المسح بين الوضوء والتيمم

من آيات الأحكام

 آية الوضوء

إن اختلاف النظر في النصوص هو السبب في اختلاف بعض الأحكام والمعاني، وأحياناً يرتبط هذا الاختلاف بالنص القرآني فيختلف التعامل حينئذٍ بالجانب العملي إذا كان مما يتوقف العمل فيه على فهم النص، ومن ذلك الاختلاف بين فرق المسلمين على كيفية الوضوء، وبالخصوص في الرجلين هل يمسحان أم يغسلان؟

اختار مذهب أهل البيت (عليهم السلام) المسح واختارت الفرق الأخرى الغسل، ومنشأ هذا الاختلاف تارة يرجع إلى مسألة لغوية، وتارة يرجع إلى اختلاف الروايات، وسنناقش المسألتين بما يلائم صفحات هذه المجلة، فنقول:

آية الوضوء هي الآية (6) من سورة المائدة، وهي قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ)

الخلاف اللغوي:

 ترى الفرق الإسلامية – غير مذهب آهل لبيت (عليهم السلام) – أن (أرْجُلَكُمْ) تقرأ بالفتح والوجه في فتحها أنها معطوفة على كلمة (وُجُوهَكُمْ) التي تصرح بغسل الرجلين، ولا يصح عطفها على ما قبلها (بِرُؤُوسِكُمْ) لأنها مجرورة.

أما مذهب أهل البيت (عليهم السلام) فرايهم أن الآية الكريمة تدل على المسح سواء رويت بالنصب على قراءة حفص، أو بالجر على قراءة عاصم، فإنه على قراءة الجر الأمر واضح تكون (أَرْجُلكُمْ) معطوفة على (بِرُؤُوسِكُمْ) فتأخذ حكمها وهو المسح، وعلى قراءة النصب هي أيضاً معطوفة على محل (بِرُؤُوسِكُمْ) وهو النصب فإنها تعرب مجرورة لفظاً منصوبة محلاً على أنها مفعول به.

اختلاف الروايات:

  اعتمدت فرق المسلمين  - غير مذهب أهل البيت (عليهم السلام) – في غسل الرجلين في الوضوء على رواية مسلم النيسابوري، وهي: حدّثني زهير بن حرب ، حدّثنا جرير وحدّثنا إسحاق أخبرنا جرير ، عن منصور ، عن هلال بن يساف ، عن أبي يحيى ، عن عبد الله بن عمرو قال : رجعنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) من مكّة إلى المدينة ـ هذه السفرة كانت من مكّة إلى المدينة ـ حتّى إذا كنّا بماء بالطريق تعجّل قوم عند العصر، فتوضّؤوا وهم عجال، فانتهينا إليهم وأعقابهم تلوح لم يمسّها الماء، فقال رسول الله: « ويلٌ للأعقابِ منَ النَّارِ، أسبِغوا الوُضوءَ»[1].

ومفاده أنه (صلى الله عليه وآله) رأى قوماً قد توضؤوا ورأى أعقاب أرجلهم جافة ليس عليها الماء، فقال (ويلٌ للأعقابِ منَ النَّارِ، أسبِغوا الوُضوءَ) أي أتموا الوضوء وكأنه يكون ناقصاً بعدم وصول الماء إلى الأعقاب.

وأما مذهب أهل البيت (عليهم السلام) فاستدلوا على المسح بأخبار كثيرة كالخبر الذي رواه الكليني في كتابه الكافي: ج٣، ص٣٠ بإسناد صحيح عن زرارة، قال:

(قلتُ لأبي جعفر ـ يعني: الإمام الباقر (عليه السلام) ـ: ألا تخبرني من أين علمتَ وقلتَ: إن المسح ببعض الرأس، وبعض الرجلين؟ فضحك! ثم قال: يا زرارة، قاله رسول الله (صلى الله عليه واله)، ونزل به الكتاب من الله! لأن الله (عز وجل) يقول: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ}، فعرفنا أن الوجه كله ينبغي أن يغسل. ثم قال: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ}. ثم فصَل بين الكلام، فقال: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ}، فعرفنا حين قال: {بِرُءُوسِكُمْ} أن المسح ببعض الرأس لمكان الباء. ثم وصَل الرجلين بالرأس كما وصَل اليدين بالوجه، فقال: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ}، فعرفنا حين وصلها بالرأس أن المسح على بعضها. ثم فسَّر ذلك رسول الله (صلى الله عليه واله) للناس فضيَّعوه!).

مناقشة غسل الرجلين:

ناقش العلماء في رأي غسل الرجلين في الوضوء من عدة وجوه:

أولاً: من الناحية اللغوية، فإن حجة القوم إنّ قراءة النصب في (أَرْجُلَكُمْ) لأجل العطف على الوجوه والأيدي، فكأنّه قال: فاغسلوا وجوهكم وأيديكم وأرجلكم. فإذن، يجب الغسل لا المسح.

بيد أنه لا يمكن مثل هذا العطف في العربية؛ لأنّ الفصل بين المتعاطفين بجملة غير معترضة خطأ في اللغة العربية، والقرآن الكريم منزّه من كلّ خطأ وخلط، وكيف يحمل الكتاب على خطأ في اللغة العربية.

ثانياً: إنّ يقولون وإن كانت دلالة الآية على المسح إلا أن الغسل هو المختار لدلالة الروايات عليه.

وهذا باطل في جهتين:

1/ لم يتفق السنة جميعهم على جواز نسخ القرآن بالسنة، فقد ذهب الإمام الشافعي والإمام أحمد إلى عدم جواز نسخ القرآن بالسنة حتى المتواترة، واستدلوا بقوله تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ النحل: 44، حيث أن الله تعالى ذكر وظيفة النبي (صلى الله عليه واله وسلم) في مجرد البيان لِما في القرآن، والنَّسخ ليس بيانًا، بل هو رفع لهذا القرآن.

2/ لو سلمنا أن القرآن الكريم ينسخ بالسنة، فإنه توجد روايات معارضة لرواية مسلم تدل على أن المسح هو المختار دون الغسل، منها: ما عن أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام): إنّه توضّأ فمسح علىٰ ظهر القدم وقال: (لولا أنّي رأيت رسول الله فعله لكان باطن القدم أحقّ من ظاهره).[2]

ومنها: عن رفاعة بن رافع عن رسول الله (صلّى الله عليه (وآله) وسلّم): يغسل وجهه ويديه إلىٰ المرفقين ويمسح برأسه ورجليه إلىٰ الكعبين.  [3]

وروايات كثيرة من هذا القبيل في سنن أبي داود: ج1، ص86 ، و سنن النسائي : ج1، ص161، وسنن ابن ماجة: ج1، ص156.   

بين التيمم والوضوء

لماذا لم يحصل هذا الخلاف في التيمم؟

الجواب: ذلك لعدة أسباب:

  1. إن فقرة التيمم وردت بالجر فقط، وهي قوله تعالى (فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ) المائدة: 6.  فلا كلام فيها ولا خلاف.

بينما آية الوضوء قد وردت فيها قراءتان فحصل فيها الخلاف.

  1.  فقرة التيمم جملة واحدة فلا تأتي حجة منع عطف كلمة من جملة على كلمة من جملة أخرى. 

 


[1] شرح النووي على صحيح مسلم ٢ / ١٢٨.

[2] مسند أحمد: ج1، ص95.   

[3] المستدرك: ج1، ص241.