لقد أراد القاتل يزيد أن يمحو ذكر أهل البيت (عليهم السلام)، لا بصفتهم الشّخصيّة فحسب، وإنّما بما يمثّلونه من صورة الإسلام النَّاصعة، ومن نهج إسلاميّ هو امتداد لنهج رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وطَمِعَ في أن يعود بالقوم إلى عصر الجاهليّة الجهلاء، حيث حكم العشائر والقبائل، وحيث الانتقام من الإسلام الّذي قضى على أشياخه الكافرين.
ولكنّ السيدة زينب (عليها السلام) جاءت بكلمتها لتنغّص عليه حلمه الموبوء، معلنة أنَّ مشروعه لن يعرف إلا الهزيمة، وأنَّ ما حدَّده من هدف محو ذكرهم، والقضاء على خطّهم، لن يكون مصيره إلّا الوأد في المهد.
وإذا نظرنا إلى كل مراحل التّاريخ، وحتى أكثرها ظلاميّة وقمعاً للرأي الآخر، نرى أنّ ما قالته زينب(عليها السلام) مثّل الحقيقة الناصعة، فذكر أهل البيت(عليهم السلام) لم يتوقف، بل كان عدد المؤمنين بنهجهم يزداد يوماً بعد يوم، وهي كانت مدركة تمام الإدراك، أنّ النصر في هذه المعركة لن يكون ليزيد، ولا لنهجه الاستكباري، ولا لأمثاله من الظالمين الطغاة، على الرغم من نشوة النصر الزائفة التي عاشها لوقت قليل، وكانت ترى بعين البصيرة واليقين، أنّ النصر سيكتب لمسيرة خطوها بدمائهم وتضحياتهم، وأنّ الدم الزاكي الذي سال على أرض كربلاء، سيكون شعلة تضيء درب كل الأحرار في كل زمان ومكان، والبوصلة التي ترشد كل من يريد السّير في طريق الحق، وسيكون معين الثّوار ضد كل طاغية ومستكبر.
ها هي ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) اليوم تفرض نفسها على العالم كلّه، ترفع شعارات الحقّ والعدل ضدّ الظّلم والباطل، وتنتج في كلّ يوم أبطالاً يتّخذون من الإمام الحسين وأصحابه قدوةً في مقارعة الاستكبار وأهله، والملايين من المسلمين، من محبّي أهل البيت (عليهم السلام) في كلّ أقطار العالم، يلهجون بذكرهم، ويسيرون على دربهم.
قالتها زينب (عليها السلام)، وزينب هي تلك الثّائرة المسلمة المؤمنة البطلة القويّة، التي اتّخذت خياراً، وكانت على قدر المسؤوليّة، لم تهن ولم تضعف وهي تسير في طريق ذات الشّوكة. فلتكن هذه صورتها دائماً، ولا نسيئنّ إليها بأيّ صورة أخرى تبرزها في موقف الضّعف والوهن، إذ لا يمكن لمن وقفت أمام طاغية عصرها تهدر بكلمات التحدّي، أن يعرف الضّعف طريقاً إليها.
وللقارئ الكريم ان يطلع ويقرأ كم أُلفت كتب وكُتبت مقالات وعُقدت ندوات و... حول ما قالته زينب (عليها السلام)، وما بشرت به من نصر، كما بشر به الإمام الحسين (عليه السلام)، فعن حمزة بن حمران عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال ذكرنا خروج الحسين وتخلف ابن الحنفية عنه قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «يا حمزة اني سأحدثك في هذا الحديث ولا تسئل عنه بعد مجلسنا هذا إنّ الحسين لما فصل متوجهاً دعا بقرطاس وكتب بسم الله الرحمن الرحيم من الحسين بن علي إلى بني هاشم أمّا بعد فإنه من الحقَّ بي منكم أُستشهد معي، ومن تخلف لم يبلغ الفتح والسلام»[1].
أَنّ زينب(عليها السلام) بشرت مرتين؛ الأُولى في مجلس إبن الطُّلقاء يزيد عندما تحدته في خطبتها العلويّة بقولها «فوَالله لا تمحُو ذِكرنا»[2]. والقسم دليل الثّقة المُطلقة حدّ اليقين بالله تعالى وبالنَّفس وبالرسالة وبالقضيّة.
كذلك قولُها(عليها السلام) للإمام السجاد (عليه السلام):
«فوَالله إِنَّ ذلكَ لعهدٍ من رسولِ الله (صلى الله عليه وآله) إِلى جدِّكَ وأَبيكَ وعمِّكَ، ولقد أَخذَ الله ميثاقَ أُناسٍ من هذهِ الأُمَّة لا تعرفهُم فراعنةُ هذهِ الأَرض، وهُم معروفُونَ في أَهلِ السَّماواتِ أَنَّهم يجمعُونَ هذهِ الأَعضاء المُتفرِّقة فيوارونَها، وهذهِ الجسُوم المُضرَّجة، وينصبُون لهذا الطفِّ علماً لقبرِ أَبيكَ سيِّد الشُّهداء (عليه السلام) لا يُدرَسُ أَثرهُ، ولا يعفُو رسمهُ، على كرورِ اللَّيالي والأَيَّام وليجتهِدنَّ أَئِمَّةَ الكُفرِ وأَشياع الضَّلالة في مَحْوهِ وتطميسهِ، فلا يزدادُ أَثرهُ إِلَّا ظهُوراً، وأَمرهُ إِلَّا عُلُوّاً»[3].