ينقل ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ البَارِي عَنْ ابنِ أَبِي هَاشِمٍ: (إِنَّ الجِهَاتَ الَّتِي وُجِّهَتْ إِلَيْهَا المَصَاحِفُ كَانَ بِهَا مِنَ الصَّحَابَةِ مَنْ حَمَلَ عَنْهُ أَهْلُ تِلْكَ الجِهَةِ، وَكَانَتِ المَصَاحِفُ خَالِيَةً مِنَ النُّقَطِ وَالشَّكْلِ، قَالَ: فَثَبَتَ أَهْلُ كُلِّ نَاحِيَةٍ عَلَى مَا كَانُوا تَلَقَّوْهُ سَمَاعَاً عَنِ الصَّحَابَةِ بِشَرْطِ مُوَافَقَةِ الخَطِّ، وَتَرَكُوا مَا يُخَالِفُ الخَطَّ؛ امْتِثَالاً لِأَمْرِ عُثْمَانَ الَّذِي وَافَقَهُ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ لِما رَأَوْا فِي ذَلِكَ مِنَ الاحْتِيَاطِ لِلْقُرْآنِ؛ فَمِنْ ثَمَّ نَشَأَ الاخْتِلَافُ بَيْنَ قُرَّاءِ الأَمْصَارِ)[1].
ونحن لا نختلف مع هذا الرأي في نشأة الاختلاف في القراءة، فربما اختار عثمان لمهمة توحيد القراءة في جميع الأمصار رجالاً غير أكفاء، فوقع بين النسخ التي بعثها معهم اختلافات إملائية وإعرابية، الأمر الذي نتج عنه اختلاف المسلمين في القراءة، فكما ذكر ابن حجر أن عثمان أرسل مع كل نسخة قارئاً يقرؤها على الناس، وكل قارئ منهم كان يقرأ حسب ما مكتوب في نسخته من الخط، وكان الناس يتبعونه في ذلك باعتبارهم يأخذون من مبعوث عثمان الذي كانوا يعتبرونه خليفة للمسلمين، بالتالي حصل الاختلاف، وأصبح لكل مصر قرآنه، وكان الأحرى بعثمان أن يجمع المبعوثين قبل بعثهم، ويتفق معهم على قراءة واحدة، خصوصاً وأن العرب كانت تختلف في نطق بعض الحروف والحركات، ولا يتصوّر جهل عثمان بهذا الأمر، لكنه ربما غفل عنه فحصل ما حصل، وساعد على ذلك أيضاً بداءة الخط الذي كتبت به النسخ المبعوثة، والخلو من النقاط والإعراب، وإسقاط الألفات، وتأثير اللهجة واختلافها بين القبائل العربية، وتفعيل الاجتهاد والرأي الشخصي لبعض القراء وعلماء العربية الذين غالوا بالقواعد والأدب وغير ذلك.
تواتر القراءات
أنكر علماؤنا الملازمة بين تواتر القراءات وتواتر القرآن الكريم، خلافاً للمذاهب الأخرى، ورأيهم على أن القرآن الكريم بحدِّ ذاته متواتر لكن القراءات حسب التتبُّع غير متواترة، فالقرآن والقراءات حقيقتان متغايرتان، فالقرآن هو الوحي المنزل على الرسول(صلى الله عليه وآله)، وأما القراءات هي اختلاف في كتابة الألفاظ أو طريقة تلفّظها، وقد قرّر الإمام الصادق(عليه السلام) هذا الرأي في رواية يقول فيها: «إنّ القرآن واحد، نزل من واحد، ولكن الاختلاف يجيء من قبل الرواة»[2]، وقال السيد الخوئي: (إنّ تواتر القرآن لا يستلزم تواتر القراءات، لأن الاختلاف في كيفية تعبير الكلمة لا ينافي الاتفاق على أصلها، كما أن الاختلاف في خصوصيات حدث تأريخي كالهجرة مثلاً لا ينافي تواتر نفس الحدث، على أن الواصل إلينا بتوسط القرّاء إنما هو خصوصيات قراءاتهم، وأما أصل القرآن فهو واصل إلينا بالتواتر بين المسلمين، وبنقل الخَلَف عن السَّلَف، وتحفّظهم عليه في الصدور وفي الكتابات ... الخ )[3].
ويبقى السؤال المهم في هذا الموضوع: هل يجوز قراءة القرآن بهذه القراءات أو لا يجوز؟
الجواب: قال السيد الخوئي(قدس سره): (بالنظر إلى ما ثبت قطعيا من تقرير المعصومين(عليهم السلام) شيعتهم على القراءة، بأيّة واحدة من القراءات المعروفة في زمانهم، فلا شك في كفاية كل واحدة منها. فقد كانت هذه القراءات معروفة في زمانهم، ولم يرد عنهم أنهم ردعوا عن بعضها، ول وثبت الردع لوصل إلينا بالتواتر، ولا أقل من نقله بالآحاد، بل ورد عنهم(عليهم السلام) إمضاء هذه القراءات بقولهم: «اقرأ كما يقرأ الناس»[4]، «اقرؤوا كما علّمتم»[5]، وعلى ذلك فلا معنى لتخصيص الجواز بالقراءات السبع أ والعشر، نعم يعتبر في الجواز أن لا تكون القراءة شاذة، غير ثابتة بنقل الثقات عند علماء أهل السنة، ولا موضوعة، أما الشاذة فمثالها قراءة، ملك يوم الدين بصيغة الماضي ونصب يوم، وأما الموضوعة فمثالها قراءة (إِنَّمَا يَخْشَى اَللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) برفع كلمة الله ونصب كلمة العلماء على قراءة الخزاعي عن أبي حنيفة.
وصفوة القول: أنه تجوز القراءة في الصلاة بكل قراءة كانت متعارفة في زمان أهل البيت(عليهم السلام)[6].
مجلة اليقين العدد (54)