويغرّرهم بالدعاوي الباطلة، فيوقع في قلبهم الشبهة، وقد قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «فَاحْذَرُوا الشُّبْهَةَ واشْتِمَالهَا على لبْسَتِهَا، فَإِنَّ الفِتْنَةَ طَالمَا أَغدقتْ جَلابيبَها، وأَعْشَتِ الأَبْصَارَ ظُلْمَتُهَا»[3]، وَقَالَ(عليه السلام): «إِنّ الْفِتَنَ إِذَا أَقْبَلَتْ شَبَّهتْ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ نَبَّهَتْ، يُنْكَرْنَ مُقْبِلاَت، وَيُعْرَفْنَ مُدْبِرَات»[4] [5].
المصدر: مجلة اليقين العدد (38)