معركة الجمل

بعد ثورة المسلمين على عثمان وغضبهم من أسلوب حكمه، اجتمع أهل المدينة، ومَن قَدِم من الأمصار الإسلامية حول بيته، وحاصروه وقتلوه، فقد روى ابن عساكر في كتابه ترجمة الإمام الحسن(عليه السلام): (إن أعمال عثمان وإيثاره بني أبيه أغصان الشجرة الملعونة في القرآن، وإستبداده بإيفاء نهمته ونهمة آل أمية من أموال المسلمين، وهتكهم حرمة صفوة المسلمين كعبد الله بن مسعود وأبي ذر وعمار بن ياسر، هي التي أوجبت قتل عثمان، ولذا أجمع على قتله عظماء المهاجرين والأنصار، وكان الزبير وطلحة في طليعة المهاجمين عليه الذين حصروه وقطعوا عنه الماء، وكانت عقيرة أم المؤمنين عائشة مرتفعة بقولها: اقتلوا نعثلاً قتله الله)[1].

وقال ابن أعثم الكوفي في كتابه الفتوح: (وقد كان -أي: عثمان- مطروحا على مزبلة ثلاثة أيام حتى ذهبت الكلاب بفرد رجليه)[2].

وقال الطبري في تاريخه: (نُبِذ عثمان ثلاثة أيام لا يدفن... حتى دُفن في (حش كوكب)[3]، فلما ظهر معاوية بن أبي سفيان على الناس أمر بهدم ذلك الحائط حتى أفضى به إلى البقيع فأمر الناس أن يدفنوا موتاهم حول قبره حتى اتصل ذلك بمقابر المسلمين)[4].

والجدير بالذكر أن (حش كوكب) هو مقبرة لليهود، قال السيد العاملي في كتابه الصحيح من سيرة الامام علي(عليه السلام): (إن معاوية حاول أن يتخلص من غائلة دفن عثمان في مقابر اليهود، وفي مكان كان حُشّاً، فارتكب خطأ فاحشاً بإلحاقه مقبرة اليهود والموضع الذي كان حشّاً بمقابر المسلمين ... وبذلك يكون قد كرس ما هو خطأ بنظره بخطأ أكبر وأخطر ... لا سيما وأنه صار يفرض على الناس أن يدفنوا موتاهم في موضع يمنع الشارع من دفن المسلمين فيه من جهتين: إحداهما: أنه حشّ. والأخرى: أنه مقبرة لليهود)[5].

وأول من سمى عثمان (نعثلا) عائشة، روى ابن أبي الحديد في شرحه: (وهذه عائشة أم المؤمنين، خرجت بقميص رسول الله(صلى الله عليه وآله) فقالت للناس: هذا قميص رسول الله لم يُبلَ، وعثمان قد أبلى سنته، ثم تقول: اقتلوا نعثلا، قتل الله نعثلا، ثم لم ترض بذلك حتى قالت: أشهد أن عثمان جيفة على الصراط غدا)[6]، وبعد قتل عثمان، وهدوء ثورة المسلمين أحسوا بالفراغ السياسي وحتمية وجود إمام ينظم حياتهم ويسوسها بشكل يختلف عما كان عليه عثمان، فلم يجدوا أجدر من أمير المؤمنين(عليه السلام) لإصلاح أوضاعهم، قال سعيد بن المسيب: لما قُتل عثمان جاء الناس إلى أمير المؤمنين(عليه السلام)، حتى دخلوا داره، فقالوا: نبايعك، فمُدَّ يدك...فلم يبق أحد من أهل بدر إلا أتى علياً(عليه السلام)، وقالوا: ما نرى أحداً أحقُّ بها منك، فمُدَّ يدك نبايعك... إلا أن الإمام(عليه السلام) امتنع واعتذر عن قبول البيعة، حتى هُرِع الناس إليه وتزاحموا عنده، وانثالوا عليه، ولاحقوه من مكان إلى مكان وأصروا على أن يبايعوه، وهو (عليه السلام) يأبى ذلك طيلة خمسة أيام مضت من قتل عثمان)[7].

وكان جواب أمير المؤمنين(عليه السلام) لهم كما نقله المتقي الهندي[8]: لا تفعلوا فإني وزيراً لكم خيرٌ لكم مني أميراً، قالوا: والله ما نحن بفاعلين أبداً حتى نبايعك! وتداكُّوا على يده، فلما رأى ذلك قال: إن بيعتي لا تكون في خَلوة إلا في المسجد ظاهراً. فكان أول من بايعه طلحة، ثم بايعه المهاجرون والأنصار، ولم يتخلف عنه أحد، سوى خمسة أشخاص، بينما لم يبايِع أبا بكر في السقيفة الا خمسة أشخاص، وكان الإمام علي(عليه السلام) الخليفة الوحيد الذي لم يجبر أحداً على بيعته، ففضح بذلك اضطهاد مَن قبله ومَن بعده للمسلمين، ومصادرتهم لحرياتهم!

أول الناكثين للبيعة:

خطب الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) بعد مبايعة الناس له، وأعلن في خطبته الدستور الجديد للحكومة المنتخبة، وهو القرآن الكريم وسنة النبي(صلى الله عليه وآله)، وبيّن الخطوط العريضة لهذه الحكومة، وبعد هذا الإعلان أيقن أصحاب الأطماع أنْ لا نفوذ لهم في ظل هذه الحكومة، كما أنّ عدالة الإمام علي(عليه السلام) وتمسُّكَه بالإسلام لا تروق لأُولئك الذين اكتنزوا الكنوز وامتلكوا الضياع وبنوا القصور من أموال المسلمين، بل هي تشكل تهديداً لهم ولوجودهم، فنكث قومٌ البيعة وتمرد آخرون على الخليفة الشرعي ظلماً وعدواناً، وكان في طليعتهم طلحة والزبير وعائشة وبنو أمية، وفي تاريخ اليعقوبي: (أتاه -أي الى أمير المؤمنين(عليه السلام)- طلحة والزبير فقالا: إنا نريد العمرة، فأْذَن لنا في الخروج، وروى بعضهم أن علياً قال لهما، أو لبعض أصحابه: والله ما أرادا العمرة، ولكنهما أرادا الغدرة! فلحقا عائشة بمكة فحرضاها على الخروج)[9].

الانقلاب على الشرعية:

عند رجوع عائشة من مكة الى المدينة لقيها عبد بن أبي سلمه فاخبرها بمقتل عثمان واجتماع الناس على مبايعة أمير المؤمنين(عليه السلام)، فقالت: والله ليت إن هذه انطبقت على هذه، إن تم الأمر لصاحبك ردوني ردوني، فانصرفت إلى مكة وهي تقول: قتل والله عثمان مظلوماً، والله لأطلبن بدمه، فقال لها ابن أبي سلمه: ولم؟ فو الله إن أول من أمال حرفه لأنت ولقد كنت تقولين: اقتلوا نعثلا فقد كفر، قالت: إنهم استتابوه ثم قتلوه، وقد قلت وقالوا وقولي الأخير خير من قولي الأول، فقال لها ابن أم كلاب، عذرٌ والله ضعيف، يا أم المؤمنين، ثم أنشد:

منك البداء ومنك الغــــير         ومنك الريـاح ومنك المطـر

وأنت أمرت بقتـل الإمـام          وقلت لنـا: إنه قـــد كـفـر

فهبنا أطعنــاك في قـــتـله        وقاتلـه عــــندنـا من أمـر

وقد بايع النـاس ذا تـدرء          يزيل الشبـا ويقيـم الصعر

فانصرفت إلى مكة فنزلت على باب المسجد فقصدت للحجر فسترت واجتمع إليها الناس فقالت: يا أيها الناس! إن عثمان قتل مظلوما ووالله لأطلبن بدمه. وأخذت هي وطلحة والزبير يجمعون الرجال، ويشترون السلاح والجمال، فتجمع الناكثون في مكة حول عائشة التي نصبت خيمة في حجر إسماعيل![10]

نحو البصرة:

سارت عائشة إلى البصرة خارجة على إمام زمانها والخليفة الشرعي أمير المؤمنين علي(عليه السلام)، ومعها طلحة والزبير في خلق عظيم، وقدم يعلى بن منية بمال من مال اليمن قيل: إن مبلغه أربعمائة ألف دينار، فأخذه منه طلحة والزبير فاستعانا به وسارا نحو البصرة، وفي طريقهم صادفوا اعرابياً واشتروا منه جملا لعائشة وطلبوا منه أن يكون دليلا لهم فقبل الطلب يقول: فسرت معهم، فلا أمرُّ على واد ولا ماء إلا سألوني عنه، حتى طرقنا ماء الحوأب فنبحتنا كلابها! قالوا: أي ماء هذا؟ قلت: ماء الحوأب! قال: فصرخت عائشة بأعلى صوتها، ثم ضربت عضد بعيرها فأناخته، ثم قالت: أنا والله صاحبة كلاب الحوأب، طروقاً ردوني! تقول ذلك ثلاثاً! فأناخت وأناخوا حولها، وهم على ذلك وهي تأبى حتى كانت الساعة التي أناخوا فيها من الغد، فجاءها ابن الزبير فقال: النجاء النجاء، فقد أدرككم والله علي بن أبي طالب! قال فارتحلوا وشتموني...[11].

وفي مناقب آل أبي طالب: أن عائشة لما سمعت نباح الكلاب قالت: (أي ماء هذا؟ فقالوا: الحوأب، قالت إنا لله وإنا إليه راجعون، إني لهيَهْ! قد سمعت رسول الله(صلى الله عليه وآله) وعنده نساؤه يقول: ليت شعري أيتكن تنبحها كلاب الحوأب؟)[12]، وفي رواية الماوردي: أيتكن صاحبة الجمل الأدبب تخرج فتنبحها كلاب الحوأب، يقتل من يمينها ويسارها قتلى كثير، وتنجو بعد ما كاد تقتل؟! كما روى ابن عبد البر في كتابه الاستيعاب: (أيتكن صاحبة الجمل الأدبب)[13]، كما روى ابن قتيبة في كتابه الامامة والسياسة قال: (قالت - أي عائشة -: سمعت رسول الله(صلى الله عليه وآله) يقول لنسائه: كأني بإحداكن قد نبحها كلاب الحوأب، وإياك أن تكوني أنت يا حميراء)[14].

وفي مناقب الخوارزمي: أول شهود شهدوا في الاسلام بالزور واخذوا عليه الرشا، الشهود الذين شهدوا عند عائشة حين مرت بماء الحوأب، فقالت عائشة: ردوني، ردوني مرتين، فأتوها بسبعين شيخا فشهدوا أنه ماؤنا وما هو بماء الحوأب[15].

وفي معجم البلدان: أن عائشة لما أرادت المضي إلى البصرة في وقعة الجمل مرت بهذا الموضع فسمعت نباح الكلاب فقالت: ما هذا الموضع؟ فقيل لها: هذا موضع يقال له الحوأب، فقالت: إنا لله ما أراني إلا صاحبة القصة، فقيل لها: وأي قصة؟ قالت: سمعت رسول الله(صلى الله عليه وآله)، يقول وعنده نساؤه: ليت شعري أيتكن تنبحها كلاب الحوأب سائرة إلى الشرق في كتيبة! وهمت بالرجوع فغالطوها وحلفوا لها أنه ليس بالحوأب[16].

الغدر من خصال الناكثين:

روى ابن شهر اشوب في كتابه مناقب آل أبي طالب: (فلما نزلت – عائشة – الخريبة - وهي المكان الذي كانت فيه وقعة الجمل- قصدهم عثمان بن حنيف (حاكم البصرة من قبل الإمام علي(عليه السلام)) وحاربهم، فتداعوا إلى الصلح، فكتبوا بينهم كتاباً أن لعثمان دار الإمارة وبيت المال والمسجد إلى أن يصل إليهم علي(عليه السلام)، فقال طلحة لأصحابه في السر: والله لئن قدم علي البصرة لنؤخذَن بأعناقنا، فأتوا على عثمان بياتاً في ليلة ظلماء وهو يصلي بالناس العشاء الآخرة، وقتلوا منهم خمسين رجلاً واستأسروه ونتفوا شعر لحيته وشاربه وأشفار عينيه وحاجبيه وحبسوه، فبلغ ذلك سهل بن حنيف فكتب إليهما: أعطي الله عهداً لئن لم تُخلّوا سبيله لأبلغن من أقرب الناس إليكما! فأطلقوه، ثم بعثا عبد الله بن الزبير في جماعة إلى بيت المال فقتل أبا سلمة الزطي في خمسين رجلاً، وبعثت عائشة إلى الأحنف تدعوه فأبى واعتزل بالجلحاء من البصرة في فرسخين، وهو في ستة آلاف)[17].

وذكر ابن ابي الحديد: وأرسلت عائشة إلى الزبير أن أقتل السبابجة فإنه قد بلغني الذي صنعوا بك.

قال: فذبحهم والله الزبير كما يذبح الغنم، ولى ذلك منهم عبد الله ابنه، وهم سبعون رجلا وبقيت منهم طائفة مستمسكين ببيت المال، قالوا: لا ندفعه إليكم حتى يقدم أمير المؤمنين، فسار إليهم الزبير في جيش ليلا، فأوقع بهم، وأخذ منهم خمسين أسيرا فقتلهم صبرا[18].

الإمام(عليه السلام) يغادر المدينة:

في مناقب آل أبي طالب: (فأمَّر علي(عليه السلام) سهل بن حنيف على المدينة وقثم بن العباس على مكة، وخرج في ستة آلاف إلى الربذة، ومنها إلى ذي قار، وأرسل الحسن وعمار إلى الكوفة وكتب: من عبد الله ووليه علي أمير المؤمنين إلى أهل الكوفة جبهة الأنصار وسنام العرب، ثم ذكر فيه قتل عثمان وفعل طلحة والزبير وعائشة... فلما بلغا الكوفة قال أبو موسى الأشعري: يا أهل الكوفة اتقوا الله ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً، (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً)[19]، فسكَّته عمار، فقال أبو موسى: هذا كتاب عائشة تأمرني أن أكف أهل الكوفة، فلا تكونن لنا ولا علينا، ليصل إليهم صلاحهم، فقال عمار: إن الله تعالى أمرها بالجلوس فقامت! وأمرنا بالقيام لندفع الفتنة فنجلس؟ فقام زيد بن صوحان ومالك الأشتر في أصحابهما وتهددوه... فخرج قعقاع بن عمرو، وهند بن عمر، وهيثم بن شهاب، وزيد بن صوحان، والمسيب بن نجبة، ويزيد بن قيس، وحجر بن عدي، وابن مخدوج، والأشتر، اليوم الثالث في تسعة آلاف، فاستقبلهم علي(عليه السلام) على فرسخ وقال مرحباً بكم أهل الكوفة وفئة الإسلام، ومركز الدين، في كلام له...، ولقيه عثمان بن حنيف فقال: يا أمير المؤمنين، وجهتني ذا لحية فأتيتك أمرد! وقص عليه القصة)[20].

البصرة تعلن الولاء:

خرج إلى علي(عليه السلام) شيعته من أهل البصرة من ربيعة ثلاثة آلاف رجل، وبعث الأحنف إليه إن شئت أتيتك في مائتي فارس فكنت معك، وإن شئت اعتزلت ببني سعد فكففت عنك ستة آلاف سيف، فاختار عليٌّ اعتزاله.

الدين النصيحة:

في كشف الغمة في معرفة الأئمة للإربلي: (وكتب علي(عليه السلام) الى عايشة: أما بعد فإنك خرجت من بيتك عاصية لله تعالى ولرسوله(صلى الله عليه وآله) تطلبين أمراً كان عنك موضوعاً، ثم تزعمين أنك تريدين الإصلاح بين الناس فخبريني ما للنساء وقَوْدُ العساكر! وزعمت أنك طالبة بدم عثمان، وعثمان رجل من بني أمية وأنت امرأة من بني تيم بن مرة! ولعمري إن الذي عرّضك للبلاء وحملك على المعصية لأعظم إليك ذنباً من قتله عثمان، وما غَضبتِ حتى أُغضِبتِ، ولا هِجتِ حتى هُيِّجتِ فاتقي الله يا عائشة وارجعي إلى منزلك، واسبلي عليك سترك، والسلام.

فجاء الجواب إليه(عليه السلام): يا ابن أبي طالب جَلَّ الأمر عن العتاب، ولن ندخل في طاعتك أبداً، فاقض ما أنت قاض، والسلام)[21].

الإمام(عليه السلام) يذّكر القوم:

كل ذلك وعلي(عليه السلام) بين الصفين عليه قميص ورداء وعلى رأسه عمامة سوداء، وهو راكب على بغلة، فلما رأى أنه لم يبقَ إلا مصافحة الصفاح والمطاعنة بالرماح صاح بأعلى صوته: أين الزبير بن العوام فليخرج إليَّ؟ فخرج إليه ودنا منه حتى واقفه فقال له أمير المؤمنين(عليه السلام): يا أبا عبد الله ما حملك على ما صنعت؟ فقال: الطلب بدم عثمان، فقال(عليه السلام): أنت وأصحابك قتلتموه فيجب عليك أن تقيد من نفسك! ولكن أنشدك الله الذي لا إله إلا هو الذي أنزل الفرقان على نبيه محمد(صلى الله عليه وآله): أما تذكر يوماً قال لك رسول الله(صلى الله عليه وآله): يا زبير أتحب علياً؟ فقلت: وما يمنعني من حبه وهو ابن خالي، فقال لك: أما إنك ستخرج عليه يوماً وأنت له ظالم؟! فقال الزبير: اللهم بلى فقد كان ذلك! فقال علي(عليه السلام): فأنشدك الله الذي أنزل الفرقان على نبيه محمد(صلى الله عليه وآله): أما تذكر يوماً جاء رسول الله(صلى الله عليه وآله) من عند ابن عوف وأنت معه وهو آخذ بيدك، فاستقبلته أنا فسلمت عليه فضحك في وجهي وضحكت أنا إليه، فقلت أنت: لا يدع ابن أبي طالب زهوه أبداً! فقال لك النبي(صلى الله عليه وآله): مهلاً يا زبير فليس به زهو، ولتخرجن عليه يوماً وأنت ظالم له؟! فقال الزبير: اللهم بلى، ولكن أُنسيت! فأما إذْ ذكّرتني ذلك فلأنصرفنَ عنك، ولو ذكرتُ ذلك لما خرجت عليك! ثم رجع إلى عائشة فقالت: ما وراءك يا أبا عبد الله؟ فقال الزبير: والله ورائي أني ما وقفت موقفاً في شرك ولا إسلام إلا ولي فيه بصيرة، وأنا اليوم على شك من أمري، وما أكاد أبصر موضع قدمي! ثم شق الصفوف وخرج من بينهم ونزل على قوم من بني تميم، فقام إليه عمرو بن جرموز المجاشعي فقتله حين نام، وكان في ضيافته، فنفذت دعوة علي(عليه السلام) فيه، حيث قال: (الزبير وقاتله في النار).

ثم إن أمير المؤمنين(عليه السلام) استدعى طلحة بن عبيد الله، فقال له: إنما دعوتك يا أبا عبد الله لأذكرك ما قاله رسول الله(صلى الله عليه وآله)، أما سمعته يقول: (اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله؟) وأنت أول من بايعني، ثم نكثت بيعتك لي، وقد قال الله تعالى فمن نكث فإنما ينكث على نفسه، فقال: أستغفر الله، وكان أمر الله قدراً مقدوراً. فرجع وهو يقول هذه الأبيات:

ندمت وظل لحمي ولهــفي        مثل لهف أبــي وأمـي

ندمت ندامة الكسعي طلبت        رضا بني جرم بزعمي

وفي صباح نفس اليوم وقبل نشوب المعركة انهدَّ الركن الثاني لعائشة، حيث بادر مروان إلى تنفيذ خطته في قتل طلحة! قال ابن سعد في الطبقات: (عن محمد بن سيرين أن مروان اعترض طلحة لما جال الناس بسهم فأصابه فقتله... عن عبد الملك بن مروان يقول: لولا أن مروان أخبرني أنه هو الذي قتل طلحة ما تركت من ولد طلحة أحداً إلا قتلته بعثمان بن عفان)[22].

ونقل الشيخ المفيد: (عن إسماعيل بن عبد الملك عن يحيى بن شبل عن جعفر بن محمد عن أبيه(عليه السلام) قال حدثني أبي علي زين العابدين(عليه السلام) قال قال لي مروان بن الحكم لما رأيت الناس يوم الجمل قد كشفوا قلت والله لأدركن ثاري ولأفوزن منه الآن فرميت طلحة فأصبت نساه فجعل الدم ينزف فرميته ثانية فجاءت به فأخذوه حتى وضعوه تحت شجرة فبقي تحتها ينزف منه الدم حتى مات)[23].

بدء المعركة:

زحف الإمام علي(عليه السلام) بالناس لقتال القوم، وسار علي(عليه السلام) إليهم وكان معه سبعمائة من الصحابة وفيهم أربعمائة من المهاجرين والأنصار منهم سبعون بدرياً، قال المجلسي: (وعلى ميمنته مالك الأشتر وسعيد بن قيس، وعلى ميسرته عمّار بن ياسر وشريح بن هانئ، وعلى القلب محمّد بن أبي بكر وعدي بن حاتم، وأعطى رايته محمّد بن الحنفية، ثمّ أوقفهم من صلاة الغداة إلى صلاة الظهر يدعوهم ويناشدهم، ووقع القتال بعد الظهر وانقضى عند المساء)[24].

قال الطبري في تاريخه: (عن أبي البختري الطائي قال: أطافت ضبة والأزد بعائشة يوم الجمل، وإذا رجال من الأزد يأخذون بعر الجمل فيفتونه ويشمونه ويقولون: بعرُ جمل أمنا ريحه ريح المسك)[25].

ولما رأى أمير المؤمنين(عليه السلام) لوثَ أهل البصرة بالجمل، وأنهم كلما كشفوا عنه عادوا فلاثوا به، قال لأصحابه: إن هؤلاء لا يزالون يقاتلون ما دام هذا الجمل نصب أعينهم، ولو قد عقر فسقط لم تثبت لهم ثابتة، فقصدوا بذوي الجد من أصحابه قصد الجمل حتى كشفوا أهل البصرة عنه، وأفضى إليه رجل من مراد الكوفة، يقال له أعين بن ضبيعة فكشف عرقوبه بالسيف، فسقط وله رغاء، فغرق في القتلى، ومال الهودج بعائشة، فقال علي(عليه السلام) لمحمد بن أبي بكر: تقدم إلى أختك، فدنا محمد، فأدخل يده في الهودج، فنالت يده ثياب عائشة، فقالت: إنا لله، من أنت ثكلتك أمك، فقال: أنا أخوك محمد!.[26]

من نبل علي(عليه السلام) وعدالته في حرب الجمل:

نادى علي(عليه السلام) في أصحابه: لا تتبعوا مولياً، ولا تجهزوا على جريح، ولا تنتهبوا مالا، ومن ألقى سلاحه فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، قال: فجعلوا يمرون بالذهب والفضة في معسكرهم والمتاع، فلا يعرض له أحد، إلا ما كان من السلاح الذي قاتلوا به، والدواب التي حاربوا عليها، فقال له بعض أصحابه: يا أمير المؤمنين، كيف حلَّ لنا قتالهم ولم يحلَّ لنا سبيهم وأموالهم؟! قال علي(عليه السلام): ليس على الموحدين سبي، ولا يغنم من أموالهم إلا ما قاتلوا به وعليه، فدعوا مالا تعرفون، وألزموا ما تؤمرون.

وفي تاريخ اليعقوبي: (وأتاها علي(عليه السلام)، وهي في دار عبد الله بن خلف الخزاعي وابنه المعروف بطلحة الطلحات، فقال: إيهاً يا حميراء! ألم تُنْهَيْ عن هذا المسير! فقالت: يا ابن أبي طالب قدرتَ فاسجحْ! فقال: أخرجي إلى المدينة وارجعي إلى بيتك الذي أمرك رسول الله(صلى الله عليه وآله) أن تقري فيه، قالت: أفعل، فوجه معها سبعين امرأة من عبد القيس في ثياب الرجال، حتى وافوا بها المدينة)[27].

وقال الشيخ المفيد: (لما عزم أمير المؤمنين(عليه السلام) على المسير إلى الكوفة أنفذ إلى عائشة يأمرها بالرحيل إلى المدينة فتهيأت لذلك وأنفذ معها أربعين امرأة ألبسهن العمائم والقلانس وقلدهن السيوف وأمرهن أن يحفظنها ويكن عن يمينها وشمالها ومن ورائها فجعلت عائشة تقول في الطريق اللهم افعل بعلي بن أبي طالب وافعل بعث معي الرجال ولم يحفظ بي حرمة رسول الله فلما قدمن المدينة معها ألقين العمائم والسيوف ودخلن معها فلما رأتهن ندمت على ما فرطت بذم أمير المؤمنين(عليه السلام) وسبه وقالت جزى الله ابن أبي طالب خيرا فلقد حفظ في حرمة رسول الله(صلى الله عليه وآله))[28].

دروس وعبر:

بعد مقتل الجمل جاء الإمام(عليه السلام)فقرع الهودج برمحه وقال: يا حميراء، بهذا أوصاك رسول الله(صلى الله عليه وآله)؟!

فقالت: يا ابن أبي طالب، ملكت فاصفح وظفرت فاسجع.

فقال الإمام(عليه السلام): والله، ما أدري متى أشفي غيظي؟ أحين أقدر على الانتقام يقال لي: لو عفوت؟! أم حين أعجز من الانتقام فيقال لي: لو صبرت بلى أصبر فإنّ لكلّ شيء زكاة، وزكاة القدرة والمكنة: العفو والصفح.

ومرّ الإمام(عليه السلام) على القتلى فمر بعبدالله بن ربيعة بن درّاج وهو في القتلى فقال: هذا البائس، ما كان أخرجه؛ أدينٌ أخرجه، أم نصر لعثمان؟! والله ما كان رأي عثمان فيه ولا في أبيه بحسن.

ثمّ مر(عليه السلام) بمعبد بن زهير بن أبي أُميّة فقال: لو كانت الفتنة برأس الثريّا لتناولها هذا الغلام، والله ما كان فيها بذي نحيزة[29]، ولقد أخبرني من أدركه وإنّه ليُولول فَرَقاً من السيف.

ثمّ مرّ(عليه السلام) بمسلم بن قرظة فقال: البرّ أخرج هذا! والله، لقد كلّمني أن أُكلّم له عثمان في شيء كان يدّعيه قبله بمكّة، فأعطاه عثمان وقال: لولا أنت ما أعطيته، إنّ هذا ما علمت بئس أخو العشيرة ؛ ثمّ جاء المشوم للحين ينصر عثمان.

ثمّ مرّ(عليه السلام) بعبدالله بن حميد بن زهير فقال: هذا أيضاً ممّن أوضع في قتالنا، زعم يطلب الله بذلك، ولقد كتب إليّ كتباً يؤذي فيها عثمان، فأعطاه شيئاً، فرضي عنه.

ومرّ(عليه السلام) بعبدالله بن حكيم بن حزام فقال: هذا خالف أباه في الخروج، وأبوه حيث لم ينصرنا قد أحسن في بيعته لنا، وإن كان قد كفّ وجلس حيث شكّ في القتال، وما ألوم اليوم من كفّ عنّا وعن غيرنا، ولكن المليم الذي يقاتلنا!

ثمّ مرّ(عليه السلام) بعبدالله بن المغيرة بن الأخنس فقال: أمّا هذا فقُتل أبوه يوم قتل عثمان في الدار، فخرج مغضباً لمقتل أبيه، وهو غلام حدث حُيّن لقتله.

ثمّ مرّ(عليه السلام) بعبدالله بن أبي عثمان بن الأخنس بن شريق، فقال: أمّا هذا فإنّي أنظر إليه وقد أخذ القوم السيوف هارباً يعدو من الصفّ فنَهنهتُ[30] عنه، فلم يسمع من نهنهتُ حتّى قتله. وكان هذا ممّا خفي على فتيان قريش، أغمار[31] لا علم لهم بالحرب، خدعوا واستزلّوا، فلمّا وقفوا وقعوا فقتلوا.

ثمّ مشى قليلا – ينظر إلى القتلى - فمرّ بكعب بن سور فقال(عليه السلام): هذا الذي خرج علينا في عنقه المصحف، يزعم أنّه ناصر أُمّه، يدعو الناس إلى ما فيه وهو لا يعلم ما فيه، ثمّ استفتح وخاب كلّ جبّار عنيد، أما إنّه دعا الله أن يقتلني، فقتله الله. أجلسوا كعب بن سور، فأُجلس، فقال أمير المؤمنين(عليه السلام): يا كعب، قد وجدتُ ما وعدني ربّي حقّاً، فهل وجدت ما وعدك ربّك حقّاً؟ ثمّ قال: أضجعوا كعباً.

ومرّ(عليه السلام) على طلحة بن عبيد الله فقال: هذا الناكث بيعتي، والمنشئ الفتنة في الأُمّة، والمجلب عليَّ، الداعي إلى قتلي وقتل عترتي، أجلسوا طلحة. فأُجلس، فقال أمير المؤمنين(عليه السلام): يا طلحة بن عبيد الله، قد وجدت ما وعدني ربّي حقّاً، فهل وجدت ما وعد ربّك حقّاً؟ ثمّ قال: أضجعوا طلحة، وسار.

فقال له بعض من كان معه: يا أمير المؤمنين، أتُكلّم كعباً وطلحة بعد قتلهما؟

قال(عليه السلام): أمَ والله، إنّهما لقد سمعا كلامي كما سمع أهل القليب كلام رسول الله(صلى الله عليه وآله).

وبعد نصره الإلهي على جيش الجمل فتح أمير المؤمنين(عليه السلام) البصرة ودخل بيت المال وقسّم ما فيه فلحق الرجل خمسمائة درهم، فأخذ هو كأحدهم فجاءه إنسان لم يحضر الواقعة فأعطاه حصّته!

وقال القعقاع: ما رأيت شيئاً أشبه بشيء من قتال القلب يوم الجمل بقتال صفّين، لقد رأيتنا ندافعهم بأسنّتنا ونتّكئ على أزجّتنا[32]، وهم مثل ذلك، حتّى لو أنّ الرجال مشت عليها لاستقلّت بهم[33].

عفو الإمام(عليه السلام) عن الأسرى:

بعد أن وضعت الحرب أوزارها التفت أمير المؤمنين(عليه السلام) إلى محمّد بن أبي بكر وقال: شأنك بأُختك، فلا يدنو منها أحد سواك، وأمر(عليه السلام) فاحتملت عائشة بهودجها إلى دار عبد الله بن خلف في البصرة، وأمر بالجمل أن يحرق ثمّ يذرى رماده في الريح، وقال(عليه السلام) إشارة إلى الجمل: لعنه الله من دابّة، فما أشبهه بعجل بني إسرائيل، ثمّ تلا: (وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً)[34].

وركبت عائشة وهي تقول: فخرتم وغلبتم، وكان أمر الله قدراً مقدوراً.

ونادى الإمام(عليه السلام): يا محمّد بن أبي بكر، سلها هل وصل إليها شيء من الرماح والسهام؟ فسألها، فقالت: نعم، وصل إليّ سهم، خدش رأسي وسلمت من غيره، الله بيني وبينكم.

فقال محمّد: والله ليحكمنّ عليك يوم القيامة ما كان بينك وبين أمير المؤمنين(عليه السلام) حين تخرجين عليه وتؤلّبين الناس على قتاله وتنبذين كتاب الله وراء ظهرك.

فقالت عائشة: دعنا يا محمّد وقل لصاحبك يحرسني.

فجاء ابن عباس يطلب الأمان لمروان بن الحكم، فأمره الإمام بإحضاره، فلمّا حضر قال له الإمام: أتبايع؟ فقال: نعم وفي النفس ما فيها.

فقال الإمام(عليه السلام): الله أعلم بما في القلوب. فلمّا بسط يده ليبايعه أخذ كفّه من كفّ مروان وجذبها، وقال: (لَا حَاجَةَ لِي فِي بَيْعَتِه إِنَّهَا كَفٌّ يَهُودِيَّةٌ، لَوْ بَايَعَنِي بِكَفِّه لَغَدَرَ بِسَبَّتِه)[35].

ثمّ قال(عليه السلام): هيه يا بن الحكم، خفت على رأسك أن تقع في هذه المعمعة؟! كلاّ والله، حتّى يخرج من صلبك فلان وفلان يسومون هذه الأُمّة خسفاً ويسقونهم كأساً مصبّرة[36].

قال ابن أبي الحديد المعتزلي: (وأمّا الحلم والصفح، فكان أحلم الناس عن ذنب، وأصفحهم عن مسيء؛ وقد ظهر صحّة ما قلناه يوم الجمل؛ حيث ظفر بمروان بن الحكم وكان أعدى الناس له، وأشدّهم بغضاً فصفح عنه.

وكان عبد الله بن الزبير يشتمه على رؤوس الأشهاد، وخطب يوم البصرة فقال: قد أتاك الوغد اللئيم علي بن أبي طالب وكان علي(عليه السلام) يقول: ما زال الزبير رجلا منّا أهل البيت حتّى شبّ عبدالله فظفر به يوم الجمل، فأخذه أسيراً، فصفح عنه، وقال: اذهب فلا أرينّك ; لم يزد على ذلك.

وظفر بسعيد بن العاص بعد وقعة الجمل بمكّة، وكان له عدوّاً، فأعرض عنه ولم يقل له شيئاً)[37].    

وبعد هزيمة جيش عائشة نادى منادي الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام): (من ألقى سلاحه فهو آمن ومن دخل داره فهو آمن).

ولمّا دخل(عليه السلام) بيت عائشة صاحت النساء وقلن يا قاتل الأحبّة.

فقال(عليه السلام): لو كنت قاتل الأحبّة لقتلت مَن في هذا البيت، وأشار إلى بيت من تلك البيوت، قد اختفى فيه مروان بن الحكم وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عامر وغيرهم (الوليد بن عقبة وولد عثمان بن عفّان وغيرهم من بني أُميّة)[38].   

وعفا الإمام علي(عليه السلام) عن هؤلاء بالرغم من ذنبهم الكبير في قتلهم المؤمنين وسرقتهم الأموال، ولم يحفظ هؤلاء لعلي بن أبي طالب(عليه السلام) فضله فذهب عبدالله بن عامر ومروان بن الحكم والوليد بن عقبة إلى معاوية فحاربوا علياً(عليه السلام) ثانية في صفّين، وطالبوا بقطع الماء عنهم ليموتوا عطشاً، وطلب عثمان من عائشة الوساطة عند طلحة في قطعه الماء عنه وتحريض الناس على قتله فأبت عائشة[39].

قتلى معركة الجمل:

قال أبو يعقوب إسحاق بن يوسف الفزاري: (سألت أبا المنذر هشام بن محمد بن السائب عمن قتل من أصحاب علي(عليه السلام) وعائشة في يوم الجمل، فقال: أما علي(عليه السلام) فكان في عشرين ألفا، قتل من أصحابه ألف رجل وسبعون رجلا، وأما عائشة فكانت في ثلاثين ألفا ويزيدون، فقتل من الأزد خاصة أربعة آلاف رجل، ومن بني ضبة ألف رجل، ومن بني ناجية أربعمائة رجل، ومن بني عدي ومواليهم تسعون رجلا، ومن بني بكر بن وائل ثمانمائة رجل، ومن بني حنظلة سبعمائة رجل، ومن سائر أخلاط الناس تسعة آلاف رجل)[40].

وذكر الطبري في تاريخه: (كان قتلى الجمل حول الجمل عشرة آلاف، نصفهم من أصحاب علي ونصفهم من أصحاب عائشة)[41].

وفي كشف الغمة: (وكان عدة من قتل من جند الجمل ستة عشر ألفاً وسبعمائة وتسعين إنساناً، وكانوا ثلاثين ألفاً، فأتى القتل على أكثر من نصفهم، وقتل من أصحاب علي(عليه السلام) ألف وسبعون رجلاً، وكانوا عشرين ألفاً)[42].

برقبة من قتلى معركة الجمل؟:

أجمع الكثير من فقهاء العامة بتحميل عائشة، وطلحة، والزبير، ومروان جريرة ما حدث في الجمل، قال المناوي في فيض القدير شرح الجامع الصغير: (أجمع فقهاء الحجاز والعراق من فريق الحديث والرأي، منهم مالك، والشافعي، وأبو حنيفة، والأوزاعي، والجمهور الأعظم من المتكلمين والمسلمين: أن عليا مصيب في قتاله لأهل صفين، كما هو مصيب في أهل الجمل، وأن الذين قاتلوه بغاة ظالمون له)[43].

دوافع التَمَرّد:

الشيء المحقَّق أنه لم تكن للناكثين أيّة أهداف اجتماعية، وإنما دفعتهم مصالحهم الخاصة، لنكث بيعة الإمام(عليه السلام)، فبعد أن تقلّد الإمام(عليه السلام) الخلافة الظاهرية طلب طلحة والزبير منه منحهما ولاية البصرة والكوفة، فأبى عليهما أمير المؤمنين(عليه السلام)، فلما خيّب(عليه السلام) أملهما، أظهرا السخط، وأسرعا إلى مكة لإعلان الثورة عليه، وتمزيق شمل المسلمين.

وقد أدلى الزبير بتصريح أعرب فيه عن أهدافه، فقد أقبل إليه وإلى طلحة رجل فقال لهما: إن لكما صحبة وفضلاً، فأخبراني عن مسيركما وقتالكما، أشيء أمركما به رسول الله(صلى الله عليه وآله)؟

فسكت طلحة، وأما الزبير فقال: حُدّثنا أن هَاهُنا بيضاء وصفراء – أي: دراهم ودنانير – فجئنا لنأخذ منها.

وأما عائشة فإنها كانت تروم إرجاع الخلافة إلى أسرتها، فهي أول من قدح زناد الثورة على عثمان، وأخذت تلهب المشاعر والعواطف ضده، وقد جهدت على ترشيح طلحة للخلافة، وكانت تشيد به في كل مناسبة، وقد روى ذلك أغلب أهل التاريخ من العامة، ومنهم ابن أبي الحديد المعتزلي في كتابه شرح نهج البلاغة حيث قال: (إن عائشة لما بلغها قتل عثمان وهي بمكة، أقبلت مسرعة، وهى تقول: إيه ذا الإصبع! لله أبوك، أما إنهم وجدوا طلحة لها كفوا)[44].

وأما بنو أمية فقد طلبوا من الإمام(عليه السلام) أن يضع عنهم، ما أصابوا من المال في أيام عثمان، فرفض الإمام(عليه السلام) أن يضع عنهم، ما اختَلَفوه من أموال الأمة، فأظهروا له العداء، وعملوا على إثارة الفتنة والخلاف.

وعلى أي حال، فإنه لم تكن للناكثين نزعة إصلاحية، أو دعوة إلى الحق، وإنما كانت بواعثهم الأنانية، والأطماع، والأحقاد على الإمام(عليه السلام)، الذي هو نفس رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وباب مدينة علمه.

وقد تحقق قول النبي(صلى الله عليه وآله) بقتال الناكثين والمارقين والقاسطين: قال الذهبي في ميزان الاعتدال[45]: وعن علي بن الحزور، عن الأصبغ بن نباتة، عن أبي أيوب، عن النبي(صلى الله عليه وآله) أنه أمرنا بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين، قلت: يا رسول الله، مع مَن؟ قال: مع علي بن أبي طالب.

وهكذا طويت صفحة من الباطل، لكن فُتِحت صفحات و...

أسباب بغض عائشة للإمام (عليه السلام):

عن عمر بن أبان قال: لمّا ظهر أمير المؤمنين(عليه السلام) على أهل البصرة، جاءه رجال منهم فقالوا: يا أمير المؤمنين، ما السبب الذي دعا عائشة إلى المظاهرة عليك حتّى بلغت من خلافك وشقاقك ما بلغت؟ وهي امرأة من النساء، لم يكتب عليها القتال، ولا فرض عليها الجهاد، ولا أرخص لها في الخروج من بيتها، ولا التبرّج بين الرجال، وليست ممّا تولّته في شيء على حال.

فقال(عليه السلام): سأذكر أشياء حقدتها عليَّ ليس في واحد منها ذنب إليها ولكنّها تجرّمت بها عليَّ.

أحدها: تفضيل رسول الله(صلى الله عليه وآله) لي على أبيها وتقديمه إيّاي في مواطن الخير عليه، فكانت تضطغن ذلك، ويصعب عليها، وتعرفه منه فتتبع رأيه فيه.

وثانيها: لمّا آخى بين أصحابه، آخى بين أبيها وبين عمر بن الخطاب، واختصّني بأخوته، فغلُظ ذلك عليها.

 وثالثها: أوصى صلوات الله عليه بسدّ أبواب كانت في المسجد لجميع أصحابه إلاّ بابي، فلمّا سدّ باب أبيها وصاحبه، وترك بابي مفتوحاً في المسجد، تكلّم في ذلك بعض أهله، فقال(عليه السلام): ما أنا سددْتُ أبوابكم وفتحت باب علي، بل الله عزّوجلّ سدّ أبوابكم وفتح بابه، فغضب لذلك أبو بكر، وعظم عليه، وتكلّم في أهله بشيء، سمعته منه ابنته، فاضطغنته عليَّ.

وكان رسول الله(صلى الله عليه وآله) أعطى أباها الراية يوم خيبر، وأمره أن لا يرجع حتّى يفتح أو يقتل، فلم يلبث لذلك وانهزم، فأعطاها في الغد عمر بن الخطّاب، وأمره بمثل ما أمر صاحبه، فانهزم، ولم يلبث فساء رسول الله(صلى الله عليه وآله) ذلك وقال لهم ظاهراً معلناً: لأعطينّ الراية غداً رجلاً يحبّ الله ورسوله، ويحبّه الله ورسوله، كرّار غير فرّار، لا يرجع حتّى يفتح الله على يده، فأعطاني الراية، فصبرتُ حتّى فتح الله على يدي، فغَمّ ذلك أباها وأحزنه، فاضطغنته عليَّ، ومالي إليه ذنب في ذلك، فحقدت لحقد أبيها.

وبعث رسول الله(صلى الله عليه وآله) أباها ليؤدّي سورة براءة، وأمره أن يندب العهد للمشركين، فمضى حتّى انحرف، فأوحى الله إلى نبيّه(صلى الله عليه وآله) أن يردّه، ويأخذ الآيات فيسلّمها إليّ، فعرف أباها بإذن الله عزّوجلّ، وكان فيما أوحى الله عزّوجلّ إليه لا يؤدّي عنك إلاّ رجل منك، وكنت من رسول الله(صلى الله عليه وآله) وكان منّي، فاضطغن لذلك عليَّ أيضاً وأتبعته عائشة في رأيه.

وكانت عائشة تمقت خديجة بنت خويلد، وتشنؤها شنآن الضرائر، وكانت تعرف مكانها من رسول الله(صلى الله عليه وآله) فيثقل ذلك عليها، وتعدّى مقتها إلى ابنتها فاطمة، فتمقتني وتمقت فاطمة وخديجة، وهذا معروف في الضرائر[46].  

 


[1] ترجمة الإمام الحسن(عليه السلام)، ابن عساكر: ص197.

[2] الفتوح، أحمد بن أعثم الكوفي: ص436.

[3] قال الزبيدي في تاج العروس: ج9، ص91: (والحشّ: هو المخرج، أو الموضع الذي يتخلى فيه الناس، فإن الناس كانوا يقضون حوائجهم في البساتين، وحش كوكب: بستان بظاهر المدينة خارج البقيع، لرجل اسمه كوكب).

[4] تاريخ الطبري، الطبري: ج3 ص43.

[5] الصحيح من سيرة الامام علي(عليه السلام)، السيد جعفر مرتضى العاملي: ج19، ص23.

[6] شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: ج20، ص22.

[7] الصحيح من السيرة الإمام علي(عليه السلام)، السيد جعفر مرتضى العاملي: ج19 ص45.

[8] كنز العمال، المتقي الهندي: ج5، ص749.

[9] تاريخ اليعقوبي، اليعقوبي: ج2، ص180.

[10] راجع تاريخ الطبري: ج3، ص476.

[11] راجع المصدر السابق: ج3، ص475.

[12] مناقب آل أبي طالب، ابن شهر آشوب: ج2، ص336.

[13] الاستيعاب، ابن عبد البر: ص1885.

[14] الامامة والسياسة، ابن قتيبة: ج1، ص60.

[15] المناقب، الخوارزمي: ص181.

[16] معجم البلدان، الحموي: ج2، ص314.

[17] المناقب، الخوارزمي: ص181.

[18] شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: ج9، ص321.

[19] سورة النساء: آية93.

[20] مناقب آل أبي طالب، ابن شهر آشوب:ج2، ص336.

[21] كشف الغمة، الإربلي: ج1، ص240.

[22] الطبقات الكبرى، ابن سعد: ج3، ص223.

[23] الجمل، الشيخ المفيد: ص204.

[24] بحار الانوار، العلامة المجلسي: ج32، ص172.

[25] تاريخ الطبري، الطبري:ج3، ص530.

[26] راجع الأخبار الطوال، ابن قتيبة: ص150.

[27] تاريخ اليعقوبي، اليعقوبي: ج2، ص183.

[28] الجمل، الشيخ المفيد: ص222.

[29] أي: الطبع.

[30] نهنهتَ: إذا صحت به لتكفّه.

[31] جمع غمر: الذي لم يجرّب الأُمور.

[32] الزجّ: الحديدة التي تركّب في أسفل الرمح.

[33] الكامل في التاريخ، ابن الأثير: ج2، ص348.

[34] سورة طه: آية97.

[35] نهج البلاغة، تحقيق صالح: ص102.

[36] الخرائج والجرائح، الراوندي: ج1، ص197.

[37] شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: ج1، ص23.

[38] مروج الذهب، المسعودي: ج2، ص369.

[39] المصدر السابق.

[40] الفتوح، أحمد بن أعثم الكوفي: ج2، ص487.

[41] تاريخ الطبري، الطبري: ج3، ص543.

[42] كشف الغمة، الأربلي: ج1، ص243.

[43] فيض القدير شرح الجامع الصغير، المناوي: ج6، ص475.

[44] شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: ج6، ص215.

[45] ميزان الاعتدال، الذهبي: ج1، ص271.

[46] الجمل، الشيخ المفيد: ص218.