عن عمارة بن زيد الواقدي، قال: حجَّ هشام بن عبد الملك بن مروان سنة من السنين، وكان قد حجَّ في تلك السنة الإمام محمّد الباقر وابنه جعفر الصادق (عليهما السلام)، وكان جعفر الصادق (عليه السلام) يقول في بعض كلامه: الحمد لله الذي بعث محمّداً بالحقِّ نبيّاً، وأكرمنا به، فنحن صفوة الله على خلقه، وخيرته من عباده، فالسعيد من اتّبعنا، والشقيُّ من عادانا وخالفنا، ومن الناس من يقول إنه يتولاّنا وهو يوالي أعداءنا ومن يليهم من جلسائهم وأصحابهم، فهو لم يسمع كلام ربِّنا ولم يعمل به.
والكلام منقول عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) فقال: بعدها نقل مسيلمة بن عبد الملك لأخيه - هشاماً - بما سمع، فلم يعرض لنا حتى انصرف إلى دمشق، وانصرفنا نحن إلى المدينة، فأنفذ هشام بن عبد الملك بن مروان بريداً إلى عامله في المدينة بإستدعائنا، فلمَّا وردنا دمشق حجبنا عنه ثلاثة أيام، ثمَّ أُذن لنا في اليوم الرابع، فدخلنا عليه وهو قاعد على سرير الُملك، وجنده وخاصّته وقوف على أرجلهم متسلِّحين، وقد نُصب هدف للرمي قربه وأشياخ قومه يرمون عليه، فلمَّا دخل أبي وأنا خلفه ما زال يستدنينا منه حتى حاذيناه، وجلسنا.
فقال هشام لأبي الإمام الباقر (عليه السلام): يا أبا جعفر! هلّا رميت مع أشياخ قومك الهدف، وإنما أراد أن يستهزئ بالإمام، ظنّاً منه عدم إصابته الهدف إذا رمى، فيتشفّى منه بذلك.
فقال أبي الإمام الباقر (عليه السلام): إنّي قد كبرت على الرمي، فإن رأيت أن تعفيني.
فقال هشام: وحقِّ من أعزنا بدينه ونبيِّه محمد (صلى الله عليه وآله) لا أعفيك، ثمَّ أومأ إلى شيخ من بني أميَّة أن أعطه قوسك، فتناول الإمام (عليه السلام) قوس الشيخ وسهم منه وضعه في كبد القوس، ثمَّ انتزع ورمى وسط الغرض فنصبه فيه، ثمَّ رمى فيه الثانية فشقَّ فوق سهمه إلى نصله، ثمَّ تابع الرمي حتى شقَّ تسعة أسهم بعضها في جوف بعض.
فقال هشام لأبي: أجدت يا أبا جعفر، فأنت أرمى العرب والعجم، ثمَّ بعد هُنيّئة أدرك ندامة على ما قال في مدح أبي (عليه السلام)، وهو لا يكنّي أحداً قبل أبي ولا بعده في خلافته، وأطرق إطراقة يرتأي فيه رأياً، وأبي واقف بقربه مواجهاً له، وأنا وراء أبي، فلمَّا طال وقوفنا بين يديه غضب أبي فهمَّ به، وكان أبي إذا غضب نظر إلى السماء نظر غضبان، يتبيَّن للناظر الغضب في وجهه، فلمَّا نظر هشام ذلك من أبي قال له: يا أبا جعفر اصعد، فصعد أبي إلى مجلسه وأنا أتبعه، فلمَّا دنينا من هشام قام إلينا فعانقنا وأقعد أبي عن يمينه، وأقعدني عن يمين أبي، ثمَّ أقبل على أبي بوجهه.
فقال هشام لأبي: يا أبا جعفر! لا تزال العرب والعجم تسودها قريش ما دام فيها مثلك، ولله درُّك، من علَّمك هذا الرمي؟ وفي كم تعلَّمته؟
فقال له الإمام الباقر (عليه السلام): قد علمت أن أهل المدينة يتعاطونه، فتعاطيته أيام حداثتي، ثمَّ تركته.
فقال هشام: ما رأيت مثل هذا الرمي قط مذ عقلت، وما ظننت أن في الأرض أحداً يرمي مثل هذا الرمي، أين رمي جعفر من رميك؟
فقال الإمام الباقر (عليه السلام): إنّا نحن نتوارث الكمال والتمام اللذين أنزلهما الله على نبيِّه (صلى الله عليه وآله) في قوله: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً﴾ المائدة:3، والأرض لا تخلو ممن يكمل هذه الأمور التي يقصر عنها غيرنا.
فقال هشام: ألسنا بنو عبد مناف نسبنا ونسبكم واحد؟
فقال أبي الإمام الباقر (عليه السلام): نحن كذلك، ولكنَّ الله - جلَّ ثناؤه - اختصّنا من مكنون سرِّه وخالص علمه، بما لم يختص أحداً به غيرنا.
فقال هشام: أليس الله بعث محمّداً (صلى الله عليه وآله) من شجرة عبد مناف إلى الناس كافّة، أبيضها وأسودها وأحمرها، فمن أين ورثتم هذا العلم وليس بعد محمّد (صلى الله عليه وآله) نبيٌّ ولا أنتم أنبياء؟
فقال أبي الإمام الباقر (عليه السلام) له: من قوله تعالى لنبيِّه(صلى الله عليه وآله): ﴿لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ﴾القيامة:16 فالذي أبداه فهو للناس كافّة، والذي لم يحرِّك به لسانه أمر الله تعالى أن يخصَّنا به من دون غيرنا، فلذلك كان يناجي أخاه عليّاً من دون أصحابه، وأنزل الله بذلك قرآناً: ﴿وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ﴾الحاقة:12، فقال رسول الله لأصحابه: «سألت الله تعالى أن يجعلها أذنك يا علي»[1]، فلذلك قال علي(عليه السلام): «علَّمني رسول الله (صلى الله عليه وآله) ألف باب من العلم يفتح من كل باب ألف باب»[2]، خصَّه به رسول الله (صلى الله عليه وآله) من مكنون علمه وما خصَّه الله به صار إلينا ، وتوارثناه من دون قومنا.
فقال هشام لأبي: إن عليّاً كان يدّعي علم الغيب، والله لم يطلع على غيبه أحداً، فمن أين ادّعى ذلك؟
فقال أبي الباقر (عليه السلام): إن الله تعالى أنزل على نبيِّه كتاباً بيَّن فيه ما كان وما يكون إلى يوم القيامة، في قوله: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْء وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾النحل:89، وفي قوله: ﴿كُلَّ شَيْء أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَام مُبِين﴾يس:12، وفي قوله: ﴿مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْء﴾الأنعام: 38، وفي قوله: ﴿وَمَا مِنْ غَائِبَة فِي السَّمَاء وَالاَْرْضِ إِلاَّ فِي كِتَاب مُّبِين﴾النمل:75 وأوحى الله تعالى إلى نبيِّه (صلى الله عليه وآله) أن لا يبقي في غيبه وسرِّه ومكنون علمه شيئاً إلاَّ يناجي به عليّاً، فأمره أن يؤلِّف القرآن من بعده، ويتولَّى غسله وتكفينه وتحنيطه من دون قومه، وقال رسول الله(صلى الله عليه وآله) لأصحابه: ...فإنّه منّي وأنا منه، له مالي، وعليه ما عليَّ، وهو قاضي دَيني ومنجز موعدي، وهو يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله[3]، ولم يكن عند أحد تأويل القرآن بكماله وتمامه إلاَّ عند علي(عليه السلام)، ولذلك قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأصحابه: «أقضاكم علي»[4]، وقال عمر بن الخطاب: «لو لا عليٌّ لهلك عمر»[5]، أفيشهد له عمر ويجحد غيره ؟!
فأطرق هشام طويلا، ثمَّ رفع رأسه فقال: سل حاجتك.
فقال الإمام (عليه السلام): خلَّفت أهلي وعيالي مستوحشين لخروجي.
فقال هشام: قد آمن الله وحشتهم برجوعك إليهم، ولا تقم عندي أكثر من يومك هذا.
المصدر: مجلة اليقين، العدد (15)، الصفحة (8 - 9).