وفاة عبد المطلب (عليه السلام)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله المعصومين الطاهرين.

عبد المطّلب شيبة الحمد

اسمه وكنيته: أبو الحارث، عبد المطّلب بن هاشم بن عبد المناف.

ولادته وسبب تسميته: ولد بالمدينة المنوّرة، وفي رأسه شيبة، فقيل له: شيبة الحمد - رجاء أن يكبر ويشيخ ويكثر حمد الناس له ـ وقد حقّق الله ذلك، فكثر حمدهم له؛ (لأنّه كان مفزع قريش في النوائب، وملجأهم في الأُمور، فكان شريف قريش وسيّدها كمالاً وفعالاً من غير مدافع)[1].

إيمانه: كان يؤمن بالله تعالى واليوم الآخر، ويؤيّد ذلك قوله للناس: (لن يخرج من الدنيا ظلوم حتّى ينتقم الله منه ويصيبه عقوبة، إلى أن هلك رجل ظلوم ومات حتف أنفه، ولم تصبه عقوبة، فقيل لعبد المطّلب ذلك، ففكّر ثمّ قال: فوالله إنّ وراء هذه الدار داراً، يجزى المحسن بإحسانه، والمسيء يعاقب على إساءته)[2].

قال الشيخ المفيد (قدس سره): (اتّفقت الإمامية على أن آباء رسول الله (صلى الله عليه وآله) من لدن آدم إلى عبد الله بن عبد المطّلب مؤمنون بالله عزّ وجل موحّدون له، واحتجّوا في ذلك بالقرآن والأخبار، قال الله عزّ وجل: (الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ)[3]، وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (لم يزل ينقلني من أصلاب الطاهرين، إلى أرحام المطهّرات حتّى أخرجني في عالمكم هذا)[4].

موقفه من أصحاب الفيل: عندما جاء أبرهة الأشرم لهدم الكعبة في حادثة أصحاب الفيل، قابله عبد المطّلب وطلب منه أن يردّ عليه إبلاً له أخذها الجيش، فقال أبرهة: ألا تطلب منّي أن أعود عن هدم البيت ـ الكعبة ـ؟! فأجابه عبد المطّلب بكلمة الإيمان الراسخ: (أنا ربّ الإبل، وإنّ للبيت ربّاً يحميه...، فقال عبد المطّلب وهو آخذ بحلقة باب الكعبة:  

لا هُمَّ إنّ المرء منعُ رَحْلَهُ فامنَعْ رِحالَكْ

لا يَغْلِبَنَّ صليبُهم ومِحالُهم غَدْواً مِحالَكْ

إن كنتَ تارِكَهُم وكعبتَنا فأمرٌ ما بدا لَكْ

يا رَبِّ لا أرجو لهم سِواكا             يا ربِّ فامنَعْ مِنهمُ حِماكـا

إنّ عَدوَّ البيتِ مَن عاداكـا           إمنَعْهمُ أن يُخْرِبوا قُراكـا

وإذا بهاتفٍ يُسمَع صوته ولا يُرى شخصه وهو يقول له: قد أجبتُ دعوتَك، وبلغتَ مَسرّتَك؛ إكراماً للنور الذي في وجهك، فقال لمَن معه: أبشِروا؛ فإنّي رأيتُ النور الذي في وجهي قد علا، وإنّما كان ذلك كاشفاً لما طَرَقكم..)[5].

ثمّ عقّب بقوله: يا معشر قريش، لا يصل إلى هدم هذا البيت، فإنّ له ربّاً يحميه ويحفظه، فأهلك الله أبرهة وجيشه، وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك في سورة الفيل بقوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مّأْكُولٍ)[6].

كرامات.. ودلالات: كان عبدالمطّلب رضوان الله عليه ذا جلالةٍ ظاهرة، ومناقب وافرة، وآياتٍ باهرة، تظهر تلك من مشاهد عديدة ومواقف كثيرة..

منها: انحناء سرير أبرهة الحبشي لمّا دخل عليه عبدالمطّلب[7].  

ومنها: انفجار الماء تحت خُفّ راحلته في صحراء لا ماء فيها (شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 3 ,ص456).

ومنها: استجابة دعائه في ردّ جيش أبرهة، وتظهر فيها جلالته وكثرة إيقانه، حيث قال لبعض وُلده: اُعْلُ أبا قُبَيس فانظُرْ ماذا يأتي مِن قِبل البحر.. فيظهر أنّه كان عالماً بأن ستأتي الطير الأبابيل فتستأصل أصحاب أبرهة بن الصباح.كما اشرنا له سابقا[8].

سننه: ومن شرف سيرته سلام الله عليه أنّه كان يتنزّه عن المحرَّمات، ويعمل على هدى الشرائع الإلهيّة، حتّى جاء عن رسول الله صلّى الله عليه وآله قوله: (إنّ عبد المطّلب كان لا يَستقسِم بالأزلام، ولا يَعبُد الأصنام، ولا يأكل ما ذُبِح على النُّصُب، ويقول: أنا على دِينِ أبي إبراهيم (عليه السلام))[9].

وقوله (صلّى الله عليه وآله): (إنّ عبد المطّلب سَنَّ في الجاهليّة خمسَ سُنَنٍ أجراها الله عزّوجلّ له في الإسلام: حرَّمَ نساء الآباء على الأبناء، فأنزل الله عزّوجلّ: (ولا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكمُ مِنَ النِّساء)[10]، ووجَدَ كنزاً فأخرج منه الخُمْسَ وتَصدّق به، فأنزل الله عزّوجلّ: (واعْلَمُوا أَنّما غَنِمتُم مِنْ شَيءٍ فأَنّ لِلهِ خُمُسَه)[11]، ولمّا حَفَر زمزمَ سَمّاها سِقاية الحاجّ، فأنزل الله تبارك وتعالى: (أجَعَلْتُم سِقايةَ الحاجِّ وعِمارةَ المسجدِ الحرامِ كَمَن آمَنَ باللهِ واليومِ الآخِر)[12]، وسَنّ في القتل مئةً مِن الإبل، فأجرى الله عزّوجلّ ذلك في الإسلام، ولم يكن للطواف عددٌ عند قريش، فسَنّ لهم عبدالمطّلب سبعةَ أشواط، فأجرى الله عزّوجلّ ذلك في الإسلام)[13].

عبادته: أمّا عبادته عليه الرحمة والرضوان، فيذكرها لنا أمير المؤمنين عليٌّ عليه السلام قائلاً: (واللهِ ما عبَدَ أبي، ولا جَدّي عبدالمطّلب، ولا هاشمٌ ولا عبدُ مَنافٍ صَنَماً قطّ، فقيل له: فما كانوا يعبدون؟ قال: كانوا يُصلّون إلى البيت على دين إبراهيم عليه السلام متمسّكين به)[14].

وكان لعبدالمطّلب دَورٌ تكميليّ لِما نهض به أبوه هاشم، في تأسيس رحلة الشتاء والصيف، والسفر إلى الشام وفلسطين ومصر، ومفاوضة رؤساء القبائل والملوك الذين تمرّ قوافل قريش التجارية عبر مناطقهم.

ولعبد المطّلب أشعارٌ في الحكمة والأخلاق، منها ما رواه الشيخ الصدوق عن الريّان بن الصَّلت قال: أنشَدَني الرضا عليه السلام لعبدالمطّلب:

يَعيبُ الناسُ كلُّهـمُ زمانـاً           وما لزمانِنا عَيـبٌ سِوانـا

نَعيبُ زمانَنا والعَيبُ فينـا             ولو نطَقَ الزمانُ بنا هَجانا

وإنّ الذئبَ يتركُ لحمَ ذِئبٍ،            ويأكلُ بعضُنا بعضاً عَيانا!

لَبِسْنا للخداعِ مُسوكَ طِيبٍ             فويلٌ للغريـبِ إذا أتانـا![15]

شوقه للنبيّ (صلى الله عليه وآله) وحبّه له: رُوي عن أبي طالب رضوان الله عليه في ضمن حديثٍ له عند تأييده لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) ونصرته له، أنّه قال: (ولقد كان أبي [أي عبدالمطّلب رضي الله عنه] يقول: إنّ مِن صُلْبي لَنبيّاً، لَوَدِدتُ أنّي أدركتُ ذلك الزمانَ فآمنتُ به، فَمَن أدرَكَه مِن وُلدي فَلْيُؤمنْ به)[16].

حتّى إذا وُلِد رسول الله صلّى الله عليه وآله ضمّه عبدالمطّلب إلى كَنَفِه، وخصّه بحبّه ورعايته وخدمته، وكان يُكرمه ويُجلّه ويفضّله، قال ابن عبّاس: كان يُوضَع لعبدالمطّلب فِراشٌ في ظلّ الكعبة لا يجلس عليه أحدٌ إلاّ هو؛ إجلالاً له، وكان بنوه يجلسون حوله حتّى يخرج عبدالمطّلب، فكان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يخرج وهو غلامٌ صبيٌّ فيجيء حتّى يجلس على الفراش، فيَعْظُم ذلك على أعمامه، ويأخذونه ليؤخّروه، فيقول لهم عبد المطّلب إذا رأى ذلك منهم: دَعُوا ابني، فَوَالله إنّ له لَشأناً عظيماً! إنّي أرى أنّه سيأتي عليكم يومٌ وهو سيّدُكم، إنّي أرى غُرّتَه غُرّةً تَسُود الناس.

قال ابن عبّاس: ثمّ يحمله فيُجِلسُه معه، ويمسح ظهره ويقبّله ويقول: (ما رأيتُ قُبلةً أطيب منه ولا أطهر قطّ، ولا جسداً ألينَ منه ولا أطيب، ثمّ يلتفت إلى أبي طالب فيقول له: يا أبا طالب، إنّ لهذا الغلام لَشأناً عظيماً، فاحفَظْه واستَمسِكْ به؛ فإنّه فردٌ وحيد، وكُنْ له كالأمّ، لا يَصِلْ إليه شيءٌ يكرهه. ثمّ يحمله على عنقه فيطوف به أُسبوعاً (أي سبعة أشواط))[17].

وعن ابن عبّاس أيضاً: نادى شيخٌ على الكعبة: يا عبدَالمطّلب، إنّ حليمة امرأةٌ عربيّة، وقد فقدت أبناً اسمُه (محمّد)! فغضب عبدالمطّلب، وكان إذا غضب خاف الناس منه، فنادى: يا بني هاشم، ويا بني غالب، اركبوا فقد فُقِد محمّد. وحَلَف ألاّ ينزل حتّى يجد محمّداً (صلّى الله عليه وآله).. فسمع نداءً: إنّ الله لا يضيّع محمّداً، فقال: أين هو ؟! قال: في وادي فلان، تحت شجرة أمّ غيلان.. فلمّا وجده عبدالمطّلب حمله على عُنقه وطاف به حول الكعبة، وكانت النساء اجتمعن عند آمنة على مصيبته، فلمّا رآها تمسّك بها وما التفتَ إلى أحد[18]

وفاته ووصيته رحمَه الله: وعلى فراش الموت.... غمّض عينَيه ثمّ فتحهما، فنظر قريشاً فقال: يا قوم، أليس حقّي عليكم واجباً؟ فقالوا بأجمعهم: نَعَم، حقّك على الكبير والصغير واجب، فنِعمَ القائدُ ونعم السائق فينا كنت، فجزاك الله تعالى عنّا خيراً، وهَوَّن عليك سكرات الموت، وغفر لك ما سَلَف من ذنوبك. فقال لهم عبدالمطّلب: (أُوصيكم بولدي محمّدِ بنِ عبد الله، فأحِلُّوه محلَّ الكرامة فيكم، وبِرُّوه ولا تَجفُوه، ولا تستقبلوه بما يكره، فقالوا بأجمعهم: قد سَمِعنا منك وأطعناك فيه)[19].

تُوفّي (رضي الله عنه) في 10ربيع الأوّل 45 قبل الهجرة بمكّة المكرّمة، ودُفن في مقبرة الحَجُون بمكّة المكرّمة وعمره (صلى الله عليه وآله) ثمان سنين.

قال اليعقوبي: (وأعظمت قريش موته، وغُسل بالماء والسدر - وكانت قريش أوّل مَن غسل الموتى بالسدر - ولُفّ في حُلّتين من حلل اليمن، قيمتهما ألف مثقال ذهب، وطُرح عليه المسك حتّى ستره، وحُمل على أيدي الرجال عدّة أيّام إعظاماً وإكراماً وإكباراً لتغييبه في التراب)[20].

وصيته: وأمّا وصيّته الخاصّة سلام الله عليه فقد أدّاها عبدالمطّلب إلى وَلَده أبي طالب وقد أدركته الوفاة، فبعث إليه والنبيّ (صلّى الله عليه وآله) على صدره وهو في غمرات الموت ويبكي، ثمّ يلتفت إلى أبي طالبٍ ويقول له: يا أبا طالب، أُنظُرْ أن تكون حافظاً لهذا الوحيدِ الذي لم يَشمَّ رائحةَ أبيه، ولم يَذُق شفقة أُمّه (حيث تُوفّيت رضوان الله عليها وهو صغير السنّ) انظُر يا أبا طالب أن يكون من جسدك بمنزلة كَبِدك، فإنّي تركتُ بَنيَّ كلَّهم وأوصيتُك به؛ لأنّك مِن أُمّ أبيه، يا أبا طالب، إن أدركتَ أيّامه فاعلَمْ أنّي كنتُ مِن أبصر الناس به وأعلَمِ الناس به، فإن استطعتَ أن تتبعه فافعل، وانصُرْه بلسانك ويدك ومالك؛ فإنّه - واللهِ - سيسودُكم ويملك ما لم يملك أحد من بني آبائي يا أبا طالب، ما أعلم أحداً من آبائك مات عنه أبوه على حال أبيه، ولا أُمّه على حال أُمّه، فاحفَظْه لوحدته، هل قَبِلتَ وصيّتي ؟ قال أبو طالب: نَعَم قد قبِلتُ واللهُ عَلَيَّ بذلك شهيد، فقال عبدالمطّلب: فَمُدَّ يدَك إليّ، فمدّ يده، فضرب بيده إلى يده، ثمّ قال عبد المطّلب: الآن خُفِّف علَيَّ الموت، ثمّ لم يَزَل عبدالمطّلب يُقبّل النبيَّ ويقول له: أشهدُ أنّي لم أُقبّل أحداً من وُلدي أطيبَ ريحاً منك، ولا أحسَنَ وجهاً منك، قال ابن عبّاس في ختام روايته هذه: وكان عبدالمطّلب يتمنّى أن يكون قد بقيَ حتّى يُدرِك زمانه، فمات والنبيُّ ابن ثمان سنين، فضمّه أبو طالبٍ إلى نفسه لا يفارقه ساعةً من ليلٍ ولا نهار، وكان ينام معه حتّى بلغ لا يأتمن عليه أحداً[21].

وذكرت بعض المصادر أنّ عبد المطّلب كان عاش مئةً وأربعين سنة، فأعطاه شيخٌ مهيب ضِغْثَ ريحان وقال له: شُمَّه، فلمّا شمّه مات، وكان الشيخ مَلَكَ الموت، وقد مشى النبيّ صلّى الله عليه وآله خلف جنازته وهو يبكي، حتّى دُفن رضوان الله عليه بالحَجُون. ويُعرَف هذا الموضع بـ (المَعْلاة)، وفيه قبر أبي طالب وعبد مَناف وخديجة رضي الله عنهم أجمعين[22].

وأمّا عن بَعثه رضوان الله عليه، فيذكر لنا الشيخ الكلينيّ في باب مولد النبيّ (صلّى الله عليه وآله) أنّ الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) قال: (يُحشَر عبدُالمطّلب يومَ القيامةِ أُمّةً واحدة، عليه سِيماءُ الأنبياء وهيبةُ الملوك)[23].

والحمد لله رب العالمين.

 

لتحميل الملف اضغط هنا


[1] السيرة الحلبية الحلبي: ج1، ص 6.

[2] رسائل الشريف المرتضى ج3، ص224.

[3] الشعراء: 218- 219.

[4] أوائل المقالات: الشيخ المفيد، ص45.

[5] بحار الأنوار: ج15, ص65. والنهاية لابن الأثير: ج4، ص332.

[6] سورة الفيل: 1 / 5.

[7] أمالي الشيخ الطوسي: ص68.

[8] الدرّ المنثور للسيوطي: ج6، ص364.

[9] مكارم الأخلاق للطبرسي: ص440.

[10] سورة النساء: 22.

[11] سورة الأنفال: 41.

[12] سورة التوبة: 19.

[13] مكارم الأخلاق: ص440.

[14] كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق: ص174. 

[15] الأمالي للشيخ الصدوق: ص 243.

[16] بحار الأنوار: ج35، ص148.

[17] كمال الدين وتمام النعمة: ص172.

[18] مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: ج1، ص24.

[19] بحار الأنوار: ج15، ص153.

[20] تاريخ اليعقوبي: ج2، ص13.

[21] بحار الأنوار: ج15، ص143.

[22] سفينة البحار للشيخ عباس القمي.  ج3، ص353.

[23] الكافي: ج1، ص447.