آداب الدعاء

أوْلَت الشرائع السماوية اهتماماً بليغاً بالدعاء والانقطاع إلى الله عزّ وجلّ -خصوصاً شريعة نبينا الخاتم محمد(صلّى الله عليه وآله)- حتى أصبح الدعاء والانقطاع صفة من صفات الأنبياء والأولياء، فإننا نجدهم(عليهم السلام) يلجؤون إلى الله بالدعاء في الشدة والرخاء وفي كل صغيرة وكبيرة، لذا تجد كتب الشيعة قد مُلئت بأدعيتهم ومناجاتهم مع الله تبارك وتعالى، وفي الحديث: (إن الدعاء مخُّ العبادة، ولا يهلك مع الدعاء أحد)[1]، بهذا البيان الوجيز تجتمع قيمة الدعاء وأثره في الحياة... فإذا كان الله تعالى قد قال: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ[2]، فإن الدعاء مخ العبادة وجوهرها، الذي جعله القرآن الكريم في نص آخر مصداقاً للعبادة: ﴿قَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ[3]، فجعل الدعاء هنا ممثلا للعبادة ومترجما لها.

وعن الإمام الصادق(عليه السلام): (إن الدعاء هو العبادة، ثم تلا هذه الآية الكريمة ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾)[4].

وهذا يفسر لنا النصوص المعصومة التي تفيد بأن أفضل العبادة هو الدعاء... ذلك أن غاية العبادة هي التقرب إلى الله تعالى بمعرفة حقه، والتذلّل إليه المعبّر عن يقين المرء بحاجته إلى من بيده ملكوت السماوات والأرض، الذي لا معطي لما منع، ولا مانع لما أعطى، ولا دافع لما قدّر إلا هو.

ولا تتجلّى هذه المعاني في شيء مثل تجلّيها في الدعاء، فهو أفضل وسيلة للتعبير عنها وامتثالها وجداناً وسلوكاً، حاضراً ومستقبلاً، إنها الحالة التي تتجلى فيها العبودية في أروع صورها وأتمّها، فلا غرَابةَ في أن تكون هي أحبّ حالات العبد إلى الله سبحانه وتعالى، ففي حديث أمير المؤمنين(عليه السلام): (أحبّ الأعمال إلى الله عزّ وجلّ في الأرض الدعاء)[5].

أضف إلى ذلك أننا مأمورون باللجوء إلى الله تبارك وتعالى -في كل صغيرة وكبيرة- من خلال الآيات والروايات وإن الله وعدنا أن يستجيب دعائنا إذا أستجمعت فيه شروط القبول قال الله عز وجل: ﴿َقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ[6].

وقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (إن الله ليستحي من العبد أن يرفع إليه يديه فيردّها خائبتين)[7].

وإذا كانت الشريعة السمحاء قد عَنِيت بأمر من الأمور إلى هذا الحدّ، فلا بدّ
أن تضع للناس آدابه وشرائطه التي بها يستكمل صورته ويؤتي أُكُلُه، وهكذا كان شأن هذه الشريعة السمحاء والمحجة البيضاء مع الدعاء، فعرَّفت الناس بآدابه، والتي في مقدمتها الصدق والإخلاص في التوجه إلى الله تعالى، والثقة به، واليقين بأنه سميع مجيب، وحسن التأدب بين يديه بأدب العبد الخاضع الذي يرجو نظرة ربه ولطفه ورحمته... كما عرفتهم بشروطه التي بها يكون الدعاء صحيحاً ترجى من ورائه أحسن الآثار العاجلة والآجلة، ومن تلك الآداب:

1. الطهارة والصلاة: روى مَسمَع عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنه قال: (يا مَسمَع، ما يمنع أحدكم إذا دخل عليه غم من غموم الدنيا أن يتوضأ، ثم يدخل مسجده، فيركع ركعتين، فيدعو الله فيهما ؟ أما سمعت الله يقول:
﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ﴾)[8]، وعنه(عليه السلام): (من توضّأ فأحسن الوضوء، ثم صلى ركعتين، فأتمّ ركوعهما وسجودهما، ثم سلّم وأثنى على الله عزّ وجلّ وعلى رسول الله(صلّى الله عليه وآله)، ثم سأل حاجته، فقد طلب الخير في مظانه، ومن طلب الخير في مظانه لم يخب)[9].

2. الصدقة وشمّ الطيب والرواح إلى المسجد: روي عن الإمام الصادق(عليه السلام)
أنه قال: (كان أبي إذا طلب الحاجة... قدم شيئاً فتصدق به، وشَمّ شيئاً من طيب، وراح إلى المسجد...)[10].

3. البدء بالبسملة: قال الرسول الأكرم(صلّى الله عليه وآله): (لا يُردُ دعاء أوله بسم الله الرحمن الرحيم)[11].

4. الثناء على الله تعالى: وقال الإمام الصادق(عليه السلام): (إذا طلب أحدكم الحاجة فليثنِ على ربه وليمدحه)[12].

5. الدعاء بالأسماء الحسنى: قال الله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾[13]. وقال رسول الله(صلّى الله عليه وآله): (لله عزّ وجلّ تسعة وتسعون اسما، من دعا الله بها استجيب له)[14].

6. الصلاة على النبي وآله والتوسل بهم: قال رسول الله(صلّى الله عليه وآله): (لا يزال الدعاء محجوباً حتى يُصلّى عَليَّ وعلى أهل بيتي)[15]، وعن أمير المؤمنين(عليه السلام): (كل دعاء محجوب حتى يُصلّى على محمد وآل محمد)[16]، وقال الإمام الباقر(عليه السلام): (من دعا الله بنا أفلح، ومن دعاه بغيرنا هلك واستهلك)[17].

7. العموم في الدعاء: قال رسول الله(صلّى الله عليه وآله): (إذا دعا أحدكم فليَعُمَّ، فإنه أوجب للدعاء)[18].

8. التضرع ومد اليدين: عن محمد بن مسلم، قال: سألت أبا جعفر(عليه السلام)
عن قول الله عز وجل: ﴿فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ﴾ فقال(عليه السلام): (الاستكانة هي الخضوع، والتضرع هو رفع اليدين والتضرع بهما)[19].

وفي الحديث القدسي: (يا بن عمران، هب لي من قلبك الخشوع ومن بدنك الخضوع، ومن عينيك الدموع، وادعني في ظلم الليل فإنك تجدني قريباً مجيباً)[20].

9. عدم القنوط: عن الإمام الصادق(عليه السلام)  أنه قال: (لا يزال المؤمن بخير ورجاء رحمة من الله عزّ وجلّ ما لم يستعجل فيقنط ويترك الدعاء. قلت: كيف يستعجل؟ قال(عليه السلام): يقول قد دعوت منذ كذا وكذا وما أرى الإجابة)[21].

10. الإلحاح بالدعاء: قال الإمام الباقر(عليه السلام): (والله لا يلح عبد مؤمن على الله عزّ وجلّ في حاجته إلا قضاها له)[22].

11.  اللجوء إلى الله: جاء في وصية أمير المؤمنين(عليه السلام)  لولده الإمام الحسن(عليه السلام):
(وأَلْجِئْ نَفْسَكَ فِي أُمُورِكَ كُلِّهَا إِلَى إِلَهِكَ، فَإِنَّكَ تُلْجِئُهَا إِلَى كَهْفٍ حَرِيزٍ ومَانِعٍ عَزِيزٍ، وأَخْلِصْ فِي الْمَسْأَلَةِ لِرَبِّكَ، فَإِنَّ بِيَدِه الْعَطَاءَ والْحِرْمَانَ)[23].

12. الدعاء في الشدة والرخاء: قال الإمام الصادق(عليه السلام): (مَنْ سَرَّه أن يُستجاب له في الشدة، فليكثر الدعاء في الرخاء)[24].

13. حُسْن المسألة: في الحديث القدسي: (يا عبادي كُلّكم ضالّ إلا مَن هديته، فاسألوني الهدى أهدكم، وكلّكم فقير إلا من أغنيته، فاسألوني الغنى أرزقكم، وكلكم مذنب إلا من عافيته، فاسألوني المغفرة أغفر لكم)[25] ، وجاء في وصية أمير المؤمنين(عليه السلام)  لولده الحسن(عليه السلام): (فَلْتَكُنْ مَسْأَلَتُكَ فِيمَا يَبْقَى لَكَ جَمَالُه، ويُنْفَى عَنْكَ وَبَالُه، فَالْمَالُ لَا يَبْقَى لَكَ ولَا تَبْقَى لَه)[26].

14. تسمية الحوائج: قال الإمام الصادق(عليه السلام): (إن الله تبارك وتعالى يعلم ما يريد العبد إذا دعاه ولكنه يحب أن تبث إليه الحوائج فإذا دعوت فسم حاجتك)[27].

15. رقة القلب والبكاء: قال رسول الله(صلّى الله عليه وآله): (اغتنموا الدعاء عند الرقة، فإنها رحمة)[28]، وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): (بكاء العيون وخشية القلوب من رحمة الله تعالى ذكره، فإذا وجدتموها فاغتنموا الدعاء، ولو أن عبدا بكى في أمة لرحم الله تعالى ذكره تلك الأمّة لبكاء ذلك العبد)[29].

16. التختم بالعقيق والفيروزج: قال رسول الله(صلّى الله عليه وآله): (قال الله عز وجل:
إني لأستحي من عبد يرفع يده وفيها خاتم فيروزج فأردها خائبة)[30]، وعن الإمام الصادق(عليه السلام): (ما رُفعت كفٌّ إلى الله عزّ وجلّ أحبّ إليه من كفّ فيها عقيق)[31].

وهناك آداب أخرى لم نذكرها خوفاً من الإطالة ينبغي مراعاتها والتي منها اختيار الأزمنة التي يستحب فيها الدعاء، مثلا عند طلوع الفجر، وعند غروب الشمس، وعند الزوال، وعن هبوب الريح ونزول المطر، وبعد صلاة الفريضة، وفي ليالي القدر وليلة النصف من شعبان وغيرها، وكذلك للمكان أثر في استجابة الدعاء، فقد ورد الدعاء مستجاب تحت قُبّة أبي عبدالله الحسين(عليه السلام)
رزقنا الله وإياكم زيارته في الدنيا وشفاعته في الاخرة.

 


[1] بحار الأنوار، العلامة المجلسي: ج90، ص300.

[2]     سورة الذاريات: آية56.

[3] سورة غافر: آية60.

[4] وسائل الشيعة، الحر العاملي: ج7، ص23.

[5] الكافي، الشيخ الكليني: ج2، ص467.

[6] سورة غافر: آية60.

[7] مكارم الأخلاق، الشيخ الطبرسي: ص276.

[8] مستدرك الوسائل، الميرزا النوري: ج6، ص319.

[9] الكافي، الشيخ الكليني: ج3، ص478.

[10] المصدر السابق.

[11] بحار الأنوار، العلامة المجلسي: ج90، ص313.

[12] الكافي، الشيخ الكليني: ج2، ص485.

[13] سورة الأعراف: آية180.

[14] وسائل الشيعة، الحر العاملي: ج7، ص140.

[15] الكافي، الشيخ الكليني: ج2، ص491.

[16] بحار الأنوار، العلامة المجلسي: ج27، ص260.

[17] وسائل الشيعة، الحر العاملي: ج7، ص103.

[18] الكافي، الشيخ الكليني: ج2، ص487.

[19] المصدر السابق: ج2، ص479.

[20] وسائل الشيعة، الحر العاملي: ج7، ص78.

[21] الكافي، الشيخ الكليني: ج2، ص490.

[22] المصدر السابق: ج2، ص475.

[23] نهج البلاغة، تحقيق صالح: ص393.

[24] الكافي، الشيخ الكليني: ج2، ص472.

[25] مستدرك الوسائل، الميرزا النوري: ج5، ص164.

[26] نهج البلاغة، تحقيق صالح: ص399.

[27] الكافي، الشيخ الكليني: ج2، ص476.

[28] بحار الأنوار، العلامة المجلسي: ج90، ص313.

[29] المصدر السابق: ج90، ص336.

[30] المصدر السابق: ج90، ص353.

[31] وسائل الشيعة، الحر العاملي: ج5، ص87.