بعض المفاهيم الإسلامية تكون صعبة الفهم على بعض الناس، فتتولّد له شبهات أو أسئلة عن أشياء هي مبهمة بالنسبة له، من ذلك أحكام الإماء والعبيد، وخصوصاً أسرى الحروب من غير المسلمين، فبعض الناس يقارن بين كرامة الإنسان التي هي من اهتمامات الدين الأولى كما ثبت ذلك قرآنياً وروائيّاً، وفي نفس الوقت نراه لم يحرّم أو لم يُلغِ ظاهرة الاسترقاق وبيع الإماء والعبيد، أو ليس هذا يتعارض مع الرّحمة والعفو وكرامة الإنسان؟
والكلام بهذه البيان والاستعطاف يمكن أن يكون مقبولاً؛ وذلك لموافقته للعاطفة الإنسانية من جهة؛ ولدعوات العقلانية التي تسيطر على كثير من العقول من جهة أخرى، لكننا سنزيل الغبار بإذن الله تعالى؛ ليتضح الوجه الناصع للإسلام بخصوص هذه الحالة، وهل الإسلام معها أو ضده؟ فنقول:
عندما وُلد الإسلامُ وجد في المجتمع ظواهر عديدة جرت مجرى العادة المستحكمة التي يصعب زوالها، ومنها تجارة العبيد، فهي منتشرة حتى عند الأمم المجاورة للمجتمع الإسلامي، وكانت هذه التجارة تعدُّ من أفضل التجارات إنْ لم تكن هي الأنفس على الإطلاق، فلو حكم الإسلام بتحريم الرّق دفعة واحدة فإن ذلك سيكون صعب الامتثال على الناس، ويكون ذا مشقة بالغة عليهم، مما يشكّل مانعاً محتملاً من قبول الإسلام عند الكثير من الناس، لأن إسقاط هذه التجارة (تجارة العبيد) دفعة واحدة معناها هدر جانب اقتصادي كبير للمجتمع، وذلك يضرّ بمصالحهم الحيويَّة كالتجارة والزراعة والعمران؛ لأن العبيد هم من يقومون بالأعمال، فالإلغاء المباشر بنظرهم معناه التخلِّي عن القوة والمنعة، وهم أحرص شيءٍ عليها، خصوصاً أن المجتمع القبلي- للعرب وغيرهم - كان يتقوّى بالعبيد ويمتنع بهم، فهم مادَّة الحرب ووقودها، وبهم كانوا يستكثرون وهم مَن كان يسوس لهم دوابَّهم ومصالحهم وبأيديهم يتمُّ تصنيع السلاح والعتاد، وعلى متونهم تقام الحصون والقلاع.
فالطريقة القرآنية لا تنظر إلى الأمور مثل النظرة البشرية المستعجلة، فنحن البشر عندما نرى حالة غير صحيحة في المجتمع ربما نسرع إلى إنكارها بقوّة، باعتبار أن التخلص منها واجب ودفع مفسدتها ضروري، لكن القرآن ينظر إلى طريقة إصلاح المجتمع الذي اعتاد على سلوك معين، وربما يكون الإنكار والمنع دفعة واحدة وبصورة مباشرة باباً لعدم الإيمان بالدين الجديد، وبالتالي تتأثر الدعوة سلبياً في حاضرها ومستقبلها، ومِن هُنا لم يقدم الإسلام على التحريم والمنع لهذه الظاهرة بشكلٍ مُباشرٍ، بَل سعى بكُل طاقاتِهِ إلى القضاء عليه بجملةِ تشريعاتٍ تؤدّي بالنّتيجةِ إلى غيابه عن المجتمع، حيثُ قامَ بالحثِّ على تحريرِ العبيدِ عَن طريقِ الكفّاراتِ، كمَا في كفّارةِ القتلِ الخطأِ، قالَ تعالى: (وَمَن قَتَلَ مُؤمِنًا خَطَئًا فَتَحرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤمِنَة)[1]، وكما في كفّارةِ اليمينِ، يقولُ تعالى: (فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُم أَوْ كِسْوَتُهُم أَوْ تَحرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِد فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ)[2]، أو كمَا في كفّارةِ الظّهارِ، حيثُ يقولُ تعالى: (وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِم ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبلِ أَن يَتَمَاسَّا)[3]، والظّهارُ هوَ أن يقولَ الزّوجُ لزوجهِ: أنتِ عليَّ كظَهرِ أُمِّي، ونحوِهَا مِنَ الكفّاراتِ، وكذلكَ عَن طريقِ التّزوّجِ مِنَ الإماءِ وإضفاءِ الحُرّيّةِ عليهنَّ مِن خلالِ أولادِهِنَّ، وهكذا، حتّى انتهت هذهِ الظّاهرةُ والحمدُ للهِ ولَم يعُد لهَا أيُّ وجودٍ يُذكَرُ في حياةِ المُسلمينَ.
مجلة اليقين العدد (57)