عقيدتنا في المهدي

إنّ البشارة بظهور المهديّ من ولد فاطمة في آخر الزمان - ليملأ الاَرض قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً - ثابتة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالتواتر، وسجَّلها المسلمون جميعاً فيما رووه من الحديث عنه على اختلاف مشاربهم[1]. وليست هي بالفكرة المستحدَثة عند الشيعة دفع إليها انتشار الظلم والجور، فحلموا بظهور من يطهِّر الاَرض من رجس الظلم، كما يريد أن يصوّرها بعض المغالطين غير المنصفين[2].

ولولا ثبوت فكرة المهدي عن النبي على وجه عرفها جميع المسلمين، وتشبَّعت في نفوسهم واعتقدوها لما كان يتمكّن مدّعو المهدية في القرون الاَولى - كالكيسانية[3] والعباسيين، وجملة من العلويين وغيرهم - من خدعة الناس، واستغلال هذه العقيدة فيهم طلباً للملك والسلطان، فجعلوا ادعا هم المهدية الكاذبة طريقاً للتأثير على العامة، وبسط نفوذهم عليهم.

ونحن مع ايماننا بصحة الدين الاسلامي، وأنه خاتمة الأديان الإلهية، ولا نترقب ديناُ آخر لإصلاح البشر، ومع ما نشاهد من انتشار الظلم، واستشراء الفساد في العالم على وجه لا تجد للعدل والصلاح موضع قدم في الممالك المعمورة، ومع ما نرى من انكفاء المسلمين أنفسهم عن دينهم، وتعطيل أحكامه وقوانينه في جميع الممالك الاسلامية، وعدم التزامهم بواحد من الاَلف من أحكام الاسلام، نحن مع كل ذلك لا بدَّ أن ننتظر الفرج بعودة الدين الاسلامي إلى قوّته وتمكينه من إصلاح هذا العالم المنغمس بغطرسة الظلم والفساد.

ثمّ لا يمكن أن يعود الدين الاسلامي إلى قوَّته وسيطرته على البشر عامة[4]، وهو على ما هو عليه اليوم وقبل اليوم من اختلاف معتنقيه في قوانينه وأحكامه وفي افكارهم عنه، وهم على ما هم عليه اليوم وقبل اليوم من البدع والتحريفات في قوانينه والضلالات في ادّعاءاتهم.

نعم، لا يمكن أن يعود الدين إلى قوّته إلاّ إذا ظهر على رأسه مصلح عظيم، يجمع الكلمة، ويرد عن الدين تحريف المبطلين، ويُبطل ما أُلصق به من البدع والضلالات بعناية ربّانية وبلطف إلهي؛ ليجعل منه شخصاً هادياً مهدياً، له هذه المنزلة العظمى، والرئاسةالعامّة، والقدرة الخارقة؛ ليملأ الاَرض قسطاً وعدلاً بعد ما ملئت ظلماً وجوراً.

والخلاصة؛ أنّ طبيعة الوضع الفاسد في البشر البالغة الغاية في الفساد والظلم - مع الايمان بصحّة هذا الدين، وأنّه الخاتمة للاَديان - يقتضي انتظار هذا المصلح المهدي لانقاذ العالم ممّا هو فيه.

ولاَجل ذلك آمنت بهذا الانتظار جميع الفرق المسلمة، بل الاَمم من غير المسلمين، غير أنّ الفرق بين الاِمامية وغيرها هو أنّ الامامية تعتقد أنّ هذا المصلح المهدي هو شخص معيَّن معروف ولد سنة 256 هجرية ولا يزال حياً؛ هو ابن الحسن العسكري واسمه (محمد)، وذلك بما ثبت عن النبي وآل البيت من الوعد به[5]، وما تواتر عندنا من ولادته واحتجاجه.

ولا يجوز أن تنقطع الاِمامة وتحول في عصر من العصور[6] وإن كان الامام مخفياً؛ ليظهر في اليوم الموعود به من الله تعالى، الذي هو من الاَسرار الاِلهية التي لا يعلم بها إلا هو تعالى.

ولا يخلو من أن تكون حياته وبقاؤه هذه المدّة الطويلة معجزة جعلها الله تعالى له، وليست هي بأعظم من معجزة أن يكون إماماً للخلق وهو ابن خمس سنين يوم رحل والده إلى الرفيق الاَعلى[7]، ولا هي باعظم من معجزة عيسى إذ كلَّم الناس في المهد صبياً، وبعث في الناس نبياً[8].

وطول الحياة أكثر من العمر الطبيعي - أو الذي يتخيّل أنّه العمر الطبيعي - لا يمنع منها فن الطب ولا يحيلها، غير أنّ الطب بعد لم يتوصّل إلى ما يمكّنه من تعمير حياة الانسان، وإذا عجز عنه الطب فانّ الله تعالى قادر على كلّ شيء، وقد وقع فعلاً تعمير نوح[9]، وبقاء عيسى[10] عليهما السلام كما أخبر عنهما القرآن الكريم... ولو شك الشاك فيما أخبر به القرآن فعلى الاسلام السلام.

ومن العجب أن يتساءل المسلم عن إِمكان ذلك وهو يدّعي الايمان بالكتاب العزيز!!

وممّا يجدر أن نذكره في هذا الصدد، ونذكِّر أنفسنا به أنّه ليس معنى انتظار هذا المصلح المنقذ المهدي أن يقف المسلمون مكتوفي الاَيدي فيما يعود إلى الحق من دينهم، وما يجب عليهم من نصرته، والجهاد في سبيله، والاَخذ بأحكامه، والاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

بل المسلم أبداً مكلَّف بالعمل بما أُنزل من الاَحكام الشرعية، وواجب عليه السعي لمعرفتها على وجهها الصحيح بالطرق الموصلة إليها حقيقة، وواجب عليه أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ما تمكَّن من ذلك وبلغت إليه قدرته «كلّكم راعٍ وكلّكم مسؤول عن رعيته»[11].

فلا يجوز له التأخّر عن واجباته بمجرد الانتظار للمصلح المهدي، والمبشّر الهادي؛ فإنّ هذا لا يسقط تكليفاً، ولا يؤجِّل عملاً، ولا يجعل الناسَ هملاً كالسوائم.

 


[1] انظر الغيبة للطوسي: 187/148، العمدة لابن البطريق: 433 ح909 و436 ح920. إثبات الهداة: 3/504 ح303 - 304، سنن أبي داود: 4/107 ح4284، سنن ابن ماجه: 2/1368 ح4086، وكافة أحاديث الباب 34 من كتاب الفتن، مستدرك الحاكم: 4/557، المعجم الكبير للطبراني: 23/267 ح566، كفاية الطالب: 486، كنز العمال: 14/264 ح38662، سنن الترمذي: 4/505، البيان في اخبار صاحب الزمان: 479، الحاوي للفتاوي: 2/58، البرهان في علامات المهدي عليه‌السلام: 94.

[2] ولعل من هؤلاء المغالطين الدكتور رونلدسون الذي يقول: (إنّ من المحتمل جدّاً أنّ الفشل الظاهر الذي أصاب المملكة الاسلامية في توطيد أركان العدل والتساوي على زمن دولة الاَمويين - 41 إلى 132 ه-- كان من الاسباب لظهور فكرة المهدي آخر الزمان). راجع: عقيدة الشيعة: 231.

[3] الكيسانية: فرقة أجتمعت على القول بإمامة محمد بن الحنفية. وقال بعضهم: إنّ محمد بن الحنفية هو الامام بعد أبيه علي بن أبي طالب عليه‌السلام؛ لاَنّ الامام علياً عليه‌السلام دفع إليه الراية يوم الجمل وقال له:

اطعنهم طعن أبيك تحمدِ     لا خير في الحرب إذا لم تزبد

 وقال آخرون منهم: إنّ الامام بعد علي عليه‌السلام كان الحسن ثم الحسين عليهما‌السلام ثم صار هو الامام بعد ذهاب الحسين عليه‌السلام من المدينة إلى مكة قبل واقعة كربلاء.

وزعم قوم منهم بأنّ محمد بن الحنفية حي لم يمت وهو المهدي المنتظر وهذا هو ما أشار إليه المصنّف هنا.

وذهب آخرون إلى الاقرار بموته وأنّ الامام بعده علي بن الحسين زين العابدين عليه‌السلام.

ومنهم من قال برجوع الامامة بعده إلى أبي هاشم عبدالله بن محمد بن الحنفية، واختلف هؤلاء بالامامة بعده، فمنهم من نقلها إلى محمد بن علي بن عبدالله، ومنهم من زعم أنّ الامامة بعده صارت إلى بيان بن سمعان، وزعموا أنّ روح الله كانت في أبي هاشم ثمّ انتقلت إلى بيان هذا.

وقيل: إنّما سمّوا بالكيسانية لاَنّ المختار بن أبي عبيد الثقفي كان رئيسهم، وكان يلقب ب- «كيسان»؛ لاَنّ صاحب شرطته (أبو عمرة) كان اسمه كيسان وكان أفرط في الفعل والقول والقتل من المختار.

هذا على أنّ اعتقاد الامامية - وهو الرأي الراجح عندهم - أنّ المختار كان ذو عقيدة صحيحة، وكان يدعو إلى امامة الامام السجّاد علي بن الحسين عليه‌السلام، وقد ورد مدحه على لسان الامام السجاد عليه‌السلام، وكذا ابنه الامام الباقر عليه‌السلام، وكذا ولده الامام الصادق عليه‌السلام. كما وتواتر الثناء عليه والذب عنه عند علماء الشيعة ولم يغمزه إلاّ شذاذ منهم. وما نُبز به المختار من القذائف فهو مفتعل عليه وضعه أعداؤه تشويهاً لسمعته؛ لاَنّه هو الذي قام بأخذ الثأر للاِمام الحسين عليه‌السلام وقتل الذين قاموا بقتله هو وأهل بيته في واقعة كربلاء المفجعة، وقد قام علماء الامامية وغيرهم بتأليف كتب مخصوصة في حياة المختار وسيرته وأعماله. راجع: الملل والنحل: 1/131، الفرق بين الفرق: 38، فرق الشيعة: 23.

[4] لكي يتحقق قوله تعالى - وقوله الحق - : (هُوَ الّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِره عَلَى الْدِّين كُلِّهِ) التوبة 9: 33 والفتح 48: 28 والصف 61: 9.

[5] حيث تواترت الروايات والاَخبار عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وعن الاَئمة عليهم‌السلام بظهور المهدي من ولد فاطمة، وانه سيملأ الاَرض قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً كما مر سابقاً.

وقد ذكر السيد الشهيد محمد باقر الصدر ما نصه: (إنّ فكرة المهدي بوصفه القائد المنتظر لتغيير العالم إلى الاَفضل قد جاءت في أحاديث الرسول الاَعظم عموماً، وفي روايات أئمة أهل البيت خصوصاً، وأكّدت في نصوص كثيرة بدرجة لا يمكن أن يرقى إليها الشك، ولقد اُحصي أربعمائة حديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من طرق إخواننا أهل السنة، كما اُحصي مجموع الاَخبار الواردة في الامام المهدي من طرق الشيعة والسنة فكان أكثر من ستة آلاف رواية. هذا رقم احصائي كبير لا يتوفّر نظيره في كثير من قضايا الاسلام البديهية التي لا شك فيها لمسلم عادة). بحث حول المهدي: 63.

[6] لما مرّ سابقاً من أنّ الاَرض لا تخلو عن حجة.

[7] فقد ورد في الروايات الكثيرة أنّ الامام العسكري عليه‌السلام توفّي في عام 260، وكان عمر الامام المهدي عندها خمس سنين وقام بأعباء الامامة.

ويدلّ على ذلك ما ورد من رواية أبي الاَديان، الذي كان يخدم الامام العسكري عليه‌السلام فأرسله الامام عند مرضه عليه‌السلام لينقل بعض الكتب إلى المدائن، وقال له: إنّك ستغيب خمسة عشر يوماً وتدخل في اليوم الخامس عشر إلى سر من رأى فتسمع الواعية. فسأله أبو الاَديان حينها عن الامام بعده فقال عليه‌السلام له إنّه الذي يطالبك بجواباتي ويصلي عليَّ ويخبرك بما في الهميان الذي معك. ثمّ تحقّق كل الذي قاله الامام عليه‌السلام، ورجع أبو الاَديان فكان الذي طالبه بالجوابات هو الامام المهدي، وهو الذي صلّى على أبيه عليه‌السلام- بعد أن أبعد عمّه - ثم أخبر أبا الاديان بما في الهميان الذي معه، كما اخبر جماعة آخرين بما عندهم من أُمور لم يطّلع عليها أحد غيرهم. وكان عمره إذ ذاك خمس سنين.

راجع: إكمال الدين وإتمام النعمة: 2/ 476، بحار الأنوار: 50/ 332 ح 4. وراجع أيضاً: تاريخ الغيبة الصغرى: 282 وما بعدها.

[8] اشارة إلى قوله تعالى في عيسى بن مريم عليه‌السلام وهو يحكي قصته، حيث قال بنو اسرائيل لمريم حين أتت به تحمله: (يَأُخْتَ هرونَ مَا كَانَ أَبوُكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغيِّاً* فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ في المْهدِ صَبِيّاً* قَالَ إِنَّي عَبْدُاللهِ ءاتانِي الكِتبَ وَجَعَلَنِي نَبيّاَ) مريم 19: 28 - 30.

[9] حيث قال تعالى في نوح عليه‌السلام: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إلاّ خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الْطُّوفَانُ وَهُمْ ظَلِموُنَ) العنكبوت 29: 14. ومن الثابت أنّ هذه الفترة - الف سنة إلاّ خمسين عاماً - هي فقط فترة بقائه في قومه يعظهم، أما عمره فقد قيل: إنّه على أقل التقديرات ألف وستمائة سنة، وقيل أكثر.. إلى ثلاث آلاف سنة.

راجع: تفسير الكشاف: 3/200، تفسير ابن كثير: 3/418، زاد المسير لابن الجوزي: 6/261.

[10] إشارة إلى قوله تعالى: (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْن مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبوُهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الّذِينَ اخْتَلَفوُا فِيهِ لَفِي شَكٍ مِنْهُ مَا لَهُمْ بهِ مِنْ عِلْم إِلاّ اتِّباعَ الظَّنِّ وَمَا قَتلُوهُ يَقِيناً* بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِليْهِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاَ حَكِيماً) النساء 4: 157 - 158. وهذا من الامور المسلّمة القطعية عند كافّة المسلمين؛ حيث أنّه لو تسرّب الشك إلى هذا الامر القرآني القطعي هذا يعني الشك بالقرآن بأجمعه (أَفَتُؤمِنُونَ بِبَعْضِ الكتَبِ وَتَكْفُرون ببعَضٍ) البقرة 2: 85. وإلى هذا أشار المصنّف بقوله: (ولو شك الشاك فيما أخبر به القرآن فعلى الاسلام السلام). وعلى هذا الاساس فإنّ المسلم بعد أن آمن بكل هذا وسلّم به فلا موجب للعجب من إمكان بقاء الاِمام كل هذه المدة الزمنية وهذا العمر الطويل - الذي لا يخلو من كونه معجزة بأمر الله تعالى - الذي منحه الله تعالى للامام ليدخره إلى اليوم الموعود.

[11] انظر: جامع الاَحاديث للقمي: 21، جامع الاَخبار: 327 ح919، صحيح البخاري: 2/6 و3/196، مسند احمد: 2/5، سنن البيهقي: 6/287، عوالي اللآلي: 1/129 ح3 و364 ح51.