ولد في رحم الكمال قبل الخلق أعواما، ورُفعت له على يد الوحي من كل الفضائل أعلاما، وعاش في ديارٍ - غير ديار الآخرة - غريبا، وبين تلك الحيطان الطينية التي ما رأت زخرفاً خادعاً ولا سلطاناً زائلا قضى أيامه عبد عائلا، قد أحيى حياته بالعبادة، وجمّلها بالزهادة، وانتزع لكل صدرٍ من الدنيا سهما من الآخرة، وسنّ لكل حبل من الشيطان حدّا من التوبة..
قابل أذى المشركين بحلمه، وأعرض عن مجازاة بغيهم بكرمه، تطمع الناس في عفوه عند غضبه، وبجوده عند عسره، وباستغفاره بعد مماته، وله مع ذلك في يوم القيامة مقاما محمودا يغبطه به الأولون والآخرون..
أخوه أمير المؤمنين، وبضعته سيدة نساء العالمين، وولداه سيدا شباب أهل الجنّة، وذريته سادة الخلق أجمعين، بعد أن آتاه الله من فضله الكوثر.. وجعل شانئه هو الأبتر..
قد عقد للحسين(عليه السلام) قبل موته مأتما، ولم يجد في إذن ربه بقتله مغرما، فلله كفٌ ضمّت تربة مضمّخة بالدماء، ولله قلب اطّلع على غيب شهادة النجباء، فوجد في بكائه للحسين (عليه السلام) مغنما يُحييه بعده خالص العُبّاد، ويقتصّ أثره في ذلك العباد..
هنيئا لك يا أبا الزهراء بما أنعم الله عليك حين أيّدك بوليّه الضرغام، وسيفه الصمصام، والصدّيق الهُمام.. فقرّبه منك، وألصقه بك، حتى جعله نفسك التي بين جنبيك، وقد وفى لك الوصي بعهده، وبذل فيك خالص مهجته، وصدّقك على الضيق والسعة، ولزمك عند الخذلان والنصرة، فكان ساعدك الذي به تصول، ولسانك الذي به تقول، وبابك الذي منه تُؤتى.. ذلك هو علي بن أبي طالب(عليه السلام): صاحبك عند الوحدة، وأنيسك عند الوحشة، والوعاء الذي من علمك ينهل، والمنكب الذي عن كاهلك يحمل، فبثثته شكواك وبثّك شكواه حتى كأنكما روح في جسدين، وأصل واحد في فرعين..
يا سيد الأنبياء.. إن لك في اليوم المشهود منزلة معلومة، وطاعة مفروضة، وحُكما مطاعا، وشفاعة مقبولة، فانظر لنا في ذلك اليوم نظرة الشفيق العطوف، واستنقذنا من ذلك الموقف المَخوف، وحاشا أن تلهيك لحظات راحة وانس، أو تركن للدعة منك نفس، وعيالٌ من أمتك قد سمّرهم في المحشر حساب طويل، وعلاهم شهيقُ عذابٍ مهول، وتكاملت عليهم ظُلَمُ الكُرَبِ والانحباس، وحشرجت في حناجرهم زفرات اليأس من الخلاص..
أولئك هم يا سيدي.. ينتظرون وصول فضلك إليهم كالسيل المنحدر ليستنقذهم من بين الظُلَم، عبادٌ تغذّوا من فاضل خوان كرمك، وناموا عند أعتاب أبواب رحمتك، وعَشت أبصارهم نحو سراجك النيّر البَهي، واعتاشت أنفسهم على يانع عودك الأخضر الطري، وشربت قلوبهم من معين مائك القدسي، فالتفّتْ أغصانهم على ولاء وصيك، وحفّت أوراقهم على محبة بضعتك، ونضجت أثمارهم على طاعة أهل بيتك.. جزاك الله عن أهل الأرض وأهل السماء أفضل الجزاء.