ليس هو كانتظار القطار، ليقضى بأكل المرطبات والمكسَّرات.
ولا كانتظار إعلان أسماء الوظائف الجديدة على مواقع الوزارات.
إنّه انتظار يكون المنتظر جزءاً فاعلاً في حاضره ومستقبله، وعاملاً يتدخل في حصول نتائجه المرتقبة.
هذا الانتظار يكون في ناحيتين، إحداهما مُتمِّمة للأُخرى:
الناحية الأولى: تدريب النفس وتهيئتها، وجعلها مستعدة وقادرة على مواجهة مختلف الأزمات النفسية والاجتماعية والفكرية، وتوقع العناء والتعب والمشقة من مختلف الشدائد، ومع ذلك كلّه الإيمان بأنّ الله تعالى لم يجعل كربة ولا شدّة إلّا ومعها الفرج والرحمة.
فالصبر مادة مهمّة وعامل أوّلي من عوامل الانتظار، وبه تظهر قدرة المؤمن على ما محّصه الله تعالى به من البلاء في اختبار صعب يتعلّق بحياته ويستمر تعلّقه بعالم الآخرة، كما نطقت بذلك روايات أئمّتنا الأطهار(عجل الله تعالى فرجه الشريف).
فعن الإمام محمد الباقر (عليه السلام): «...لَا يَكُونُ فَرَجُنَا حَتَّى تُغَرْبَلُوا، ثُمَّ تُغَرْبَلُوا، ثُمَّ تُغَرْبَلُوا، -يَقُولُهَا ثَلَاثاً- حَتَّى يُذْهِبَ [اللهُ تَعَالَى] الْكَدِرَ، وَيُبْقِيَ الصَّفْوَ»[1].
وتحدّث جماعة عند الإمام محمد الباقر عن الحجّة المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، فالتفت إليهم قائلاً: «هَيْهَاتَ لَا يَكُونُ الَّذِي تَمُدُّونَ إِلَيْهِ أَعْنَاقَكُمْ حَتَّى تُمَحَّصُوا، هَيْهَاتَ وَلَا يَكُونُ الَّذِي تَمُدُّونَ إِلَيْهِ أَعْنَاقَكُمْ حَتَّى تُمَيَّزُوا، وَلَا يَكُونُ الَّذِي تَمُدُّونَ إِلَيْهِ أَعْنَاقَكُمْ حَتَّى تُغَرْبَلُوا، وَلَا يَكُونُ الَّذِي تَمُدُّونَ إِلَيْهِ أَعْنَاقَكُمْ إِلَّا بَعْدَ إِيَاسٍ، وَلَا يَكُونُ الَّذِي تَمُدُّونَ إِلَيْهِ أَعْنَاقَكُمْ حَتَّى يَشْقَى مَنْ شَقِيَ، وَيَسْعَدَ مَنْ سَعِدَ»[2].
إذاً، المسألة ليست ركود وقعود، بل امتحان واختبار، وهناك غربلة وتمحيص، ويكون الناس في هذا كلّه درجات متفاوتة بحسب الثبات وشدّة التحمّل، وقابليتهم في قبول مسؤولية الأمانة الإلهية.
وهنا تظهر الجنبة الاختبارية في انتظار الفرج، ومنها نشأ المفهوم الذي قرّره النبي المصطفى (صلى الله عليه وآله): «أَفْضَلُ أَعْمَالِ أُمّتي انْتَظارُ الفَرَجِ مِن اللهِ عزّ وجلّ»[3]، فالنبي (صلى الله عليه وآله) قرّر أنّ الفرج عمل، بل أفضل الأعمال، فإذا نجح المؤمن في هذا الامتحان كان منتظراً للفرج بعنوانه الصحيح.
الناحية الثانية: توطيد علاقة النفس بالإمام المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، وترجمة صدق الانتظار وشوقه إلى الذوبان في محبته وودّه، والعمل والجدّ والتضحية من أجله بقدر شوقه إليه، ولا شيء يترجم ويحكي عن ذلك كلّه أكثر من إحياء أمر أهل البيت (عليهم السلام)، ومن جوانب عملية الإحياء جانب الدعوة إلى توعية الأُمّة واحتضان الجيل بما يتناسب معها، والعمل على تفعيل ونشر المثل العليا التي ضحّى الأئمة (عليهم السلام) من أجلها، وقدّموا القرابين من أجل العقيدة والمبادئ السامية.
إنّ مثل هذه الناحية ضرورية لخلق المجتمع المنتظر المتكامل الذي يؤمن برسالة أهل البيت (عليهم السلام) بحيث تتهيأ الأجواء المناسبة فكرياً وعملياً لاستقبال ذلك الحدث العالمي بظهور الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف).
إذاً، ليس من معاني الانتظار الاتكال على غيب مطلق في مستقبل مجهول، وليس هو نوع وطريقة عزلة عن الناس وترك مجابهة شدائد الحياة، بل هو عمل متصل بالرسالة وبأهل البيت(عليهم السلام)، كذلك هو عمل متواصل من خلال الفرد والمجتمع، وحالة تواصل مستمرّة مع الخط الإلهي في الثبات على المبدأ مهما طال الأزمان وكثرت الابتلاءات، لذلك يُعَبّر عنها الإمام الصادق(عليه السلام) بالهداية: «طُوبى لِمَن تَمَسَّكَ بِأَمْرِنا في غَيْبَةِ إِمَامِنَا، فَلَمْ يَزَغْ قَلْبُهُ بَعْدَ الهِدَايةِ»[4].
كما أنّ الانتظار لا علاقة له بمداهنة الظلم ولا بمسايرة الظالمين، ولا بمسالمة الباطل وأهله، بل يتنافى مع كلّ ذلك.
ومن شؤون الانتظار والمنتظر الابتعاد عن الفتن المُحدثة، وتجنب رايات الضلال، والحركات الغامضة في أهدافها، المجهولة في دوافعها، تلك التي تلمع شعاراتها وتضمر غيرها، مستغلّة بذلك العواطف المهدوية، تصيد بذلك الضحايا المغفلين.
المصدر: مجلة اليقين العدد (65)