لو نتابع مسألة البناء على القبور تأريخياً ومجتمعياً ودينياً لا نجد مَن يخرج عن الاتفاق على جوازها وقيام رأي العقلاء على فعلها، خصوصاً قبور العظماء الذين لهم تقدير واحترام على المجتمع أو العالم.
ومن الناحية الشرعية لَم نجِدْ أحداً من علماءِ المسلمين ينتقدُ أو يحرِّمُ البناءَ على قبورِ الأنبياءِ وصالحي الأمّةِ.
لكن الفكر الوهابي الحديث جاء بأفكاره الشاذة عن العقل والدين، والتي منها منع البناء على القبور مهما كانت مع أنّ واقعهم السلفي يتعارض مع هذه الفكرة الجديدة، فضلاً عن الواقع العلمي والروائي الذي يدعون أنّهم ينتمون إليه.
لقد جاء فِي محكمِ كتابهِ المُبينِ تقرير لفعل المؤمنين في اتخاذ المساجد على قبور أهل الكهف، قوله تعالى: (إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُم أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَاناً رَبُّهُم أَعْلَمُ بِهِم قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِم لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً)[1].
كما أنّ الرسول الكريم(صلى الله عليه وآله) قد فعل ذلك مع قبر عثمان بن مضعون، قال الألبانيُّ فِي أحكامِ الجنائزِ ص155: «لمَّا ماتَ عثمانُ بنُ مظعونٍ أُخرِجَ بجنازتهِ فدُفِنَ، أمرَ النّبيُّ صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ رجلاً أن يأتيهِ بحجرٍ فلَم يستطِعْ حملهُ، فقامَ إليهَا رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ وحسرَ عَن ذراعيهِ، قالَ المطّلبُ: قالَ الذي يخبرنِي عَن رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ: كأنِّي أنظرُ إلى بياضِ ذراعيّ رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ (وآله) وسلّمَ حينَ حسرَ عنهمَا، ثمَّ حملَها فوضعَها عندَ رأسهِ، وقالَ: أتعلَّمُ بهَا قبرَ أخِي، وأدفنُ إليهِ مَن ماتَ مِن أهلِي». قالَ: أخرجهُ أبو داوُد في سننه: ج2، ص69، والبيهقي: ج3، ص412.
كما ويشهد واقع قبورُ الأنبياءِ (عليهم السلام) التي كانَت مبنيّةً عليهَا الأضرحةُ والمشاهدُ والقِبابُ ولم يهدِمِ النّبيُّ (صلى الله عليه وآله) أو أحدُ الصّحابةِ أيَّ قبرٍ منهَا وهيَ موجودةٌ إلى يومنَا هذا، ومنها قبرُ رسولِ اللهِ(صلى الله عليه وآله) بنيت عليه حجرة محيطةٌ به ويصدقُ عليها أنّها بناءٌ على قبرٍ.
بَل حتَّى قبرُ البُخاريِّ وقبرُ ابن تيميّةَ وقبرُ ابن الجوزيِّ الحنبليِّ، وفِي البصرةِ قبورُ أنسٍ وطلحةَ والزّبيرِ وزينبَ (عليها السلام) في سوريا، مبنيّةٌ إلى يومنَا هذا ويذكرونَ استغاثةَ أهلِ بلدةِ البُخاريّ وتوسّلَهُم بقبرهِ واستسقاءَهُم بقبرهِ وينقلهَا علماؤهُم دونَ تكذيبٍ لهُ أو حياءٍ منهُ.
نعم ينقلون عَن عليٍّ (عليه السلام) مِن أنّهُ قالَ لأبي الهيّاجِ الأسديِّ: أَلا أبعثكَ على ما بعثنِي عليهِ رسولُ الله (صلى الله عليه وآله): «أَلّا أدعَ تمثالاً إلّا طمستهُ ولا قبراً مُشرِفاً إلّا سوّيتهُ»[2].
لكنّها رواية غير تامة سَنداً ومتناً، أمَّا السند على روايةِ مسلمٍ ففيهِ سفيانُ الثّوريُّ وحبيب بنُ أبي ثابتٍ وهما لا تُقبَلُ روايتهُما إن عنعنَا دونَ تصريحهِما بالتّحديثِ، قالَ الشّيخُ المحدّثُ الألبانيُّ السّلفيُّ في إرواءِ الغليلِ: ج3، ص206: «وفِي هذا الإسنادِ علّةٌ وهيَ عنعنةُ حبيبٍ فقَد كانَ مدلّسَاً ولم يصرِّحْ بالتّحديثِ فِي شيءٍ مِن طرقِ الحديثِ إليهِ».
وأمّا متن الخبر، أولاً: إنّ التسوية معناها التسطيح مقابل التسنيم، ولم يقل أحد بالحرمة في كليهما، قالَ ابن حجرٍ فِي فتحِ الباري: ج3، ص204: «ثمَّ الاختلاف فِي ذلكَ فِي أيّهمَا أفضلُ لا فِي أصلِ الجوازِ ورجّحَ المزنيُّ التّسنيمَ مِن حيثُ المعنَى بأنَّ المُسطّحَ يشبهُ مَا يُصنعُ للجلوسِ بخلافِ المُسنّمِ ورجّحهُ ابن قدامةَ بأنّهُ يشبهُ أبنيةَ أهلِ الدّنيا وهوَ مِن شعارِ أهلِ البِدَعِ فكانَ التّسنيمُ أولى ويرجّحُ التّسطيحُ مَا رواهُ مسلمٌ مِن حديثِ فضالةَ ابنِ عُبيدٍ أنّهُ أمرَ بقبرٍ فسويَّ ثمَّ قالَ: سمعتُ رسولَ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ يأمرُ بتسويتهَا».
وثانياً: إن دلالةَ هذا الحديثِ فَهمَها أئمّةُ السّنّةِ على الكراهةِ لا الحرمةِ ولذلكَ لم يطبَّقْ هذا الهدمُ الذي يريدُ الوهابيّةُ فهمَهُ منَ الحديثِ وإلزامَ المسلمينَ بفهمهِم الشاذ ولم يقومُوا بهدمِ قبورِ الأنبياءِ والأولياءِ والصّالحينَ يوماً مَا -لا السّلفُ ولا الخلفُ -حتَّى ظهرتِ الوهابيّةُ.
فهذه الرواية القوية عندهم لا تدل على الحرمة ولا على تكفير من يبني على القبور.
والخلاصة: إنّ البناءَ على قبورِ العظماءِ أمرٌ غريزيٌّ في طبيعةِ الإنسانِ يقرُّهُ كلُّ العقلاءِ ولا يمكنُ النّهيُ عنهُ إلّا بدليلٍ قاطعٍ وليسَ تَبعاً لرأي شخصٍ أو حاكمٍ ما، وقد قام المسلمون بتشييدِ المبانِي والقِبابِ والمزاراتِ على قبورِ صالحيهِم عبرَ كلِّ الفتراتِ المختلفةِ، وفِي زمانِ كلِّ الحكوماتِ المتواليةِ، من دونِ أيِّ نكيرٍ صدرَ مِن علماءِ الأمّةِ.
مجلة ولاء الشباب العدد (55)