بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الأعلى هي إحْدَى السور المباركة في الجزء الأخير من القرآن الكريم وهي تحتوي على قسمين من المواضيع:
القسم الأول: يحوي خطاباً الى النبي الأكرم (صلى الله عليه واله) يأمرهُ الباري سبحانه فيه بالتسبيح وأداء الرسالة ثمّ ذَكَرَ سبعاً من صفات الله عز وجل لها صلةُ ربطٍ بالأمر الرباني الى النبي الاكرم (صلى الله عليه واله).
القسم الثاني: يتحدثُ عنْ المؤمنينَ الخاشعينَ، والكافرينَ الاشقياءَ ويتناولُ باختصارٍ إلى أهمِّ العواملَ التي تؤدي إلى كل مِنْ السعادة والشقاء الحق.
فضل سورة الأعلى
روي عن النبي الاكرم (صلى الله عليه واله) أنه قال: (مَنْ قَرَأهَا أعْطاهُ اللهُ عشرَ حسناتٍ بعددِ كلِ حرفٍ أنزلَ اللهُ على إبراهيمَ وموسى ومحمدٍ (عليهم السلام))[1].
وروي عن الامام الصادق (عليه السلام) أيضا أنه قال: (مَنْ قرأَ (سَبِّحِ ٱسۡمَ رَبِّكَ ٱلۡأَعۡلَى) في فَرَائِضهِ أو نَوافلِهِ قِيلَ لَهُ يَومَ القِيامةِ أُدخلْ الجَنَّةَ مِنْ أيِّ أَبْوابَ الجَنَّة شئْتَ إنْ شَاءَ اللهُ)[2].
ووردَ في رواياتٍ عديدةٍ أنَّ النبيَّ الاكرم (صلى الله عليه واله) و أئمة أهل البيت (عليهم السلام) كانُوا إذا قَرأُوا (سَبِّحِ ٱسۡمَ رَبِّكَ ٱلۡأَعۡلَى) قالُوا (سُبْحانَ ربِّيَ الأعلى)[3].
وروي عنْ أحدِ أصحابَ أميرِ المؤمنين (عليه السلام) أنَّهُ قالَ: صلّيتُ خلْفهُ عِشرينَ ليلةً وليس يقرأْ إلّا (سَبِّحِ ٱسۡمَ رَبِّكَ ٱلۡأَعۡلَى) وقالَ (عليه السلام): (لو تَعْلَمُونَ مَا فيها لَقَرَأها الرجلُ كُلَّ يومٍ عِشرينَ مرةً، وأنَّ مَنْ قَرَأها فكأنَّما قَرَأَ صُحفِ موسى وإبراهيمَ الذي وفّى)[4].
النزول: المشهور، نزولها في مكة.
تبدأ السورةُ بخلاصةِ دعوةِ الأنبياء (عليهم السلام)، حيثُ التسبيحَ والتقديسَ أبدأُ للهِ الواحدَ الأحدِ، فتُخاطبُ النبيَّ الأكرم (صلى الله عليه وآلة) بالقولِ: (سَبِّحِ ٱسۡمَ رَبِّكَ ٱلۡأَعۡلَى).
يذهبُ جمعٌ مِنْ المُفسرينَ إلى أنَّ المُرادَ بال " اسم " في قوله تعالى (سَبِّحِ ٱسۡمَ رَبِّكَ ٱلۡأَعۡلَى) هو (المسمى)، في حين قالَ آخرون هو (اسمُ اللهِ) سُبحانَهُ وتعالى، وليس ثمةَ فرقٌ كبير بينَ القولينِ، فالاسمُ يدلُ على المُسمَّى.
{رَبِّكَ}: إشارة إلى أنه غير ذلك الرب الذي يعتقد به عبدة الأصنام.
{ٱلۡأَعۡلَى}: أَي ٱلۡأَعۡلَى مِنْ كُلِّ: أحدٍ، تَصوُر، تَخيُل، قياس، ظنّ، وهم، ومن أيِّ شركٍ بِشقَيه الجَلي والخَفِي.
وبعدَ ذكر هاتينِ الصفتين (الربُ والأعلى)، تَذكرُ الآياتِ التاليةِ خمسُ صفاتٍ تُبينُ ربُوبِيةِ اللهِ العُليا:
{ٱلَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ}: من (التسوية)، وهي الترتيبُ والتنظيمُ، ويضمُ هذا المفهوم بين جناحيه كلَّ أنظمةِ الوجودِ، مثل: النظام السماوي بنجومهِ وكواكبهِ، والأنظمة الحاكمة على المخلوقات في الأرض، ولا سيما الإنسان من حيث الروح والبدن.
{وَٱلَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ}: المراد ب (قدّر)، هو: وضع البرامج، وتقدير مقادير الأمور اللازمة للحركة باتجاه الأهداف المرسومة التي ما خلقت الموجودات إلا لأجلها.
والمراد ب (هدى) هنا، هي: الهداية الكونية، على شكل غرائز وسنن طبيعية حاكمة على كل موجود، ولا فرق في الغرائز والدوافع سواء كانت داخلية أم خارجية.
{وَٱلَّذِيٓ أَخۡرَجَ ٱلۡمَرۡعَىٰ}: واستعمالُ كلمةَ (أخرج) فيه وصفٌ جميلٌ لعمليةِ تكوُّنُ النباتات، حيثُ إنَّه يتضمنُ وجُودَها داخل الأرض فأخرجَها الباري منها.
{فَجَعَلَهُۥ غُثَآءً أَحۡوَىٰ}: الغُثَاء: هو ما يطفحُ ويتفرقُ من النباتِ اليابسِ على سطحِ الماء الجاري، ويطلقُ أيضا على ما يطفحُ على سطحِ القِدْرِ عندَ الطبخ، ويستعملُ كنايةً عن: كُلِّ ضائعٍ ومفقودٍ، وجاءَ في الآيةِ بمعنى: النباتُ اليابسِ المُتَرَاكِم.
(أَحۡوَىٰ): من (الحوة) - على زنةِ قوة - وهي شدةُ الخضرةِ، أو شدة السواد، وكِلاهما من أصلٍ واحد، لأنَّ الخُضرةَ لو اشتدَّت قَرُبَت من السوادِ، وجاءَ في الآية بمعنى: تَجَمُّع النباتِ اليابس وتراكمه حتى يتحول لونه تدريجيا إلى السواد.
ويعتقد بعض العلماء، بأنَّ مناجم الفحم الحجري قد تكوَّنت من جراء النباتات اليابسة المدفونة في داخل الأرض منذ (250) مليون سنة تقريباً، ولو أخذنا بنظرِ الإعتبار مقدار الاستهلاك الفعلي للفحمِ الحجري في العالم، لوجدنا أنَّها تؤمّنُ احتياج الناس لأكثر من (4000) سنة[5].
وتفسيرُ الآيةِ بالمعنى الأخير دون غيرهِ بعيدٌ حسب الظاهر، وعلى أيةِ حالٍ، فللـ (غُثاء الأحوى) منافعٌ كثيرةٌ، فهو غذاءٌ جيدٌ للحيواناتِ في الشتاءِ، ويستعملُ كسمادٍ طبيعي للأرضِ، وكذا يستعملُه الإنسان كوقود.
فما ذكَرَتَه الآيات من صفات: الربوبية، الأعلى، الخلق، التسوية، التقدير، الهداية وإخراج المرعى، توصلنا إلى الربوبية الحقة لله جلَّ وعلا، وبقليل من التأمُّل يتمكن أيُّ إنسان من إدراك هذا المعنى، ليصل نور الإيمان إلى قلبه، فيشكر المنعم على ما أعطى.
الآيات أعلاه تتحدث عن: القرآن والنبوة، وهداية الإنسان، وكذا البيان القرآني للتسبيح فتقول الآية الأولى مخاطبة النبي (صلى الله عليه وآلة وسلم): (سَنُقۡرِئُكَ فَلَا تَنسَىٰٓ).
فلا تتعجل نزول القرآن، ولا تخف من نسيان آياته، فالذي أرسلك بهذه الآيات لهداية البشرية كفيلٌ بحِفظِها، ويخُطُها على قلبك الطاهر بما لا يمكن لآفة النسيان من قرض ولو حرف واحد منها أبداً ولإثبات قدرته سبحانه وتعالى، وأن كل خير منه، تقول الآية: (إِلَّا مَا شَآءَ ٱللَّهُۚ إِنَّهُۥ يَعۡلَمُ ٱلۡجَهۡرَ وَمَا يَخۡفَىٰ).
إنه يعلم الجهر وما يخفى فلبيان علةِ أمر تضمنته جملة (سَنُقۡرِئُكَ)،أي: إن العليم جل اسمه عالم بجميع حقائق الوجود، أما ما يوحيه إليك، فهو ما يحتاج إليه البشر، ويصلك بالكامل دون أن ينقص منه شيء.
(وَنُيَسِّرُكَ لِلۡيُسۡرَىٰ): أي، إخبار النبي (صلى الله عليه وآلة وسلم) بصعوبةِ الطريق في كافة محطاته، من تلقي الوحي وحفظه حتى البلاغ والنشر والتعليم والعمل به، وتُطمْئَنَهُ بالرعايةِ والعنايةِ الربانية، بتذليلِ صِعَابِه من خلال تيسيرها له (صلى الله عليه وآلة وسلم).
(فَذَكِّرۡ إِن نَّفَعَتِ ٱلذِّكۡرَىٰ): الإشارة هنا إلى أن التذكير بحد ذاته نافع، وقليل أولئك من الذين لا ينتفعون به، والحد الأدنى للتذكير هو إتمام الحجة على المنكرين، وهذا بنفسه نفع عظيم.
وتقسم الآيات التالية الناس إلى قسمين، من خلال مواقفهم تجاه الوعظ والإنذار، الذي مارسه النبي (صلى الله عليه وآلة): (سَيَذَّكَّرُ مَن يَخۡشَىٰ) نعم، فإذا ما فقد الإنسان روح " الخشية "، والخوف مما ينبغي أن يخاف منه، وإذا لم تكن فيه روحية طلب الحق - والتي هي من مراتب التقوى - فسوف لا تنفع معه المواعظ الإلهية، ولا حتى تَذْكِيرات الأنبياء ستنفعه، على هذا الأساس كان القرآن " هُدَىً للمُتَقِين ".
وتَذكرُ الآيةُ التاليةِ القسمَ الثاني، بِقولِها: (وَيَتَجَنَّبُهَا ٱلۡأَشۡقَى) يراد بالأشقى، المعاندين للحق بعداءِ، فالناس على ثلاثة أقسام: إما عارفٌ وعالمٌ، وإما متوقف شاك، أو معاند، وأفراد الطائفة الأولى والثانية ينتفعون من التذكير طبيعيا، فيما لا ينفع القسم الثالث منهم، وليس للتذكير من أثر عليه سوى إتمام الحجة.
(ٱلَّذِي يَصۡلَى ٱلنَّارَ ٱلۡكُبۡرَىٰ (12) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحۡيَىٰ) أي، لا يموت ليخلص من العذاب، ولا يعيش حياة خالية من العذاب، فهو أبداً يَتَقلقلُ بالعذابِ بينَ الموتِ والحياة!
وروي عن الإمام الصادق (عليه السلام)، أنَّه قال: (إنَّ نارَكُم هذهِ جُزءٌ مِنْ سبْعينَ جُزءٍ مِنْ نَارِ جهنَّم، وقَدْ أُطفئتْ سَبعينَ مرةً بالماءِ ثُمَّ الْتهبت ولولا ذلكَ ما استطاعَ آدميٌ أنْ يُطِيقَها "
ويقول القرآن: (قَدۡ أَفۡلَحَ مَن تَزَكَّىٰ (14) وَذَكَرَ ٱسۡمَ رَبِّهِۦ فَصَلَّىٰ) فأساسُ الفلاحِ بالنجاةِ من العذابِ والفوز بالنعيم الخالد، يعتمد على ثلاثة أركان رئيسية: " التزكية "، " ذكر اسم الله " و " الصلاة ".
ويشير البيان القرآني إلى العامل الأساس في عملية الانحراف عن جادة الفلاح: (بَلۡ تُؤۡثِرُونَ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا (16) وَٱلۡأٓخِرَةُ خَيۡرٞ وَأَبۡقَىٰٓ)، وورد في الحديث النبوي الشريف هذا المعنى، بقوله: (حب الدنيا رأس كل خطيئة)[6]. فالإنسان العاقل لا يجيز لنفسه أن يبيع الدار الباقية بأمتعة فانية.
وتختم السورة ب: (إِنَّ هَٰذَا لَفِي ٱلصُّحُفِ ٱلۡأُولَىٰ (18) صُحُفِ إِبۡرَٰهِيمَ وَمُوسَىٰ) ولكن، ما المشار إليه ب " هذا "؟ فبعضٌ قال: إنه إشارة إلى الأمر بالتزكية وذكر اسم الله والصلاة وعدم إيثار الحياة الدنيا على الآخرة، وذلك من أهم تعاليم جميع الأنبياء (عليهم السلام)، كما وورد هذا الأمر في جميع الكتب السماوية.
واعتبره آخرون: إنه إشارة لجميع ما جاء في السورة، حيث إنها ابتدأت بالتوحيد مرورا بالنبوة حتى ختمت بالأعمال، وعلى أية حال، فهذا التعبير يبين أهمية محتوى السورة، أو خصوص الآيات الأخيرة منها، حيث اعتبرها من الأصول الأساسية للأديان، ومما حمله جميع الأنبياء (عليهم السلام) إلى البشرية كافة[7].