هذا الأثر الخالد هو من أهم وأقدم المساجد التاريخية في العراق لدى الشيعة وكل المسلمين والمسيحيين على حد سواء، وهو مزار معروف ومهم ويعد من أقدم معالم الحضارة الإسلامية في بغداد ومن أهم البقاع المعروفة في تاريخ الإسلام حتى قبل تأسيس العاصمة العباسية ما يزيد على القرن ويقع في الكرخ من بغداد.
ويتناقل المؤرخون بأن لهذا الموقع أهمية تاريخية خاصة فينقل أنه قد زاره العديد من الأنبياء والأوصياء والصالحين، فقد صلى فيه إبراهيم الخليل (عليه السلام)، كما صلى فيه عيسى بن مريم وأمه (عليهما السلام)، وصلى فيه الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، لما رجع من قتال الخوارج في معركة النهروان، وحصل تحاور بينه وبين الراهب المسؤول عن الدير ويسمى حبّاب كانت نتيجته إشهار الراهب إسلامه وتحويل الدير إلى مسجد.
عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: لما رجع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) من قتال أهل النهروان نزل براثا وكان بها راهب في قلايته (القلاية: بيت عبادة النصارى) وكان اسمه الحباب، فلما سمع الراهب الصيحة والعسكر أشرف من قلايته إلى الأرض فنظر إلى عسكر أمير المؤمنين (عليه السلام) فاستفظع ذلك، ونزل مبادراً فقال: من هذا؟ ومن رئيس هذا العسكر؟ فقيل له: هذا أمير المؤمنين وقد رجع من قتال أهل النهروان. فجاء الحباب مبادراً يتخطى الناس حتى وقف على أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين حقا حقا فقال له: وما علمك بأني أمير المؤمنين حقا حقا؟ قال له: بذلك أخبرنا علماؤنا وأحبارنا، فقال له: يا حباب! فقال له الراهب: وما علمك باسمي؟ فقال: أعلمني بذلك حبيبي رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال له الحباب: مد يدك فأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وأنك علي بن أبي طالب وصيه. فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام): وأين تأوي؟ فقال: أكون في قلاية لي ههنا فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام): بعد يومك هذا لا تسكن فيها، ولكن ابن ههنا مسجداً وسمه باسم بانيه، فبناه رجل اسمه براثا فسمى المسجد ببراثا باسم الباني له. ثم قال: ومن أين تشرب يا حباب! فقال: يا أمير المؤمنين من دجلة ههنا قال: فلم لا تحفر ههنا عيناً أو بئراً، فقال له: يا أمير المؤمنين كلما حفرنا بئراً وجدناها مالحة غير عذبة، فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام): احفر ههنا بئراً فحفر فخرجت عليهم صخرة لم يستطيعوا قلعها، فقلعها أمير المؤمنين (عليه السلام) فانقلعت عن عين أحلى من الشهد وألذ من الزبد. فقال له يا حباب: يكون شربك من هذه العين...[1]
وجاء في رواية أخرى عن محمد بن علي بن الحسين (عليهم السلام) قال: (إن أمير المؤمنين (عليه السلام) ، لما رجع من وقعة الخوارج اجتاز بالزوراء... -إلى أن قال- فلما أتى يمنة السواد، وإذا هو براهب في صومعة له، فقال له: يا راهب انزل هاهنا، فقال له الراهب: لا تنزل هذه الأرض بجيشك، قال: ولِمَ؟ قال: لأنها لا ينزلها إلا نبي أو وصي نبي بجيشه، يقاتل في سبيل الله عز وجل، هكذا نجد في كتبنا، فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام): أنا وصي سيد الأنبياء، وسيد الأوصياء، فقال له الراهب: فأنت إذا أصلع قريش، ووصي محمد (صلى الله عليه وآله)؟ فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام):
أنا ذلك، فنزل الراهب إليه، فقال خذ علي شرائع الإسلام، إني وجدت في الإنجيل نعتك، وأنك تنزل أرض براثا بيت مريم، وأرض عيسى (عليه السلام)، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): قف ولا تخبرنا بشئ، ثم أتى موضعاً، فقال: ألكزوا هذا فلكزه فأتى أمير المؤمنين (عليه السلام) موضعاً فلكزه - اللكز: الضرب الشديد كما جاء في القاموس المحيط ج 2 ص 197 - برجله (عليه السلام) فانبجست عين خرارة، فقال: هذه عين مريم التي أنبعت لها، ثم قال: اكشفوا ها هنا على سبعة عشر ذراعاً، فكشف فإذا بصخرة بيضاء، فقال (عليه السلام): على هذه وضعت مريم عيسى من عاتقها، وصلّت ها هنا، فنصب أمير المؤمنين (عليه السلام)الصخرة، وصلى إليها، وأقام هناك أربعة أيام... ثم قال: أرض براثا هذه بيت مريم (عليها السلام) هذا الموضع المقدس صلى فيه الأنبياء، قال أبو جعفر محمد بن علي (عليه السلام): (ولقد وجدنا أنه صلى فيه إبراهيم قبل عيسى (عليه السلام))[2].
وكان الشيعة يقيمون صلاة الجمعة فيه حتى أواسط القرن الخامس الهجري، وأتباع سيرتهم على مر العصور.
كما وصلى في هذا المسجد الكثير من كبار العلماء وكان داراً للذكر ودراسة علوم آهل بيت النبوة (عليهم السلام) وأصبح هذا المسجد مدرسة للفقه الإسلامي الشيعي بعد مدرسة الكوفة في العراق حتى عصر الشيخ المفيد وما بعده، وكان للشيخ المفيد (قده) حوزة علمية في المسجد يدرّس فيها وقصته مع السيدين الشريفين الرضي والمرتضى ودرسهما على يديه مشهورة حيث رأى الزهراء (عليها السلام) في الرؤيا وقد أتت بالحسن والحسين (عليهما السلام) وهي تطلب منه تعليمهما وفي صباح اليوم التالي جاءت العلوية أم السيدين الرضي والمرتضى تطلب منه تعليمهما.
اسم الجامع المبارك
لهذا المسجد أسماء عديدة إلا أن أشهرها هو (براثا) والسبب في هذه التسمية هو أن هذا المكان كان ديراً للنصارى ولمّا مرّ أمير المؤمنين (عليه السلام) به وتحدث مع الراهب الذي كان في الدير ودخل في الإسلام أمره أن يبني مسجداً مكان الدير ويسميه باسم بانيه فبراثا أصلاً هو اسم باني الدير ومعنى براثا بالسريانية (ابن العجائب) وفي اللغة العربية تعني (الأرض الرخوة الحمراء).
وقيل: إن براثا في اللغة الآرامية (برثيا) ومعناه: الخارج وذلك لوقوع هذه منطقة خارج بغداد وبعد أن بُني هذا المسجد في المنطقة سمي باسمها. ويعرف قديماً بـ(جامع المنطقة) ويعرف أيضاً بـ(مشهد العتيقة).
تأسيس الجامع
لقد أسس هذا المسجد في سنة (37 هـ - 654 م)، وسبب البناء كما جاء في الروايات الشريفة أن الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) مرّ بمنطقة براثا عند العودة من قتال (الخوارج) بالنهروان وصلّى في موضع هناك كان ديراً نصرانياً ثم أمر ببناء مسجد مكانه، وتعرّض هذا المسجد عدة مرات للهدم وتسويته مع الأرض لاجتماع قوم من الشيعة فيه وقتل جميع من فيه وعلى الخصوص في العهدين العباسي والعثماني ويعاد بنائه على أيدي المؤمنين ففي عهد المقتدر العباسي (295 - 320) هُدم هذا المسجد تعصباً ثم أعيد بناؤه في زمن الرضي سنة 329 وأقيمت فيه الخطبة إلى ما بعد سنة 450 ثم قطعت منه وخُرّب.
والظاهر أنه بقيت بقاياه إلى أواخر القرن السابع الهجري وجاوزته، وفي السنوات الأخيرة تعرض للتفجيرات لأكثر من مرة مع محاولات أخرى تم إحباطها والحمد لله.
وقد جرت على المسجد الكثير من عمليات التعمير والتجديد منها: ما تم عام (1070 هـ - 1659م). وفي (1352هـ - 1933م) تم تجديد المسجد أيضاً. تصدى بعض الأخيار عام (1375هـ - 1955م) إلى تعمير المسجد وبناء منارته. وأخيراً أقدم المؤمنون على إصلاحات أساسية في هذا المسجد، وقد وضعت المخططات لتوسعته وإعادة بنائه من جديد.
أبرز الآثار الموجودة في جامع براثا
يحتوي المسجد قطعة من حجارة قديمة وهي التي أشار إليها أمير
المؤمنين (عليه السلام) بأنها الصخرة التي وضعت مريم عيسى (عليه السلام) عليها من على عاتقها وقد أخرجها في حينها من تحت الأرض ووضعها إلى القبلة وصلى ركعات وقد نقش على جانبيها بالخط البارز أسماء المعصومين الأربعة عشر محمد رسول
الله (صلى الله عليه وآله) وفاطمة الزهراء (عليها السلام) والأئمة الاثنى عشر (عليهم السلام) وهذا الحجر المبارك القديم النفيس هو من الذخائر والنفائس المهمة ومن الشواهد المباركة التي تؤكد قدم المكان وعراقته.
كما يحتوي المسجد حجارة المنطقة وهي حجارة سوداء صمّاء فيها نقرة من بقايا حجارة المنطقة القديمة والمنطقة هي العتيقة أي جامع براثا القديم باعتباره أول مسجد صلى فيه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) ويبدو أن هذه الصخرة هي التي كانت على فوهة البئر الذي حُفر بأمر أمير المؤمنين (عليه السلام) والذي طمرته السلطات السابقة وأعيد حفره وهو لا يزال موجوداً علماً أن الصخرة السوداء تم تحليل مكوناتها وتبين أنها ليست من مكونات الأرض والناس يعتقدون بهذا الحجر منذ القديم بصب الماء في النقرة ويسقاه الطفل لكي ينطق وتنحل عقدة لسانه.
المصدر: بيوت المتقين (12) - شهر رمضان 1435هـ