وصف القرآن الكريم مكة بالبلد الآمن في آيات عديدة، منها: قوله تعالى: (فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا) بل ورد في آيات أخرى أن الله جعله آمناً، منها قوله تعالى: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا) وقوله تعالى: (رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً)[1]، وقوله تعالى: (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً)[2].
وظاهر هذه الآيات المباركة أن الأمن في مكة صفة توقيفية، أو قل هي أمر تكويني، بقرينة جعل الباري عز وجل، من قبيل قوله تعالى: (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ)[3]، فالجعل هنا بمعنى الخلق التكويني الخارج عن اختيار الإنسان.
وإذا أردنا أن نتمسك بهذا الظهور من الآيات الكريمة فمعناها أن يكون كل شيء في مكة آمناً من كل شيء، وأن أرض مكة غير قابلة لأن تحصل فيها معصية أو جريمة، ولا يمكن أن يقع فيها القتل والدمار والرعب والخوف، لأن ذلك كله مصاديق عدم الأمن.
لكن هذا المعنى تكذبه الوقائع والأحداث التاريخية التي وقعت في مكة.
فلقد تعرضت نفس الكعبة المشرفة للاعتداء وضُربتْ بالمنجنيق، واحترق جزء منها وتهدّم، ووقعت فيها حروب أسالت الدماء وأزهقت الأرواح، فقتل في مكة عبد الله بن الزبير وحُزّ رأسه، وأُرسِل إلى عبد الملك بن مروان، وصلب الحجاج بدنه مُنكّسًا عند الحجون بمكة، وقتل معه عبد الله بن مطيع العدوي وعبد الله بن صفوان الجمحي وهو متعلق بأستار الكعبة، كان ذلك سنة 73 هـ.
كما أننا نسمع الكثير عن السرقات التي يتعرض لها الحجيج والمعتمرين، كل ذلك يكذب ويعارض أن يكون الأمن حالة تكوينية مجعولة من قبل الله تعالى لمكة المكرمة.
ومن جهة أخرى فإن الأمن المعنوي مفقود أيضاً في الديار المقدسة، فمازالت الصحف في عالمنا الإسلامي تتباهى في بث الفرقة والعداء بين المسلمين بدواعٍ عرقية أو طائفية، أو قومية، وما زالت الضغائن تُثار حتى بين الحجيج في أيام الحج، فيتصيّدون المواقف التحريضية ضد هذا وذاك.
كذلك بعض المنابر والخطب من داخل هذا البلد تثير العواطف السلبية بين أبناء الدين الواحد، فما تكاد تهدأ فتنة إلا علا نداء لفتنة أخرى، مدعومة ببعض الفضائيات التي تصب الزيت على النار في عقول هذا الجيل الناشئ البريء.
فكيف جعل الله هذا البلد آمناً؟
فهل للأمن معنى آخر غير الذي نعرفه؟ أو أن ثمة تفسير آخر لهذه الآيات المباركة؟
يقول المفسرون أن مفاد هذه الآيات هو تكليف الناس بتحقيق الأمن في هذا البلد، فالأمر والجعل هنا تشريعي وليس تكوينياً، ويظهر هذا التكليف في أحكام الإحرام، فإن مقتضى الالتزام بها أن يكون الانسان، الحيوان، النبات آمناً، فلا كذب ولاسب ولا لعان، ليعيش الناس في أجل وأعظم مصداق من مصاديق الأمن والسلامة.
وعليه فإننا نحن المكلفون بتحقيق وإيجاد الأمان في ذلك المكان وإيجاده، وحفظ الإنسان والحيوان والنبات من كل أذىً وسوء، فيحصل على الطمأنينةُ كل من يصل إلى تلك الديار المقدسة، وهذا لا يكون إلا إذا امتلأت أوقاتنا ومجالسنا وفضائياتنا وصحفنا وخطبنا بأحاديث الودِّ والمحبة للآخرين.
وفي الختام على العالم الإسلامي كلّه اليوم أن يستجيب لهذا التكليف الإلهي، ويبذل المزيد من الجهد في تحقيق الأمن والسلام، خصوصاً وان عالمنا الإسلامي اليوم يعيش ظروفاً استثنائية، تسودها التوترات الطائفية ومذاهب العنف، فليس من مصلحة الأُمّة الإسلامية أن يكون المسلمون متصارعين متحاربين، فالصراعات الداخلية تقطّع أوصال الأُمة وتفرّقها وتضعف طاقاتها.
مجلة اليقين العدد (48)