1 - عَنْ إِسْمَاعِيلَ السَّرَّاجِ عَنِ ابْنِ مُسْكَانَ عَنْ ثَابِتِ بْنِ سَعِيدٍ قَالَ قَالَ أَبُو عَبْدِ الله (عليه السلام): (يَا ثَابِتُ مَا لَكُمْ ولِلنَّاسِ كُفُّوا عَنِ النَّاسِ ولَا تَدْعُوا أَحَداً إِلَى أَمْرِكُمْ فَوَالله لَوْ أَنَّ أَهْلَ السَّمَاوَاتِ وأَهْلَ الأَرَضِينَ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَهْدُوا عَبْداً يُرِيدُ الله ضَلَالَتَه مَا اسْتَطَاعُوا عَلَى أَنْ يَهْدُوه ولَوْ أَنَّ أَهْلَ السَّمَاوَاتِ وأَهْلَ الأَرَضِينَ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يُضِلُّوا عَبْداً يُرِيدُ الله هِدَايَتَه مَا اسْتَطَاعُوا أَنْ يُضِلُّوه كُفُّوا عَنِ النَّاسِ ولَا يَقُولُ أَحَدٌ عَمِّي وأَخِي وابْنُ عَمِّي وجَارِي فَإِنَّ الله إِذَا أَرَادَ بِعَبْدٍ خَيْراً طَيَّبَ رُوحَه فَلَا يَسْمَعُ مَعْرُوفاً إِلَّا عَرَفَه ولَا مُنْكَراً إِلَّا أَنْكَرَه - ثُمَّ يَقْذِفُ الله فِي قَلْبِه كَلِمَةً يَجْمَعُ بِهَا أَمْرَه)[1].
الشرح:
قال أبو عبد الله الصادق (عليه السلام): (يَا ثَابِتُ مَا لَكُمْ ولِلنَّاسِ كُفُّوا)، المعنى: ما تصنعون أنتم والناس، والمقصود هو الحثُّ على التباعد منهم وترك المبالغة والمخاصمة معهم في أمر الدِّين.
ثم قال (عليه السلام): (عَنِ النَّاسِ ولَا تَدْعُوا أَحَداً إِلَى أَمْرِكُمْ)، الأمر بالكفِّ والنهيّ عن الدُّعاء إمّا لأجل ما كان في ذلك الزَّمان من شدَّة التقيّة من أهل الجور والعدوان، وإمّا لأنَّ القصد منه ترك المبالغة في الدّعاء وعدم المخاصمة في أمر الدِّين وذلك لأنِّ المستعدُّ لقبوله يكفيه أدنى الإشارة والمبطل لاستعداده الفطري لا ينفعه السيف والسنان فكيف المخاصمة باللّسان (فَوَالله لَوْ أَنَّ أَهْلَ السَّمَاوَاتِ وأَهْلَ الأَرَضِينَ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَهْدُوا عَبْداً يُرِيدُ الله ضَلَالَتَه)، فضلالته وعدم هدايته وعذابه وإرشاده في الآخرة إلى طريق جهنّم بسبب كفره وعصيانه اختياراً في الدُّنيا، هذا إن أُريد بالإرادة معناها المعروف وأمّا إنّ أُريد بها العلم الأزلي والذِّكر الأوَّلي، فعلم الله تعالى بضلالته في الأزل باختياره فهو يموت ضالاً ولا ينفعه نصح الناصح (مَا اسْتَطَاعُوا)، أي ما قدروا (عَلَى أَنْ يَهْدُوه)، لضرورة أنَّ مراده ومعلومه تعالى واقعان لا مردَّ لهما وإن كانت الضلالة وأسبابها القريبة واقعة باختيار العبد لذلك خاطب الله تعالى رسوله بقوله (إنّك لا تهدي مَن أحببت).
ثم قال (عليه السلام): (ولَوْ أَنَّ أَهْلَ السَّمَاوَاتِ وأَهْلَ الأَرَضِينَ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يُضِلُّوا)، عن طريق الحقِّ ويخرجوا عن الصراط المستقيم (عَبْداً يُرِيدُ الله هِدَايَتَه)، أي إثابته بالجنّة ونعيمها أو إرشاده في الآخرة إلى طريق الجنّة وإيصاله إلى المطلوب بسبب إيمانه وإحسانه في الدُّنيا باختياره، أو المراد بالإرادة العلم الأزلي بهدايته (مَا اسْتَطَاعُوا أَنْ يُضِلُّوه)، لما عرفت.
ثم قال (عليه السلام): (كُفُّوا عَنِ النَّاسِ)، العادلين عن الصراط المستقيم والمارقين من الدِّين القويم (ولَا يَقُولُ أَحَدٌ عَمِّي وأَخِي وابْنُ عَمِّي وجَارِي)، أي هذا عمّي وهذا أخي... وقعوا في الضلالة فتبعثه الحميّة النسبيّة والغيرة العصبيّة على أن ينجيهم منها طوعاً وكرهاً (فَإِنَّ الله إِذَا أَرَادَ بِعَبْدٍ خَيْراً)، لعلَّ المراد به نوع من اللّطف الّذي له تعالى بعباده وذلك اللّطف قد يكون بمجرَّد التفضّل لأنّه تعالى كثيراً ما يخرج العبد من الشقاوة إلى السعادة تفضّلاً وإحساناً وقد يكون بواسطة رجوع النفس الأمّارة الضالة إليه تعالى وقتاً ما إذ ما من نفس إلّا ولها رجعة إلى جناب الحقَّ فربما يدركه اللّطف الإلهي حينئذ (طَيَّبَ رُوحَه) عن خبائث العقائد الباطلة فيخرجه من الظلام إلى النور (فَلَا يَسْمَعُ) بعد ذلك (مَعْرُوفاً إِلَّا عَرَفَه) فيعرف أنّه حقٌّ في نفس الأمر (ولَا مُنْكَراً إِلَّا أَنْكَرَه)، فيعرف أنّه باطل لا حقيقة له فيعدل عنه ويميل إلى المعروف (ثُمَّ يَقْذِفُ الله فِي قَلْبِه)، لحسن استعداده (كَلِمَةً يَجْمَعُ بِهَا أَمْرَه)، وهي كلمة الإخلاص الّتي يتخلّص بها العبد عن العلائق الجسمانيّة ويترقّى إلى الفضائل الرُّوحانيّة ويتشرَّف بالعوائد الرَّبانيّة أو كلمة الحكمة فينور بها قلبه فيفقه المشروعات والمحظورات.
2 - عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حُمْرَانَ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ خَالِدٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) قَالَ قَالَ: (إِنَّ الله عَزَّ وجَلَّ إِذَا أَرَادَ بِعَبْدٍ خَيْراً، نَكَتَ فِي قَلْبِه نُكْتَةً مِنْ نُورٍ، وفَتَحَ مَسَامِعَ قَلْبِه، ووَكَّلَ بِه مَلَكاً يُسَدِّدُه، وإِذَا أَرَادَ بِعَبْدٍ سُوءاً، نَكَتَ فِي قَلْبِه نُكْتَةً سَوْدَاءَ وسَدَّ مَسَامِعَ قَلْبِه، ووَكَّلَ بِه شَيْطَاناً يُضِلُّه، ثُمَّ تَلَا هَذِه الآيَةَ: (فَمَنْ يُرِدِ الله أَنْ يَهْدِيَه يَشْرَحْ صَدْرَه لِلإِسْلامِ ومَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّه يَجْعَلْ صَدْرَه ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ)[2].
الشرح:
قال أبو عبد الله الصادق (عليه السلام): (إِنَّ الله عَزَّ وجَلَّ إِذَا أَرَادَ بِعَبْدٍ خَيْراً)، أي أراده لصفاء قلبه وميله إلى نجد الخير أو علم منه ذلك (نَكَتَ فِي قَلْبِه نُكْتَةً مِنْ نُورٍ)، أي أحدثها في قلبه نورا (وفَتَحَ مَسَامِعَ قَلْبِه)، الّتي يسمع بها كلمات الحقِّ وإلهامات الملك (ووَكَّلَ بِه مَلَكاً يُسَدِّدُه) يلهمه الحقِّ والصواب وهذا التسديد يسمّى لمّة المَلَك (وإِذَا أَرَادَ بِعَبْدٍ سُوءاً)، لحركته إلى نجد الشرِّ وميله إلى سبيل الضلال (نَكَتَ فِي قَلْبِه نُكْتَةً سَوْدَاءَ وسَدَّ مَسَامِعَ قَلْبِه)، وهو الختم لئلاّ يدخل فيه الحقُّ (ووَكَّلَ بِه شَيْطَاناً يُضِلُّه)، يعني خلّى بينه وبين الشيطان ليضلّه عن الحقِّ ويلهمه الباطل وهذا الإضلال يسمّى لمّة الشيطان.
ومن طريق العامّة: (أنَّ للشيطان لمّة بابن آدم وللملك لمّة فأمّا لمّة الشيطان فإيعاد بالشرِّ وتكذيب الحقِّ وأمّا لمّة المَلَك فإيعاد بالخير وتصديق بالحقِّ، فمن وجد ذلك فيحمد الله ومن وجد الأُخرى فليتعوَّذ بالله من الشيطان الرِّجيم)، وتوضيح ذلك أنَّ الله تعالى خلق القلب صافياً مجلوّاً قابلاً للصفات النورانيّة، فإنَّ مال إلى الحقِّ يحدث الله تعالى فيه نور الإيمان ويوفّقه له وهو المراد بالنكتة النورانيّة لأنَّ الإيمان وغيره من الفضائل كلّها نورانيّة وبذلك النور تنفتح المسامع القلبيّة ويقرأ عليه المَلَك كلمات الخيرات حتّى يصير نوراً صرفاً يتنوَّر في عالم الأرواح كالشمس في عالم الأجسام، وإن مال إلى الباطل يحدث الله تعالى فيه ظلمة الكفر ويسلب التوفيق عنه حتّى يمضي ما أراد إمضاءه، وهذا هو المراد بالنكتة الســــوداء، وبتلك النكتة السوداء تنســــدُّ مسـامع الإلهامات الملكيّة وتنفتح مسامع الوساوس الشيطانيّة فيقرأ الشيطان عليه كلمات الشرور فإن استمع إليها وعمل بها ازدادت ظلمته حتّى يصير كلّه ظلمانيّاً صرفاً كالقمر المنخسف.
ثمَّ تلا (عليه السلام) هذه الآية: (فَمَنْ يُرِدِ الله أَنْ يَهْدِيَه)، في الآخرة إلى طريق الجنّة وفي الدُّنيا إلى طريق الخيرات بعد أن عرَّفه النجدين وحسن استعداده لنجد الخير (يَشْرَحْ صَدْرَه لِلإِسْلامِ) أي لقبول معارفه وأحكامه حتّى تتأكد عزمه عليها ويقوّي الدَّاعي على التمسّك بها ويزول عنه الوساوس الشيطانيّة والهواجس النفسانيّة وذلك من لطف الله تعالى عليه وكمال إحسانه إليه (ومَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّه)، عن طريق الجنّة بإرشاده إلى النار وتخليته مع الشرور لأجل إبطاله الاستعداد الفطري وإعراضه عن طريق الخير (يَجْعَلْ صَدْرَه ضَيِّقاً حَرَجاً)، لانقباضه بقبض الكفر والعصيان وتقيّده بقيد الظلمة والطغيان، (كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ)، شبّه ضيق الصدر عن قبول الإيمان ولوازمه بمن يصُعّد في السماء في أنّه كما يمتنع الصعود من هذا كذلك يمتنع قبول الإيمان من ذاك.
وقال الصدوق في كتاب عيون أخبار الرِّضا (عليه السلام): حدَّثنا عبد الواحد بن محمّد بن عبدوس العطار رضي الله عنه قال: حدَّثنا عليُّ بن محمّد بن قتيبة النيسابوريّ عن حمدان بن سليمان النيسابوريّ قال: سألت أبا الحسن عليُّ بن موسى الرِّضا: عن قوله الله عزَّ وجلَّ (فمَنْ يُرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام) قال: (مَن يرد الله أن يهديه بإيمانه في الدُّنيا إلى جنّته ودار كرامته في الآخرة يشرح صدره للتسليم لله والثقة به والسكون إلى ما وعده من ثوابه ويطمئنُّ إليه، ومن يرد أن يضلّه عن جنّته ودار كرامته في الآخرة لكفره وعصيانه له في دار الدُّنيا يجعل صدره ضيّقاً حتّى يشكَّ في كفره ويضطرب من اعتقاده قلبُه حتّى يصير كأنّما يصّعّد في السماء كذلك يجعل الله الرّجس على الّذين لا يؤمنون)[3].
3- عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنِ ابْنِ فَضَّالٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ عُقْبَةَ عَنْ أَبِيه قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ الله (عليه السلام) يَقُولُ: (اجْعَلُوا أَمْرَكُمْ لِله ولَا تَجْعَلُوه لِلنَّاسِ فَإِنَّه مَا كَانَ لِله فَهُوَ لِله ومَا كَانَ لِلنَّاسِ فَلَا يَصْعَدُ إِلَى الله ولَا تُخَاصِمُوا النَّاسَ لِدِينِكُمْ فَإِنَّ الْمُخَاصَمَةَ مَمْرَضَةٌ لِلْقَلْبِ إِنَّ الله تَعَالَى قَالَ لِنَبِيِّه (صلى الله عليه وآله): (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ولكِنَّ الله يَهْدِي مَنْ يَشاءُ)، وقَالَ: (أفَأَنْتَ تُكْرِه النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)، ذَرُوا النَّاسَ فَإِنَّ النَّاسَ أَخَذُوا عَنِ النَّاسِ وإِنَّكُمْ أَخَذْتُمْ عَنْ رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله) إِنِّي سَمِعْتُ أَبِي (عليه السلام): (يَقُولُ إِنَّ الله عَزَّ وجَلَّ إِذَا كَتَبَ عَلَى عَبْدٍ أَنْ يَدْخُلَ فِي هَذَا الأَمْرِ كَانَ أَسْرَعَ إِلَيْه مِنَ الطَّيْرِ إِلَى وَكْرِه)[4].
الشرح:
قوله (عليه السلام): (اجْعَلُوا أَمْرَكُمْ لِله)، أي أن يكون قول المرء وفعله خالصاً لله طالباً لمرضاته تعالى (ولَا تَجْعَلُوه لِلنَّاسِ)، طلباً للسمعة والغلبة عليهم (فَإِنَّه مَا كَانَ لِله فَهُوَ لِله)، أي ما كان من الأقوال والأفعال في الدُّنيا لله فهو في الآخرة أيضاً لله يطلب الثواب منه، أو ما كان لله فهو يصّعّد إلى الله، (ومَا كَانَ لِلنَّاسِ فَلَا يَصْعَدُ إِلَى الله)، لأنّه تعالى لا يقبل من العمل إلّا ما كان خالصاً له.
ثم قال (عليه السلام): (ولَا تُخَاصِمُوا النَّاسَ لِدِينِكُمْ فَإِنَّ الْمُخَاصَمَةَ مَمْرَضَةٌ)، بفتح الميم والرَّاء بينهما ميم ساكنة اسم مكان للكثرة، وبكسرها: اسم آلة وبضمّها وكسر الرَّاء: اسم فاعل من أمرضه إذا جعله مريضاً (لِلْقَلْبِ)، فإن الكلام إذا بلغ حدَّ الخصومة فكثيراً ما يتجاوز عن القدر اللائق في النصيحة وذلك يوجب ازدياد ميل قلب المخاطب إلى الباطل. وبالجملة فالقلب المستعدُّ لقبول الحقِّ يكفيه أدنى الدّعوة والقلب المتوغّل في الباطل لا تنفعه الخصومة بل ربما تضرُّه (إِنَّ الله تَعَالَى قَالَ لِنَبِيِّه (صلى الله عليه وآله): (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ))، يعني لا تقدر أن توصله إلى المطلوب وتدخله في دين الإسلام (ولكِنَّ الله يَهْدِي مَنْ يَشاءُ)، أي يوصله إلى المطلوب ويدخله في الإسلام، ويمكن أن يراد بالهداية هنا التوفيق وإيجاد اللّطف وأنَّ الله سبحانه هو الّذي يحول بين المرء وقلبه فهو الهادي بهذا المعنى دون غيره، وفيه تسلية لهم بأنّه إذا لم يقدر النبيُّ (صلى الله عليه وآله) على هدايتهم فأنتم أولى بعدم القدرة عليها (أفَأَنْتَ تُكْرِه النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)، إنكار لإكراهه وإجباره إيّاهم على الإيمان تحقيقاً لمعنى التكليف والثواب والجزاء.
وفسره بعضهم: معناه أنّه لا ينبغي أن تريد إكراههم على الإيمان مع أنّك لا تقدر عليه لأنَّ الله تعالى يقدر عليه ولا يريده لأنّه ينافي التكليف، وأراد بذلك تسلية النبيِّ (صلى الله عليه وآله) وتخفيف ما يلحقه من التحسّر والحرص على إيمانهم، وفي كتاب عيون أخبار الرِّضا (عليه السلام) قال له المأمون: (ما معنى قول الله جلَّ ثناؤه (ولو شاء ربّك لآمن مَنْ في الأرض كلّهم جميعاً أفأنت تُكره الناس حتّى يكونوا مؤمنين)، (وما كان لنفس أن تؤمن إلّا بإذن الله)؟ فقال الرِّضا (عليه السلام) حدَّثني أبي موسى بن جعفر، عن أبيه، عن جعفر بن محمّد، عن أبيه محمّد بن عليّ، عن أبيه عليِّ بن الحسين، عن أبيه الحسين بن عليِّ بن أبي طالب (عليه السلام) قال: (إنَّ المسلمين قالوا لرسول الله(صلى الله عليه وآله): لو أكرهت يا رسول الله من قدرت عليه من الناس على الإسلام لكثر عددنا وقوينا على عدوِّنا، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ما كنت لألقى الله عزَّ وجلَّ ببدعة لم يحدث إليَّ فيها شيئاً وما أنا من المتكلّفين، فأنزل الله تبارك وتعالى يا محمد (ولو شاء ربّك لآمن مَنْ في الأرض كلّهم جميعاً) على سبيل الإلجاء والاضطرار في الدُّنيا كما يؤمن عند المعاينة ورؤية البأس وفي الآخرة، ولو فعلت ذلك بهم لم يستحقّوا منّي ثواباً ولا مدحاً لكنّي أُريد منهم أن يؤمنوا مختارين غير مضطرِّين ليستحقّوا منّي الزُّلفى والكرامة ودوام الخلود في جنّة الخلد (أفأنت تُكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) وأما قوله عزَّ وجلَّ (وما كان لنفس أن تُؤمن إلّا بأذن الله) فليس على سبيل تحريم الإيمان عليها ولكن على معنى أنّها ما كانت لتؤمن إلّا بإذن الله، وإذنه أمره لها بالإيمان، ما كانت مكلّفة متعبّدة، وإلجاؤه إيّاها إلى الإيمان عند زوال التكليف والتعبّد عنها. فقال المأمون: فرَّجت عنّي يا أبا الحسن فرَّج الله عنك).
ثم قال (عليه السلام): (ذَرُوا النَّاسَ)، أي اتركوهم بحالهم ولا تقصدوا مخالطتهم ومؤالفتهم في دينهم (فَإِنَّ النَّاسَ أَخَذُوا عَنِ النَّاسِ)، أي إنهم أخذوا آراءهم الفاسدة وقياساتهم الباطلة من أُناس ليسوا أصحاب رسالة سماوية.
ثم قال (عليه السلام): (وإِنَّكُمْ أَخَذْتُمْ عَنْ رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله))، دين الله الّذي أنزله إليه لمصالح العباد، فليس في تركهم مضرَّة لكم، ولا في مخالطتهم منفعة لكم.
ثم قال (عليه السلام): (إِنِّي سَمِعْتُ أَبِي (عليه السلام) يَقُولُ: إِنَّ الله عَزَّ وجَلَّ إِذَا كَتَبَ)، أي بقلم التقدير في اللّوح المحفوظ (عَلَى عَبْدٍ أَنْ يَدْخُلَ فِي هَذَا الأَمْرِ)، ويذعن له إذعاناً خالصاً عن شوائب الشكوك ومفاسد الأوهام (كَانَ أَسْرَعَ إِلَيْه مِنَ الطَّيْرِ إِلَى وَكْرِه)، دُعي أو لم يدع، فإن الإنسان أسرع للإيمان من الطير إلى وكره، والوكر بفتح الواو وسكون الكاف: عشُّ الطائر وهو موضعه الّذي يجمعه من دقاق العيدان وغيرها للتفريخ وهو في أفنان الشجر أو الجبال أو الجدران أو نحوهما، فهو وكر.
4- عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَحْيَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ عَنْ فُضَيْلِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام): (نَدْعُو النَّاسَ إِلَى هَذَا الأَمْرِ، فَقَالَ (عليه السلام): لَا يَا فُضَيْلُ إِنَّ الله إِذَا أَرَادَ بِعَبْدٍ خَيْراً أَمَرَ مَلَكاً فَأَخَذَ بِعُنُقِه فَأَدْخَلَه فِي هَذَا الأَمْرِ طَائِعاً أَوْ كَارِهاً)[5].
الشرح:
عَنْ فُضَيْلِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام): (نَدْعُو النَّاسَ إِلَى هَذَا الأَمْرِ)، طلب الإجازة على ذلك ولمّا كان الناس في ذلك العصر متعصبّين معاندين للحقّ وأهله، فأشار (عليه السلام) إلى نهيه عن دعائهم مطلقاً أو عن المبالغة لما فيه من صلاح الفرقة الناجية مع الإشارة إلى التعليل لذلك النهي تسلية له وتسكيناً لحزنه فقال (عليه السلام):
(لَا يَا فُضَيْلُ إِنَّ الله إِذَا أَرَادَ بِعَبْدٍ خَيْراً)، لقصد إخراجه من الشقاوة تفضلاً ولطفاً، (أَمَرَ مَلَكاً فَأَخَذَ بِعُنُقِه فَأَدْخَلَه فِي هَذَا الأَمْرِ طَائِعاً)، إذا لم يبلغ اللّطف حدَّ الكمال (أَوْ كَارِهاً)، إذا بلغه الكمال، ولكن لا يبلغ حدَّ الجبر لأنَّ الجبر عندنا منفيٌّ.
مجلة بيوت المتقين العدد (32 - 33)