قال تعالى: (أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ)[1]
لقد رسمت الآيات السابقة على هذه الآية الشريفة صورة واضحة لصفات هذه القدوة من المؤمنين، فيقول تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ(58) وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60)) فبدأت أولا بالخوف الممتزج بتعظيم الله، وانتهت بالإيمان بالمعاد حيث محكمة العدل الإلهي، الذي يشكل الشعور بالمسؤولية، ويدفع الإنسان إلى كل عمل طيب، فهي تبيّن أربع خصال للمؤمنين ونتيجة واحدة[2]، أي: أن أولئك الذين وصفناهم بالصفات المتقدمة هم يسارعون في الخيرات، وهي الأعمال الصالحة المبتنية على الاعتقاد الحق الذي عند هؤلاء المؤمنين، وهم سابقون إليها، أي: يتسابقون فيها، لأن ذلك لازم كون كل منهم مريداً للسبق إليها[3]، وقيل: لأجل تلك الصفات والمسارعة إلى الخير هم سابقون إلى الجنّة، وقيل: هم سبقوا الأمم إلى الخيرات[4].
وقوله تعالى (يسارعون) من باب ((مفاعلة)) وتعني ((التسابق))، وهو تعبير جميل يصوّر حال المؤمنين وهم يتسابقون إلى هدف كبير سامٍ، كما يبيّن تنافسهم في إنجاز الأعمال الصالحة دون ملل وكلل[5]، ففي هذه الآية الشريفة وصف عز وجل المؤمنين المتقين بأنهم هم الذين يسارعون في الخيرات، وفي مورد آخر يأمر الله تعالى المؤمنين الصالحين بالمسارعة إلى الصالحات والتسابق في عمل الخيرات، قال سبحانه: (لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعًا إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)[6]، وهكذا حثّ النبي وآله صلوات الله عليهم في الأحاديث الشريفة على المبادرة والمسارعة في عمل الخير، قبل أن تتغير النفوس وتتقلب القلوب وتتبدل الظروف.
والمسابقة إلى الخيرات خلق لا يتصف به إلا المؤمن الصادق، والمسارعة إلى أعمال البر طبع لا يتخلق به إلاّ من وهبه الله تعالى رجاحة في العقل وانشراحا في الصدر وسلامة في القلب، فعلى المؤمنين أن يبادروا إلى عملِ الصالحاتِ، والتنافس في تقديمِ الخيراتِ، ولا يضيِّعوا أوقاتَهم في غير فائدةٍ، ولا يُؤثِروا الحياةَ العاجلةَ على الآجِلةِ، ولا يرْكَنوا إلى الحياةِ الفانيةِ، ويتركوا الباقيةَ؛ فإنَّ الآخرةَ خيرٌ وأبقَى.
وفي مُجتمعنا الكَثيرُ مِن الناسِ قلوبُهم طاهرةٌ، ويُحبُّون عملَ الخيرِ، وأفعالَ البرِّ، ولكنَّهم مُبتَلَون بالتسويفِ، وتأجيلِ الأعمالِ مِن يومٍ إلى يومٍ، لا يَنتهزون الفُرَصَ، وليس عندَهم خُلُقُ المبادرةِ والمسارعةِ والمسابقةِ، لذلك يوصينا الله عز وجل بانتهاز الفرص قبلَ أن تفوتَ، وقبلَ أن تشغلَنا الدنيا وتَصرفَنا عن هذه الأَعمال الصالحة، وقد يتصور البعض أن الأعمال الصالحةُ هي: الصلاةَ، والزكاةَ، والصيامَ، والحجَّ، وقراءة القرآن الكريم فقط، ولكن هذا ليس بصحيح إنَّما هي كثيرة ومتعدِّدة منها:
زيارة المريضِ والإحسان إلى الجار وإعطاء الفقراء والمساكين وإغاثة الملهوف وإنصاف المظلوم وتربية الأبناء على منهجِ الله وإعمار المساجد وطلب العلم وإنجاز العمل للموظف وقيام الإنسان بالواجب عليه في كلِّ جانبٍ مِن جوانبِ الحياةِ....الخ، فكل هذه أعمال صالحة ينبغي للمؤمن المسارعة والمبادرة إليها قبل أن تفوت الفرصة، فيا أيُّها المسوِّفُون، ويا أيُّها المتردِّدون، استبقوا الخيراتِ؛ فإنَّ الإنسانَ لا يَدري ماذا يَعرِضُ له، فهُناك مَن يُصابُ بالفقرِ بعدَ الغِنى، وهناك مَن يَعرِضُ له المرضُ، وهناك مَن يُصيبه الهَرَمُ، حتى يصلَ به إلى درجةِ الخَرفِ، وهناك مَن يأتيه الموتُ سريعاً.
المسارعة في الخيرات والأعمال الصالحة لها فوائد عديدة منها:
(1) أنها مرضاة للرب عز وجل ومغضبة للشيطان.
(2) أنها ترفع صاحبها إلى جنات عدن حيث النعيم المقيم والفضل العظيم.
(3) تجعل صاحبها من المفلحين في الدنيا والآخرة.
(4) توجِد نوعاً من التنافس الحميد الذي يرقى بالمجتمع.
(5) السابق إلى الخيرات يغبطه أصحابه ويتمنون أن يصيروا مثله ويَمتَدِحونه بهذا السبق.
(6) يدركون مقاصدهم ولا يرجعون خائبين أبداً.
(7) يدخلون الجنة بغير حساب.
(8) تجعل صاحبها في مأمن من الفتن أو الأمور التي تشغل الإنسان وتلهيه مثل المرض أو الفقر أو الغنى المطغي أو الهرم.
1ـ قلوبهم مليئة بالخشية والخوف من الله، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ... أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ)[7].
2ـ عدم الثقة في قبول العمل والخوف من أن يرد، قال تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) [8].
3ـ الحزن عند افتقاد الخير
4ـ اغتنام الكنوز الربانية، مثل التسبيح والتهليل والتكبير وكثير من أوجه الخير.
5ـ علو الهمة
6ـ إذا فتر سرعان ما يرجع: لكل إنسان فتره ولكن هناك من تطول فترته وربما كانت إلى معصية، وأما المسارع إلى الخيرات فما إن يفتر حتى يرجع إلى نشاطه السابق، فلا يقدر على الابتعاد عن ربه كالسمك لا يقدر على الابتعاد عن الماء.
7ـ إذا عصى سرعان ما يتوب: كل بني آدم خطاء وخير الخطاءين التوابون.
9ـ المراقبة: المسارع إلى الخيرات يراقب الله في حركاته وسكناته، ولا يرضى أن يكون الله تعالى أهون الناظرين إليه.
يمكن أن نربي أنفسنا على المسارعة إلى الخيرات بإتباع الأمور الآتية:
1ـ الإكثار من ذكر الله: نستشعر الهدف الذي نريد أن نصل إليه وهو الجنة، وما الذي نريد أن نهرب منه وهو النار.
2ـ معرفة أجور الأعمال: نعرض فضل الأعمال على قلوبنا ونتأملها ونتخيلها فمن تلمح فجر الأجر هان عليه ظلام التكليف
3ـ لابد من الاستعداد لبعض التعب والجهد في سبيل الوصول لهذه الدرجة.
4ـ مصاحبة المسارعين في الطاعات.
5ـ يجب أن يكون لنا ثوابت يومية لا نتخلى عنها.
فبادر إلى الخيرات وسارع إلى الصالحات، تنل البركات وتستجاب منك الدعوات وتفرج لك الكربات وتنل الرضا من رب البريات.
مجلة بيوت المتقين العدد (13)