الجامع الكبير في جينيه

الجامع الكبير في جينيه

مسجد جينيه.. أضخم مبنى طيني في العالم

تطلّ مدينة جينيه على نهر النيجر في دولة مالي، وتبعد عن المدينة الأثرية تمبكتو بحوالي 400 كم، تأسست مدينة جينيه في عام 800 م، وهي واحدة من أقدم المدن الواقعة جنوب الصحراء الكبرى في أفريقيا. شارك في تأسيسها وبنائها العربُ والأفارقة حيث كانت منارةً للعلم، ومركزاً لنشر الإسلام في غرب أفريقيا ووسطها، وأصبحت معبراً مهماً للتجار لنقل بضائعهم.

أخذت مساجد مالي هيئتها من تراث القوم وأصولهم وفطرتهم، فكانت دليلاً على العمارة الإسلامية الأفريقية العريقة، ومن أبرز مساجدها مسجد جينيه الطيني الكبير والذي يعدّ رمزاً شامخاً على روعة الفنّ البدائي الخالي من التعقيد، ويعتبر هذا المسجد أكبر مبنى طيني في العالم، كما يعتبر- بلا منازع - من أهم وأبرز معالم القارة السمراء ككل.

كان المسجد الأصلي أحد أكبر المراكز التعليمية في القارة السمراء خلال القرون الوسطى. وكانت جينيه نفسها تجتذب من مختلف البقاع آلاف الطلاب الساعين لدراسة علوم القرآن والفقه في مدارس المدينة المتعددة.

التشييد:

يعود عمر المسجد إلى أكثر من 800 عام، وتعدّدت الروايات حول تاريخ المبنى القائم حالياً، ووفقاً لبعض لدراسات الواسعة، واستناداً إلى الحكايات الشفهية التي عُنيت بالمسجد وتاريخه، فان هناك من يذهب إلى أنّ المسجد تعرّض للهدم والبناء مرّات عديدة.

  وأول بناء لهذا المسجد كان في القرن الثالث عشر، لكن الصرح الذي يرى اليوم يعود تاريخه إلى عام 1907.

  وقد أشرف على بناء المسجد في مطلع القرن العشرين المعماري المالي إسماعيل تراوري.

التحديث:

على الرغم من هجوم المدنيّة على المسجد من كهرباء الإنارة ومكبّرات الصوت، وتغطية بعض جدرانه بالأحجار، فقد قاوم الأهالي أيّ محاولة لتحديثه، لأنّ ذلك من وجهة نظرهم يمثّل مزيداً من التجنّي على قيمته التاريخية، وهو أمر استحسنه بشدّة دعاة صون المعالم الأثرية في مختلف أنحاء العالم، وهو ما دفع اليونسكو سنة 1988 لوضعه على لائحة التراث العالمي.

تقنية البناء:

  تثير عمارة المسجد الدهشة والانبهار، فالطين هو المادة الإنشائية الأساسية لهذا المسجد، ولأنّ مادّة الطين ضعيفة وعرضة للتآكل والتأثّر بالأحوال الجوّية وتقلّباتها، فقد تم استحداث المقوّمات المشكِّلة لعمارته، مثل اللجوء لفكرة الأكتاف (والأكتاف دعائم بارزة مهمتها إكساب الهيكل البنائي مزيداً من المتانة والاستقرار) كما تساعد هذه الأكتاف التي تظهر على شكل نتوءات في جدران المسجد العمّالَ والسكّانَ في إنجاز عمليّات الترميم المتلاحقة سنوياً، كما تمنح جدار المسجد الخارجي منظراً جمالياً فريداً خاصّة مع ظلال الشمس.

   شيّدت جدران المسجد الكبير من الطوب اللبِن الذي يسمى محليّا (فيري) وغطيت بالطين المخلوط بالتبن، بطريقة فنية أعطت المبنى بشكل عام مظهره الناعم الصقيل ومنحت المسجد مظهراً جميلا إذ يبدو وكأنه منحوت. ويتراوح سمك هذه الجدران بين (41 إلى 61 سم) تبعا لارتفاع الجدار نفسه، فكلما علا الحائط قل سمكه حتى يتسنّى لأساسه حمل ثقله. وميزة هذه الجدران الطينية هي انها تقي الداخل من الحرارة طوال اليوم، وعندما يحلّ المساء والبرد تكون الجدران قد امتصت من الحرارة ما يكفي لتدفئته.
 وتم استخدام سعف النخيل في بناء المسجد للحد من التشققات الناتجة عن التغييرات في مستوى الرطوبة ودرجة الحرارة.

صنعت أنابيب الصرف من السيراميك، تمتد من السطح لتصريف المياه بعيدا عن الجدران لحماية المسجد الكبير من الأضرار الناجمة عن المياه والفيضانات.

شُيّد هيكل المسجد بالكامل على منصّة ترفع أرضيته إلى منسوب أعلى من مستوى الأرض الطبيعية بـ 3 أمتار لحمايته من فيضان النهر المجاور، وهذه المنصة موصولة بدرج مُزيّن يُؤدي إلى مدخل المسجد.

للمسجد 3 مآذن بارتفاع عشرة أمتار للمئذنة، وهي مآذن مربّعة تستند إلى 18 دعامة، كلّ منها ينتهي بالمخروط التقليدي الذي يحمل بيضة نعامة. وللمبنى فِناء يعادل مساحة المصلّى الذي يستند إلى 90 عموداً من الخشب وتتخلّل سقفه نوافذ تفتح إذا ارتفعت درجة الحرارة.

يقع مدخل المسجد الرئيس في الجهة الشمالية بالإضافة إلى المداخل الثانوية الأخرى المنتشرة في جميع الجهات عدا الشرقية، وهناك برجان خارجيان في الجهتين الشمالية والجنوبية، ويتّسع لأكثر من 2000 مصلٍّ.

أعمال الصيانة:

تتعرض جينيه بشكل شبه منتظم للفيضانات وتصبح في هذه الحالة مثل الجزيرة، وهذا أمر انتبه إليه مصمم المسجد المهندس تراوري فشيّد المسجد على دكة عالية تبلغ مساحتها 5625 مترا مربعا يعود إليها الفضل في حماية المبنى من الغرق حتى في أسوأ الفيضانات.

ويشارك السواد الأعظم من سكان جينيه في صيانة المسجد من آثار الأمطار والشقوق والتي يُحدثها تغير درجات والحرارة والرطوبة عبر احتفال سنوي يقام خصيصا لهذا الأمر. وفي الأيام التي تسبق هذا الاحتفال يوضع الطين والتبن في حفر كبيرة وتترك مهمة خلطهما للأطفال الذين يلعبون في هذه البركة الطينية الكبيرة، من دون أن يعلموا أنّهم يقومون بمهمّة كبرى.

ثم يقام سباق بين حفر الطين والمسجد نفسه يفوز فيه الرجل الذي يتمكن من الوصول بثقله إلى عمال الصيانة قبل غيره، ويتم الأمر كله بإشراف «رابطة البنائين الماليين» وتحت أنظار كبار القوم الذين تقام لهم منصة شرف خاصة بالمناسبة في ساحة السوق التي يطل عليها المسجد.

المصدر: بيوت المتقين (47) شهر ذي القعدة 1438هـ