الإمام السجاد (عليه السلام)
انه صاحب «زبور آل محمد» الذي صعد بأفئدة العارفين إلى محال حرم الله ومدارج معرفته، وهو صاحب الخلق الرفيع الذي تحن إليه نفوس المؤمنين وتهتدي بنوره، وهو الذي ضرب أروع الأمثلة في الخشوع والتبتل والانقطاع إلى الله حتى لقب بزين العابدين، وهو صاحب السبق في الدفاع عن نهضة الإمام الحسين (عليه السلام) وبيان أسبابها ونتائجها، وهو صاحب العين التي ما جفّت دموعها على مصيبة أبيه وأهل بيته وأصحابه في يوم العاشر من المحرم.
انه الإمام زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، أمه «شاه زنان» وقيل «شهربانويه» بنت كسرى يزدجرد بن شهريار عظيم الفرس، ولد في الخامس من شهر شعبان سنة 38هـ، أي قبل استشهاد جده أمير المؤمنين (عليه السلام)
بسنتين.
لقد عاصر الإمام السجاد (عليه السلام) إمامة ثلاثة من أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، وشهد جميع الأحداث التي مرت على الإمامين الحسنين (عليهما السلام) ، فكانت الآلام والمآسي التي مرت على سيدي شباب أهل الجنة لها ثقل عظيم على نفسه المقدسة وهو بَعدُ لم ينهض بأعباء الإمامة، حتى كانت الواقعة المأساوية التي نزلت في أهل البيت (عليهم السلام) في يوم كربلاء، حيث شهدها الإمام السجاد (عليه السلام) بأُمّ عينيه وهو مطروح على الأرض بجسدٍ قد أنهكه المرض.
سيرة الإمام السجاد (عليه السلام)
اشتهر الإمام السجاد (عليه السلام) بالعديد من الخصال العظيمة والمحامد الكريمة حتى أنه (عليه السلام) خرق بحسن تعامله مع الآخرين كل الموازين المتعارفة عند الناس، ولا يسعنا في هذا المقام إلا أن نذكر نبذة يسيرة من ذلك العطاء الأخلاقي الثر.
عن عمرو بن ثابت: انه لمّا مات علي بن الحسين (عليه السلام) فغسلوه، جعلوا ينظرون إلى آثار سواد في ظهره وقالوا: ما هذا؟ فقيل: كان يحمل جرب الدقيق ليلا على ظهره يعطيه فقراء أهل المدينة.
وروى زرارة في علي بن الحسين (عليه السلام) قوله: لقد حج على ناقة عشرين حجة فما قرعها بسوط..
وروي أيضا أنه قيل له: إنك أبر الناس ولا تأكل مع أمك في قصعة وهي تريد ذلك؟ فقال (عليه السلام): (أكره أن تسبق يدي إلى ما سبقت إليه عينها فأكون عاقا لها).
وروي أن رجلا شتمه فقال (عليه السلام) له: (يا فتى إن بين أيدينا عقبة كؤودا، فإن جزت منها فلا أبالي بما تقول، وان أتحير فيها فأنا شر مما تقول).
وروي أن جارية كسرت له قصعة فيها طعام فاصفرّ وجهها، فقال (عليه السلام): (إذهبي فأنت حرّة لوجه الله).
وروي أنه (عليه السلام) انتهى إلى قوم يغتابونه فوقف عليهم وقال لهم: (إن كنتم صادقين فغفر الله لي، وإن كنتم كاذبين فغفر الله لكم).
وروي أنه كان (عليه السلام) خارجا فلقيه رجل فسبّه، فثارت إليه العبيد والموالي، فقال لهم (عليه السلام): (مهلا كفّوا)، ثم أقبل على ذلك الرجل فقال: (ما ستر من أمرنا عنك أكثر، ألك حاجة نعينك عليها؟) فاستحيا الرجل، فألقى (عليه السلام) عليه خميصة(كساء) كانت عليه وأمر له بألف درهم، فكان ذلك الرجل بعد ذلك يقول: أشهد أنك من أولاد الرسل.
عبادة الإمام السجاد (عليه السلام)
نحن لا نزيد في وصف عبادة الإمام السجاد بأكثر من صفته التي اشتهر بها عبر التاريخ وهي(زين العابدين)، فقد ذُكر عنه في هذا الأمر ما يحير اللب ويذهل العقل، ومن جملة ذلك ما روي أنه سقط له بن في بئر، فتفزّع أهل المدينة لذلك حتى أخرجوه، وكان (عليه السلام) قائما يصلّي فما زال في محرابه، فقيل له في ذلك فقال (عليه السلام): (ما شعرت، إني كنت أناجي ربا عظيما).
وروي عن عبد الله بن علي بن الحسين (عليه السلام): كان أبي يصلي بالليل حتى يزحف إلى فراشه ـ أي انه (عليه السلام) كان لا يزال واقفا للعبادة والصلاة حتى يعسر عليه القيام لشدة الإعياء ـ.
وعن طاووس أنه قال: رأيت رجلا يصلي في المسجد الحرام تحت الميزاب، يدعو ويبكي في دعائه، فجئته حين فرغ من الصلاة فإذا هو علي بن الحسين (عليه السلام)، فقلت له: يا بن رسول الله رأيتك على حالة كذا ولك ثلاثة أرجو أن تؤمنك من الخوف، أحدها انك ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، والثاني: شفاعة جدك (صلى الله عليه وآله)، والثالث: رحمة الله، فقال: (يا طاووس، أمّا إني بن رسول الله (صلى الله عليه وآله) فلا يؤمنني وقد سمعت الله تعالى يقول: «فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ»[1]، وأما شفاعة جدي فلا تؤمنني لأن الله تعالى يقول: «وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى»[2]، وأما رحمة الله فإن الله تعالى يقول «إنها قريبة من المحسنين» ولا أعلم أنّي محسن).
جهاد الإمام السجاد (عليه السلام) :
لم يمثّل الإمام في منهجه وسلوكه حالة الانعزال والتصوّف والرهبانية المبتدعة، وإنما نجده قد اصطدم بالواقع وجاهد بالسيرة الحسنة والقول الصادق، حتى أحال من حوله إلى جماعات مهتدية زلزلت قلوب الظالمين وهزت عروشهم.
لقد وقف الإمام السجاد (عليه السلام) أمام السفاح عبيد الله بن زياد وقرّع سمعه بكلمة الحق غير مُتعتعٍ ولا وجِل، فأفصح عن حكمة نبوية وشجاعة علوية عهدناها في سائر أئمة أهل البيت (عليهم السلام) ، وكان ذلك حين سأل عنه عبيد الله بن زياد بعد مجيء السبايا إلى الكوفة فقيل له: علي بن الحسين، فقال: أليس قد قتَل الله علي بن الحسين؟ فقال (عليه السلام): (قد كان لي أخ يسمى علي بن الحسين قتَله الناس) فقال بن زياد: بل قتله الله، فقال (عليه السلام): (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا)، فقال بن زياد: ولك جرأة على جوابي؟ اذهبوا به فاضربوا عنقه، فقالت زينب (عليها السلام): (يا بن زياد إنك لم تُبق منا أحدا، فإن عزمت على قتله فاقتلني معه)، فقال السجاد (عليه السلام): (اسكتي يا عمّه حتى أكلّمه)، ثم أقبل على ابن زياد وقال: (أبالقتل تهددني يا ابن زياد؟ أما علمت أن القتل لنا عادة وكرامتنا من الله الشهادة؟).
كما أنه (عليه السلام) احتك بالمجتمع وعاش معه بكل همومه وآلامه، لذلك نجد أن طبقات واسعة من الناس التفَّوا حوله ونهلوا من معينه، وقد بلغ من مراتب الشهرة بمكان بحيث يروى أنه لمّا حجّ هشام بن الحكم في حياة أبيه دخل إلى الطواف وجَهِد أن يستلم الحجر الاسود، فلم يصل إليه لكثرة زحام الناس عليه، فنصب له منبر إلى جانب زمزم في الحطيم، فجلس عليه ينظر إلى الناس وحوله جماعة من أهل الشام، فبينما هم كذلك إذ أقبل زين العابدين (عليه السلام) يريد الطواف، فلما انتهى إلى الحجر الأسود تنحّى عنه الناس حتى أتى الحجر فقال رجل من أهل الشام: من هذا الذي هابه الناس هذه المهابة فتنحّوا عنه يمينا وشمالا؟ فقال هشام: لا أعرفه - مخافة أن يرغب فيه أهل الشام- وكان الفرزدق حاضرا فقال للشامي: أنا أعرفه، فقال: من هو يا أبا فراس؟ فأنشد قصيدته الشهيرة التي كللت نور الحق ودفعت حجب الباطل:
يا سائلي أين حلّ الجودُ والكرمُ |
* |
عندي بيان إذا طلاّبُه قَدِمُوا |
هذا الذي تَعِرفُ البطحاءُ وطــــأته |
* |
والبيتُ يعرفُهُ والحِلُّ والحَرَمُ |
هذا ابن خيرِ عبــــــادِ اللهِ كُلهــمُ |
* |
هذا التقي النقي الطاهر العلمُ |
إذا رأتهُ قريش قال قائلها |
* |
إلى مكارم هذا ينتهي الكـرم |
يكاد يمسكه عــرفان راحــه |
* |
رُكن الحطيمِ إذا ما جاءَ يستلمُ |
وليس قولـك من هذا بضائره |
* |
العُربُ تعرف من أنكرتَ والعجمُ |
شهادة الإمام السجاد (عليه السلام) :
لم يزل الإمام السجاد (عليه السلام) يقارع الظالمين بالحزن والبكاء على الحسين (عليه السلام) تارة، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويهدي بسيرته تارة اخرى، حتى اشتد خوف سلاطين بني أمية من وجوده، فجعلوا يتحيّنون الفرص لكتم أنفاسه المقدسة حتى آل الأمر إلى الوليد بن عبد الملك- وقيل هشام بن عبد الملك- الذي دسّ إليه سُمّاً في طعام أرسله إليه، فلما سرى السُمُّ في بدنه الشريف وتيقّنً حلول أجله أقبل على ولده أبي جعفر الباقر (عليه السلام) فأوصاه بوصايا، ثم قال (عليه السلام): (واعلم يا بني أني مفارقك عن قريب فإن الموت قد قرب وقد بلغ الوليد مني مراده)، وروي عن الإمام الباقر (عليه السلام) قوله: (فضمّني أبي إلى صدره ثم قال: يا بني أوصيك بما أوصاني به أبي حين حضرته الوفاة – وذكر وصايا عدة من جملتها أنه قال-: (يا بني إياك وظلم من لا يجد عليك ناصرا إلا الله) ثم أُغمي عليه ثلاثا ثم فتح عينيه وقرأ: «إذا وقعت الواقعة» و»إنا فتحنا لك فتحا مبينا» وقال: (الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوء من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين) ثم فاضت نفسه المقدسة مظلوما مهضوما في الخامس والعشرين من المحرم سنة 94هـ على المشهور، فسلام عليه وعلى آبائه وأبنائه الطاهرين ما أضاء نهار وأظلم ليل ورحمة الله وبركاته.
شذرات من أقوال الإمام السجاد (عليه السلام):
قال (عليه السلام): من قنع بما قسم الله له فهو من أغنى الناس.
وقال (عليه السلام): اتقوا الكذب الصغير منه والكبير في كل جد وهزل، فإن الرجل إذا كذب في الصغير اجترأ على الكبير.
وقال (عليه السلام): كفى بنصر الله لك أن ترى عدوك يعمل بمعاصي الله فيك.
وقال (عليه السلام): المؤمن من دعائه على ثلاث: إما أن يُدَّخَر له، وإما أن يُعَجَّل له، وإما أن يُدفعَ عنه بلاء يريد أن يصيبه.
وقال (عليه السلام): إن الله ليبغض البخيل السائل الملحف.
وقال (عليه السلام): ثلاث منجيات للمؤمن: كف لسانه عن الناس واغتيابهم، وإشغاله نفسه بما ينفعه لآخرته ودنياه، وطول البكاء على خطيئته.
وقال (عليه السلام): نظر المؤمن في وجه أخيه المؤمن للمودة والمحبة له عبادة.
زيارة الإمام السجاد (عليه السلام)
السَّلامُ عَلَيْكَ يَا زَيْنَ العَابِدِينَ، السَّلامُ عَلَيْكَ يَا زَيْنَ المُتَهَجِّدِينَ، السَّلامُ عَلَيْكَ يَا إِمَامَ المُتَّقِينَ، السَّلامُ عَلَيْكَ يَا دُرَّةَ الصَّالِحِينَ، السَّلامُ عَلَيْكَ يَا وَلِيَّ المُسْلِمِينَ السَّلامُ عَلَيْكَ يَا قُرَّةَ عَيْنِ النَّاظِرِينَ العَارِفِينَ السَّلامُ عَلَيْكَ يَا خَلَفَ السَّابِقِينَ، السَّلامُ عَلَيْكَ يَا وَصِيَّ الوَصِيِّينَ، السَّلامُ عَلَيْكَ يَا خَازِنَ وَصَايَا المُرْسَلِينَ، السَّلامُ عَلَيْكَ يَا ضَوْءَ المُسْتَوْحِشِينَ، السَّلامُ عَلَيْكَ يَا نُورَ المُجْتَهِدِينَ، السَّلامُ عَلَيْكَ يَا سِرَاجَ المُرْتَاضِينَ، السَّلامُ عَلَيْكَ يَا ذُخْرَ المُتَعَبِّدِينَ السَّلامُ عَلَيْكَ يَا مِصْبَاحَ العَالَمِينَ، السَّلامُ عَلَيْكَ يَا سَفِينَةَ العِلْمِ، السَّلامُ عَلَيْكَ يَا سَكِينَةَ الحِلْمِ، السَّلامُ عَلَيْكَ يَا مِيزَانَ القَصَاصِ، السَّلامُ عَلَيْكَ يَا سَفِينَةَ الخَلاصِ، السَّلامُ عَلَيْكَ يَا بَحْرَ النَّدَى، السَّلامُ عَلَيْكَ بَدْرَ الدُّجَى، السَّلامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا الأَوَّاهُ الحَلِيمُ، السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُهَا الصَّابِرُ الحَكِيمُ، السَّلامُ عَلَيْكَ يَا رَئِيسَ البَكَّائِينِ، السَّلامُ عَلَيْكَ يَا مِصْبَاحَ المُؤْمِنِينَ، السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا مَوْلايَ يَا أَبَا مُحَمِّدٍ، أَشْهَدُ أَنَّكَ حُجَّةُ اللَّهِ، وَابْنُ حُجَّتِهِ، وَأَبُو حُجَجِهِ وَابْنُ أَمِينِهِ، وَأَبُو أُمَنَائِهِ، وَأَنَّكَ نَاصَحْتَ فِي عِبَادَةِ رَبِّكَ، وَسَارَعْتَ فِي مَرْضَاتِهِ، وَخَيَّبْتَ أَعْدَاءَهُ، وَسَرَرْتَ أَوْلِيَاءَهُ، أَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ عَبَدْتَ اللَّهَ حَقَّ عِبَادَتِهِ، وَاتَّقَيْتَهُ حَقَّ تُقَاتِهِ، وَأَطَعْتَهُ حَقَّ طَاعَتِهِ حَتَّى أَتَاكَ اليَقِينُ، فَعَلَيْكَ يَا مَوْلايَ يَا بْنَ رَسُولِ اللَّهِ أَفْضَلُ التَّحِيَّةِ، وَالسَّلامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ.