تحصين الأمة في زمن الغيبة

في مرحلة الغيبة الكبرى فتن وابتلاءات وامتحانات، فالاضطهاد للأمة من قبل الطغاة والمستكبرين والمعادين للإسلام مستمر على قدم وساق فتارةً يكون على شكل إبادة جماعية، كما حدث في عصر الشيخ الطوسيu والذي اضطره للخروج من بغداد إلى النجف الأشرف، وفي مصر عندما جاء صلاح الدين الأيوبي، قام بإبادة جماعية فأحرق الأيوبيون مكتبة القصر الفاطمي التي جمعت مائتي ألف مجلد، وأبادوا مكتبة الأزهر أيضا ومكتبة أخرى هي مكتبة دار الحكمة.

وأخرى يكون الاضطهاد على شكل فردي، فيتعرض أفراد من الأمة للقتل والاضطهاد والزج في السجون.

وأما الخط الفكري الذي كان يتخذه الحكام المنحرفون، هو خط مغاير للخط الشيعي الذي هو الإسلام الحقيقي، فهو ينكر الإمامة لأهل البيت(عليهم السلام) والعصمة لهم، ويجوز على النبي(صلى الله عليه وآله) الخطأ، ويلتزم بعصمة الصحابة جميعا، لتبرير كل عمل يصدر عن الحكام المنحرفين، مهما كان انحرافه عن الإسلام ودعمه بعمل بعض الصحابة المنافقين، وبنسبة الظلم إلى الله تعالى وتجسيمه، وكذا ينسب الجبر إلى الله تعالى للإنسان لتبرير أعمال الظلمة والمنحرفين، إلى غير ذلك من الأفكار البعيدة عن الفكر الإسلامي الأصيل المتمثل في الفكر الشيعي.

وكذلك في الفقه، بأن جعل الظنون حجة كالقياس والاستحسان وغيره، وعدم الرجوع إلى الأئمة من أهل البيت(عليهم السلام) والرجوع إلى الصحابة، وأخذ الروايات من المنافقين والمعادين للإسلام وعدم أخذها من أهل بيت النبوة(عليهم السلام).. إلى غير ذلك من جوانب الاختلاف، مما أدى إلى أن يكون الفقه بعيدا كل البعد من الفقه الإسلامي الحقيقي. وأن هذا الفقه كان مفروضا على الأمة للعمل به، وإجراء العبادات والمعاملات على وفقه. وكذلك الأفكار والمعتقدات كانت تفرض على الأمة للالتزام بها وإلا قد يؤدي إلى القتل كما كان يصنع الحكام الطغاة بالموالين لأهل البيت(عليهم السلام)، فكان بعض الطغاة يأتي بالمؤمن ويوجّه له سؤالا أيهما أفضل الخليفة الأول أو الرابع، فإذا قال الرابع، قُتل أو ضُرب مائة سوط أو سُجن، وكانت هذه وأمثالها تتكرر على طول الخط في عصر الأئمة(عليهم السلام) والغيبة الكبرى أيضا.

ومن هنا، كانت التأكيدات على التقية من قبل أهل البيت(عليهم السلام) فإن كلَّ هذه الأشياء تجعل اضمحلال الفكر الإسلامي وفقهه شيئا فشيئا على مر العصور والأيام إلى أن تكون النتيجة إسلاما مشوها: إسلام الطغاة والمستكبرين يفسرونه كيفما يشاءون.

إنَّ الانحراف قد يبدأ بدرجة صغيرة جدا قد لا يلتفت إليه إلا الراسخون في العلم، ولكن بمرور الزمن يتسع هذا الانحراف ويترسخ إلى أن يكون هو المسيطر والأصيل، ولهذا كان النبي(صلى الله عليه وآله) يتصدى لكل انحراف، مهما كان صغيرا، والوقوف بوجهه.

فعندما سمع النبي(صلى الله عليه وآله) أن جماعة من الصحابة تركوا الدنيا واعتكفوا بالمساجد، وهجروا نساءهم، غضب لهذا العمل وصعد المنبر وبيّن أن هذا العمل ليس من الإسلام وأنه انحراف عن الإسلام، وأشار إلى عمله باعتباره الأسوة الحسنة، فقال إنه(صلى الله عليه وآله) يعمل ويصلي، يصوم ويفطر، يقوم الليل وينامه... فكان موقفا منه حازما تجاه هذا الانحراف للقضاء عليه قبل اتساعه.

وكذلك الأئمة(عليهم السلام) كانوا يقفون أمام الانحراف بشدة؛ فوقف أمير المؤمنين(عليه السلام) موقفا حازما من مسألة جواز المسح على الخُفّين وأوضح أنه ليس حكم الله.. وإنما المسح على القدمين وكذلك باقي الأئمة(عليهم السلام) وقفوا بحزم من مسألة الجبر والتفويض، وخَلْق القرآن، والروايات الكاذبة، و...

كان هذا في عصر المعصوم(عليه السلام) فإنه كان يتصدى لما يحدث من الانحرافات والأخطاء، وأما في عصر الغيبة الكبرى- وهي غيبة الإمام(عجل الله فرجه الشريف) - فإن الأمة قد تتعرض لضغوط للقضاء عليها جسديا وصهرها في بودقة الحكم المنحرف، فكريا وفقهيا وسياسيا، وهذا الضغط إذا استمر على الأمة لمدة طويلة، فقد تضعف وتنحرف شيئا فشيئا إلى أن تذوب ولا يبقى لها وجود مما يؤدي إلى اضمحلال الإسلام الواقعي والحقيقي عن مسرح الحياة، كما اندثرت كثير من الفرق التي ظهرت في العصر الأموي والعباسي، والتي تعرضت لضغوط من الحكام، ولم يبق لها وجود، أو بقي لها اسم فقط ولم يكن لها فكر وفقه متميز وهذا يُؤثّر على قضية الإمام المهدي(عجل الله فرجه الشريف) فإنه يحتاج لخروجه، إضافة إلى الظروف الموضوعية، وجود جماعة مؤمنة إيمانا عميقا بالإسلام ومنسجما مع متطلبات المرحلة الجهادية، والتي هي القضاء على الظلم والفساد في العالم أجمع وتحقيق السعادة تحت حكم الله تعالى، في أرجاء الأرض.

ولكن النبي(صلى الله عليه وآله) والقادة من أهل بيته(عليهم السلام) وضعوا الأسس العميقة والثابتة التي تجعل الأمة راسخة وثابتة، أمام التحديات، وأمام الضربات القاسية، وأمام عمليات الصهر، ووضعوا حواجز تحول دون الذوبان مهما كانت قوة الانحراف وسطوته.

بالإضافة إلى جهاد النبي(صلى الله عليه وآله) والقادة المعصومين(عليهم السلام) في إعطاء الفكر الإسلامي الخلاق، وبيانه بكل أبعاده، وكذلك بيان وتوضيح الفقه الإسلامي بكل حدوده، إضافة إلى هذا وغيره، فإن القادة المعصومين(عليهم السلام) أكدوا على حقائق إسلامية مهمة وثابتة تعطي للأمة كيانا مستقلا عن الجهاز المنحرف وإن كان حاكما ومسيطرا، وسوف نذكر جملة من هذه الحقائق في العدد القادم إن شاء الله تعالى.

عن كتاب الأمة وقائدها المنتظر للسيد محمد الحيدري (بتصرف).

 

المصدر: مجلة بيوت المتقين / العدد (70) ـ الصفحة: 20 - 21.