- عَنْ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) قَالَ: (قَالَ يَا حَفْصُ يُغْفَرُ لِلْجَاهِلِ سَبْعُونَ ذَنْباً قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لِلْعَالِمِ ذَنْبٌ وَاحِدٌ)[1].
أخبر (عليه السلام) بأنّه قد تقع المساهلة في حقّ الجاهل يوم الحساب دون العالم، والمقصود أنّه يغفر للجاهل ذنوب كثيرة قبل أن يغفر للعالم ذنب واحد، فإن ذنب العالم في مقابل ذنوب كثيرة من الجاهل أعظم بمراتب لقوّة سببه وعظمة آثاره وذلك:
أولاً: لأنّ ذنبه منبعث بعد المعرفة والتدين وكمال انقياده وإطاعته لله سبحانه فتغلب الأسباب الوهميّة والخياليّة على قوّته النظرية العاقلة العالمة بالقبح والشناعة، وتعمى بصيرتها، فسبب ذنبه أعظم من سبب ذنب الجاهل، إذ الجاهل يكفيه أدنى سبب لعدم المعارف.
وثانياً: لأنّ أثر ذنبه - وهو مخالفة الباري المعروف عنده بصفاته وقدرته وجبروته وغلبته وغضبه، وعلمه بجميع المعلومات كلّيّها وجزئيّها إلى غير ذلك من آثاره سبحانه - أعظم من أثر ذنب الجاهل، لأنّه لم يعرفه سبحانه مثل معرفة العالم، وإنّما سمع شيئاً ولم يعرف حقيقته، وإذا تفاوتت الأسباب والآثار قوّةً وضعفاً تفاوتت الأفعال أيضاً لذلك فبهذا الاعتبار ذنب العالم يقابل ذنوباً كثيرة من الجاهل.
2- وبِهَذَا الإِسْنَادِ قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ الله (عليه السلام): (قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَلَى نَبِيِّنَا وآلِه وعَلَيْه السَّلَامُ: وَيْلٌ لِلْعُلَمَاءِ السَّوْءِ كَيْفَ تَلَظَّى عَلَيْهِمُ النَّارُ)[2].
الويل: كلمة عذاب، تقول: ويل لزيد وويلاً لزيد بالرفع والنصب، فالرفع على الابتداء والنصب على إضمار الفعل، وقيل: الويل واد في جهنّم لو أُرسلت فيه الجبال لماعت من حرّه، والسوء بالفتح مصدر يقال: ساءه يسوؤه سوءاً نقيض سرّه، وبالضمّ الاسم تقول: هذا رجل سوء بالإضافة، ثمّ تدخل عليه الألف واللام وتقول: هذا رجل السوء.
والمقصود ذمّ العلماء باعتبار اتّصافهم بالسوء لا باعتبار علمهم به، فليتأمّل.
وقوله (عليه السلام): (كيف تلظّى عليهم النار؟) أي كيف تضطرم وتلتهب عليهم النار؟ وتلظّى أصله تتلظّى حذفت إحدى التاءَين للتخفيف من لظى، وهو اسم النار، واسم من أسماء جهنّم أيضاً، لا ينصرف للعلميّة والتأنيث، و(كيف) ليس للاستعلام عن حالهم، بل للإعلام بشناعتها وفظاعتها وشدائدها، بحيث لا يمكن تصوّرها.
ثمّ الظاهر أنّ المراد بالنار معناها الحقيقي، ويمكن أن يراد بها نار ألم الفراق بعد المفارقة عن الدنيا وانكشاف قبح السوء وآثاره على سبيل الاستعارة التحقيقية والترشيح، لأنّ الألم من باب الإدراك، وكلّما كان الإدراك أقوى وأشدّ كان الألم كذلك، ولا ريب في أنّ إدراك العالم لشدائد الفراق أقوى من إدراك الجاهل لها، فلذلك كان التهاب نار الفراق على العالم أعظم وأشدّ منه على الجاهل.
3 - عَنْ جَمِيلِ بْنِ دَرَّاجٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ الله(عليه السلام) يَقُولُ: (إِذَا بَلَغَتِ النَّفْسُ هَاهُنَا وأَشَارَ بِيَدِه إِلَى حَلْقِه لَمْ يَكُنْ لِلْعَالِمِ تَوْبَةٌ ثُمَّ قَرَأَ (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى الله لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ))[3].
قوله (عليه السلام): (إذا بلغت النفس هاهنا) النفس بالتحريك واحد الأنفاس، وهو ما يخرج من الحيّ حال التنفّس، وبالتسكين الروح، وكلاهما مناسب.
ثم قال (عليه السلام): (وأشار بيده إلى حلقه) يعني قبل معاينة عالم الغيب قريباً من انقطاع زمان التكليف متّصلاً به.
ثم قال(عليه السلام): (لم يكن للعالم توبة) لتشديد الأمر عليه وعدم المسامحة معه في كثير من الأمور وقبول توبته في هذا الوقت من جملتها، ويدلّ على هذا التفصيل ما رواه زرارة، عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: (إذا بلغت النفس هذه - وأهوى بيده إلى حلقه - لم يكن للعالم توبة، وكانت للجاهل توبة)، ويبعد أن يراد بالعالم العالم بموته وبالجاهل الجاهل به، كما زعم، وقيل: الفرق بينهما أنّ ذنوب العالم أمور باطنية وصفات قلبية وملكات رديّة نفسانيّة لا يمكن محوها عن النفس دفعة في مثل هذا الزمان القليل، بل لا بدّ من مرور زمان يتبدّل سيّئاته إلى الحسنات، بخلاف ذنوب الجاهل الناقص فإنّها من الأعمال البدنيّة والأحوال النفسانية الخارجة عن صميم القلب وباطن الروح فيمكن محوها في لحظة.
ثمّ قرأ(عليه السلام): (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى الله لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ) بعده (ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) يعني قبول التوبة واجب على الله للذين يعملون السيّئات جاهلين أو متلبّسين بالجهالة ثمّ يتوبون من زمان قريب بزمان حضور الموت ومعاينة أمر الآخرة. ثمّ أكّد ذلك الحكم وأخبر بالوفاء بوعده المستفاد من قوله: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ) فقال: (فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ) أي قبل توبتهم (وَكَانَ اللهُ عَلِيماً) بإخلاصهم بالتوبة (حَكِيماً) لا يعذّب التائب.
والاستشهاد في قوله: (بِجَهالَةٍ) فإنّه يفهم منه أنّ قبول التوبة في هذا الوقت القريب من الموت للجاهل دون العالم، وإلاّ لما كان لذكر الجهالة فائدة، وأمّا قبول التوبة قبل هذا الوقت فغير مختصّ بالجاهل لقيام الأدلّة على قبولها من العالم أيضاً فتأمّل.
4 - عَنْ أَبِي بَصِيرٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ(عليه السلام) فِي قَوْلِ الله عَزَّ وجَلَّ: (فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ والْغاوُونَ) قَالَ: (هُمْ قَوْمٌ وَصَفُوا عَدْلاً بِأَلْسِنَتِهِمْ ثُمَّ خَالَفُوه إِلَى غَيْرِه)[4].
قوله(عليه السلام) في قول الله عزّ وجلّ: (فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ والْغاوُونَ) في الصحاح: كبّه لوجهه، أي صرعه، فأكبّ هو على وجهه، وكبكبه، أي كبّه، ومنه قوله تعالى: (فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ والْغاوُونَ). وقال القاضي: الكبكبة تكرير الكبِّ لتكرير معناه، كأنّ من اُلقي في النار منكبّ مرّة بعد أُخرى حتى يستقرّ في قعرها، والغاوون أي الضالّون الخائبون من الغيّ وهو الضلال والخيبة، عطف على ضمير الجمع المتّصل لتأكيده بالمنفصل.
ثم قال(عليه السلام): (هم قوم وصفوا عدلاً بألسنتهم) أي ضمير الجمع المتّصل قوم من العلماء المائلين إلى الدنيا ولذّاتها والتابعين للنفس الأمّارة وشهواتها الذين وصفوا عدلاً، أي نواميس إلهيّة وشرائع نبوية وبيّنوه للناس بألسنتهم وهو العدل.
ثم قال(عليه السلام): (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) لجواز أن يكون وما تعبدون أصناماً آلهة ورد عليه: أنه لا منافاة بين التفسيرين; لأنّ إطلاق الآلهة على العلماء شرعاً باعتبار الطاعة والانقياد لهم في أفعالهم وأعمالهم والاستماع إلى أقوالهم شائع، وقد دلّ عليه قوله تعالى: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللهِ)، ودلّت عليه الروايات المعتبرة.
ثم قال(عليه السلام): (ثمّ خالفوه إلى غيره) أي ثمّ خالفوا العدل لعدم استقراره في قلوبهم ومالوا إلى الجور واتّبعوا النفس الأمّارة ومشتهياتها ومقتضياتها، وهؤلاء أشباه العلماء وليسوا بمتّصفين بالعلم والحكمة حقيقةً; لأنّ العلم مقرون بالعمل، ولذلك قال سقراط: (إذا أقبلت الحكمة خدمت الشهوات العقول، فإذا أدبرت خدمت العقول الشهوات). وقال المحقّق الطوسي: (قد يصدر من بعضٍ أقوالٌ شبيهة بأقوال العلماء والحكماء مع أنّه ليس بعالم ولا حكيم قطعاً; لعدم اتّصاف نفسه بمعنى العلم والحكمة، فإنّ من الناس من يجمع مسائل العلوم ويحفظها ويحفظ نكاتها ودقائقها التي أخذها بطريق التقليد ويؤدّيها إلى غيره في المحاورات والمناظرات على وجه يتعجّب منه المستمعون ويحملون ذلك على وفور علمه وكمال فضله وهو فاقد في نفس الأمر لثمرة العلم وفائدة الحكمة، أعني وثوق النفس وبرد اليقين وليس حاصل فوائده وخلاصة عقائده إلّا التشكّك والحيرة، ومثله في تقرير العلوم مثل بعض الحيوانات في حكاية أفعال الإنسان ومثل الأطفال في التشبّه بأفعال البلغاء فأفعاله وآثاره شبيهة بأفعال العلماء وآثارهم وقلبه مباين لقلوبهم ثمّ لكون مصدر العلم والحكمة هو النفس دون الظواهر يقع الاشتباه بينهم وبين العالم الربّاني وهو الحكيم العادل الذي أشرقت نفسه بإشراقات الحكمة الإلهية وتنوّر قلبه بأنوار العلوم الربّانيّة ووقع التعديل في قواه الظاهرية والباطنية والتقويم في أفعاله وأحواله وأقواله الصادرة منه بحيث لا يخالف بعضها بعضاً وطابق ظاهره باطنه وهو الذي ينطق بالحقّ ويعمل به ويدعو إليه، وأمّا المتشبّه به فلعدم تأثّر ذهنه بالحكمة وعدم انقياد قلبه للعلم صار عقله مغلوباً في الشهوات، خادماً للنفس الداعية إلى اللذات فغاية همّه الدنيا وما فيها ونهاية جهده طلب زخارفها الفانية بما يظهر منه الكمال وغيره، وهكذا حاله إلى أن يموت فيغرق في سوء أعماله وقبح آثاره). وما نقلناه منه (رحمه الله) أخذناه في مواضع من كلامه، والله وليّ التوفيق وإليه هداية الطريق.
مجلة بيوت المتقين العدد (15)