(مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَالله يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَالله وَاسِعٌ عَلِيمٌ)[1].
التفسير:
تعتبر مسألة الإنفاق إحدى أهم المسائل التي أكد عليها الإسلام والقرآن الكريم، والآية أعلاه هي أول آية في مجموعة الآيات الكريمة من سورة البقرة التي تتحدّث عن الإنفاق، ولعلّ ذكرها بعد الآيات المتعلّقة بالمعاد من جهة أنّ أحد الأسباب المهمة للنجاة في الآخرة هو الإنفاق في سبيل الله. وذهب بعضٌ إلى أنّ الآيات لها ارتباط بآيات الجهاد المذكورة قبل آيات المعاد والتوحيد في هذه السورة.
تقول الآية الشريفة: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ)، فيكون المجموع المتحصل من حبة واحدة سبعمئة حبة، وتضيف الآية بأنّ ثواب هؤلاء لا ينحصر بذلك: (وَالله يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ).
وذلك باختلاف النيّات ومقدار الإخلاص في العمل وفي كفيته وكميته، ولا عجب في هذا الثواب الجزيل؛ لأن رحمة الله تعالى واسعة وقدرته شاملة وهو مطلع على كلّ شيء: (وَالله وَاسِعٌ عَلِيمٌ).
ويرى بعض المفسرين أنّ المراد من الإنفاق في الآية أعلاه هو الإنفاق للجهاد في سبيل الله فقط؛ لأن هذه الآية في الواقع تأكيد لما مر في الآيات التي تحدثت عن قصة عزير وإبراهيم وطالوت، ولكن الإنصاف أن مفهوم الآية أوسع من ذلك ومجرد ارتباطها بالآيات السابقة لا يمكن أن يكون دليلا على تخصيص هذه الآية والآيات التالية؛ لأنّ عبارة: (فِي سَبِيلِ الله)، لها مدلول واسع يشمل كلّ مصارف الخير، مضافا إلى أن الآيات التالية أيضاً ورد فيها بحث الإنفاق بسورة مستقلة، وقد أشير كذلك في الروايات الإسلامية إلى عموم معنى الإنفاق في هذه الآية.
إن تشبيه المنفقين بحبات كثيرة البركة تشبيه رائع وعميق وكأن القرآن يريد أن يقول: إن عمل كل إنسان انعكاس لوجوده، وكلما اتسع العمل اتسع في الواقع وجود ذلك الإنسان.
وبعبارة أخرى: إنّ القرآن لا يفصل عمل الإنسان عن وجوده، بل يرى أنهما مظهران مختلفان لحقيقة واحدة، ووجهان لعملة واحدة، فالآية تشير إلى حقيقة أن شخصية الإنسان الصالح تنمو وتكبر معنويا بأعماله الصالحة، فمثل هؤلاء المنفقين كمثل البذور كثيرة الثمر التي تمد جذورها وأغصانها إلى جميع الجهات وتفيض ببركتها على كل الأرجاء.
والخلاصة: إنّه في كل مورد للتشبيه مضافا إلى وجود أداة التشبيه لابد من وجود ثلاثة أمور أخرى:
المشبه، والمشبه به، ووجه التشبيه، ففي هذا المورد المشبه هو الإنسان المنفق، والمشبه به هو البذور الكثيرة البركة، ووجه التشبيه هو النمو والرشد، ونحن نعتقد أن الإنسان المنفق ينمو ويرشد معنوياً واجتماعياً من خلال عمله.
وهناك بحث بين المفسرين في التعبير بقوله: (أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ)، فقد أشارت الآية إلى أنّ حبة واحدة تصير سبعمئة حبة أو أكثر، وأن هذا التشبيه لا وجود خارجي له فهو تشبيه فرضي؛ لأنّ حبة الحنطة لا تبلغ في موسم الحصاد سبعمئة حبة أبدا، أو أن المقصود هو نوع خاص من الحبوب (كالدخن) التي تعطي هذا القدر من الناتج، ويلفت النظر أن الصحف كتبت أخيرا أن بعض مزارع القمح أنتجت في السنوات الممطرة سنابل طويلة يحمل بعضها ما يقارب أربعمئة ألف حبة، وهذا يدل على أن تشبيه القرآن واقعي وحقيقي.
الإنفاق ومشكلة الفوارق الطبقية:
من المشكلات الاجتماعية الكبرى التي يعاني منها الإنسان دوما وما زال يعاني رغم كل ما حققه البشر من تقدّم صناعي ومادي هي مشكلة التباين الطبقي المتمثلة بالفقر المدقع في جانب، وتراكم الثروة في جانب آخر.
إنّك لترى بعضهم يكتنز من الثروة بحيث إنه لا يستطيع أن يحصيها، وترى بعضهم من الفقر في عذاب ممض بحيث لا يستطيع أن يجد حتى الضروري اللازم لحياته كالحد الأدنى من الغذاء والملبس والمأوى.
لا شك أن المجتمع الذي يقوم قسم من بنيانه على الغنى الفاحش، والقسم الأعظم على الفقر المدقع والجوع القاتل، لا دوام له، ولن يصل إلى السعادة الحقيقة أبدا، إن مجتمعا كهذا يسوده حتما الهلع والاضطراب والقلق والخوف وسوء الظن، ومن ثم العداء والصراع.
هذا التباين الطبقي الذي كان موجودا في القديم قد تفشى فينا اليوم -مع الأسف- بأكثر وأخطر مما سبق، ذلك لأنك تجد أبواب التعاون الإنساني الحقيقي قد أغلقت بوجوه الناس، وفتحت بمكانها أبواب الربا الفاحش الذي هو من أهم أسباب اتساع الهوة الطبقية بين الناس.
وقد سعى العلماء والمذاهب الاقتصادية في العالم للبحث عن علاج، واختار كل طريقاً، فالشيوعية اختارت إلغاء الملكية الفردية، والرأسمالية اختارت طريق استيفاء الضرائب الثقيلة وإنشاء المؤسسات الخيرية العامة (وهي شكلية أكثر من كونها حلا لمشكلة الطبقية)، ظانين أنهم بذلك يكافحون هذه المشكلة، لكن أيا من هؤلاء لم يستطع في الحقيقة أن يخطو خطوة فعالة في هذا السبيل، وذلك لأن حل هذه المشكلة غير ممكن ضمن الروح المادية التي تسيطر على العالم.
وبالتدقيق في آيات القرآن الكريم يتضح أنّ أحد الأهداف التي يسعى لها الإسلام هو إزالة هذه الفوارق غير العادلة الناشئة من الظلم الاجتماعي بين الطبقتين الغنية والفقيرة، ورفع مستوى معيشة الذين لا يستطيعون رفع حاجاتهم الحياتية ولا توفير حد أدنى من متطلباتهم اليومية دون مساعدة الآخرين.
وللوصول إلى هذا الهدف وضع الإسلام برنامجاً واسعاً يتمثل بتحريم الربا مطلقاً، وبوجوب دفع الضرائب الإسلامية كالزكاة والخمس، والحث على الإنفاق، وقرض الحسنة، والمساعدات المالية المختلفة، وأهم من هذا كله هو إحياء روح الإخوة الإنسانية في الناس.
مجلة بيوت المتقين العدد (79)