تاريخ الإسلام الذي بين أيدينا يحمل وقائع كثيرة وأحداثاً مهمّة، لا يُكتفى بمطالعتها مطالعةً سطحيّة عابرة، فإنّ وراءها عِبَراً وفي طيّاتها نداءات لمواقفَ اعتقاديّةٍ خطيرة.
ومن تلك الوقائع والحوادث المهمة حادثة هجرة النبيّ (صلى الله عليه وآله) من مكّة إلى المدينة، واستخلافه عليّاً (عليه السلام) في مكانه، ودعوته إلى المبيت على فراشه، مع علمه (صلى الله عليه وآله) أنّ قريشاً تنوي قتلَه غيلةً بالهجوم على داره والانقضاض عليه في نومه، فماذا يُفهَم مِن ذلك لو أُريد منّا أن نقرأ مثل هذه الحادثة التاريخيّة ببصيرةٍ وتفقّه؟!
التساؤل المتحيّر الذي طرحه التاريخ هو: لماذا أُهمل أمر مبيت الإمام عليّ على فراش رسول الله (صلى الله عليه وآله) ليلة الهجرة، إهمالاً يُراد به الابتعاد عن مقتضياته وأبعاده الحقيقية؟! لقد كان أمر المبيت محنةً عظيمة، وهو في الوقت ذاته كان فضيلةً شريفة، ولو أجال المؤمن فكره في تلك الفضيلة لَتفرّعت له منها فضائلُ عديدة ومناقبُ متعدّد.
خطة قريش في اغتيال النبي (صلى الله عليه وآله) :
بعد أن فشلت جميع الطرق التي اتَّبعها مشركو قريش في صدِّ النبي (صلى الله عليه وآله) عن أداء رسالته الإلهية، استقرّ رأيهم على اغتياله (صلى الله عليه وآله) وهو على فراشه، وتعاقدوا على ذلك، وأن يضربوه بأسيافٍ كثيرة كلُّ سيفٍ ينتمي إلى قبيلةٍ من قريش، ليضيع دمه الشريف بين القبائل، فلا يقوى أهل عشيرته على المطالبة بدمه.
الوحي يخبر النبي (صلى الله عليه وآله) بخطة قريش:
أخبر جبرائيل (عليه السلام) النبي (صلى الله عليه وآله) بخطّة قريش، وأمره بالهجرة إلى المدينة المنوّرة، ونزل قوله تعالى: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) [1].
دعوة الإمام علي للمبيت على فراش النبي (صلى الله عليه وآله):
لمّا علم رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن طريق الوحي الأمين بما تعاهدوا عليه من قتله غيلة، دعا أوثقَ الناس عنده، وأمثَلَهم في نفسه، وأبذلهم في ذات الله لمهجته، وأسرعهم إجابةً إلى طاعته، وهو عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) وهو في عمر الشباب وفتوّة الحياة، فقال له: (يا علي، إنّ الروح هبط عليّ بهذه الآية آنفا، يخبرني أنّ قريشا اجتمعوا على المكر بي وقتلي، وأنّه أوحى إليّ ربّي عزّ وجل أن أهجر دار قومي، وأن أنطلق إلى غار ثور تحت ليلتي، وأنّه أمرني أن آمرك بالمبيت على مضجعي، ليُخفى بمبيتك عليه أثري، فما أنت قائل وصانع)؟ فقال علي (عليه السلام): (أو تَسلمَنَّ بمبيتي هناك يا نبي الله)؟ قال: (نعم)، فتبسم علي (عليه السلام) ضاحكاً، وأهوى إلى الأرض ساجداً، شكراً بما أنبأه رسول الله (صلى الله عليه وآله) من سلامته ...) [2].
بعد ذلك نزل قوله عز وجل في حق علي (عليه السلام): (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ).
وفي رواية أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال لعلي: (نَم على فراشي واتشح ببردي الحضرمي الأخضر فنم فيه فإنه لا يخلص إليك شيء تكرهه منهم) [3].
نعم، دعاه إلى أن يعرّض نفسه المقدّسة لأشفار السيوف التي تَحْمِلُها أيدي الغيظ على الرسول والرسالة، فأجاب (عليه السلام) إلى ذلك سامعاً مطيعاً، طيّبةً بها نفسُه، ونام على فراشه صابراً محتسباً، واقياً له بمهجته، موطّناً نفسه على القتل.
ولا نعلم فوق بذل النفس درجةً يلتمسها صابر، أو يبلغها طالب، والجودُ بالنفس أقصى غاية الجود، ولولا أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) عَلِم أنّ عليّاً سلام الله عليه أهل لذلك لَما دعاه إليه.. وقد قال العلماء: إنّ فضيلة أمير المؤمنين (صلى الله عليه وآله) تلك الليلة، لا نعلم أحداً من البشر نال مِثلَها، فإنّه ما تلكّأ ولا تَتعْتَع، ولا تغيّر لونه ولا اضطربت أعضاؤه. ولا يصبر على ثقل هذه المحنة أو يتقدّم نحو هذا الموقف إلاّ مَن خصّه الله تعالى بالصبر على مشقّة ذلك والفوز بفضليته، وله من جنس ذلك أفعالٌ كثيرة[4].
ليلة المبيت عند علماء التفسير:
أمّا أهل التفسير فكانت لهم بيانات وتعليقات، ففي ظلّ قوله تعالى: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ).
قال أهل التفسير نزلت هذه الآية في ليلة الهجرة، ومكرهم كان توزيع السيوف على بطون قريش، ومكر الله تعالى، كناية عن علي (عليه السلام)، لأنه مكر بهم، وهو منامه (عليه السلام) على فراش النبي (صلى الله عليه وآله).
وروى المفسّرون كلّهم أنّ قوله تعالى: (ومِنَ الناسِ مَن يَشري نفسَه ابتغاءَ مَرضاةِ الله) [5] نزل في عليٍّ (عليه السلام) ليلةَ مبيته على فراش رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وقد ثبت بالتواتر حديث المبيت عند الجميع[6].
خروج النبي (صلى الله عليه وآله) من داره:
في اليوم الأول من شهر ربيع الأوّل سنة 13 للبعثة، خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) في أوّل الليل، والرصد من قريش قد أحاطوا بداره، ينتظرون انتصاف الليل ونوم الأعين، فخرج (صلى الله عليه وآله) وهو يقرأ قوله تعالى: (وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُون) .
فشل الخطة:
اقتحمت قريش دار النبي (صلى الله عليه وآله)، وهم شاهرون سيوفهم، وتفوح منهم رائحة الحقد والخبث والدناءة، فنهض الإمام علي (عليه السلام) من مضجعه في شجاعته المعهودة بوجوههم الإجرامية، فارتعد القوم وتراجعوا.
فلمّا عرفت قريش فشل خطّتها خرجت في طلب النبي (صلى الله عليه وآله)، فأعمى الله أثره، وهو نصب أعينهم، وصدَّهم عنه، وأخذ بأبصارهم دونه، وهُم دهاة العرب في اقتفاء أثر الطير فضلا عن القوافل والركبان، ثم بعث الله العنكبوت، فنسجت في وجه الغار فسترته، وبعث الله حمامتين فوقفتا بفم الغار، فآيَّسهم ذلك من الطلب.
دعوة الإمام علي (عليه السلام) إلى المدينة:
بعدما وصل رسول الله (عليه السلام) إلى يثرب التي سُمِّيَت فيما بعد بالمدينة المنوَّرة في 12 ربيع الأوّل، كتب إلى الإمام علي (عليه السلام) كتاباً أمره فيه بالمسير إليه.
فخرج الإمام علي (عليه السلام) من مكّة بركب الفواطم، متَّجهاً نحو المدينة، ومعه فاطمة الزهراء (عليها السلام)، وأُمّه فاطمة بنت أسد (رضوان الله عليها)، وفاطمة بنت الزبير، فلحقه جماعة متلثَّمين من قريش، فعرفهم الإمام (عليه السلام) وقال لهم: (فإنِّي مُنطَلِق إلى ابن عَمِّي رسول الله (صلى الله عليه وآله) بيثرب، فمن سَرَّه أن أفري لحمه وأُريقَ دمه فَلْيتَعَقبني، أو فَليَدْنُ منّي).[7]
ثم سار الإمام (عليه السلام) وفي كل مكان ينزل كان يذكر الله مع الفواطم قياماً وقعوداً، وعلى جنوبهم، فلما وصلوا المدينة نزل قوله تعالى: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ).
فقرأ رسول الله (صلى الله عليه وآله) الآية عليهم، فالذكَر هو الإمام علي (عليه السلام)، والأنثى هُنَّ الفَواطِم، ثم قال (صلى الله عليه وآله) لأمير المؤمنين (عليه السلام): (يَا عَلي، أنتَ أوَّل هَذه الأُمّة إيماناً بالله ورسُولِه، وأوّلهم هِجْرة إلى الله ورسُولِه، وآخرهم عَهْداً برسولِه، لا يُحبّك والَّذي نَفسي بِيَده إلاَّ مُؤمِن قَد امتحنَ اللهُ قلبَه للإيمان، ولا يبغضُكَ إلاَّ مُنافِق أو كَافِر)[8].
ما ينسب إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) من الشعر بالمناسبة:
قال الإمام علي (عليه السلام) شعراً في المناسبة يذكر فيه مبيته على الفراش، ومقام رسول الله (صلى الله عليه وآله) في الغار ثلاثاً [9]:
وقيت بنفسي خير من وطئ الحصى ومن طاف بالبيت العتيق وبالحجر
رسول إله الخلق إذ مكروا به فنجّاه ذو الطول الكريم من المكر
وبات رسول الله بالشعب آمناً وذلك في حفظ الإله وفي ستر
وبت أراعيهم وهم ينبؤنني وقد صبرت نفسي على القتل والأسر
أردت به نصر الإله تبتلا وأضمرته حتّى أوسد في قبري
دلالات الواقعة:
بعد كل ما ذكرناه، إذا تَدبّر الأمرَ مُنصفٌ عَلِم يقيناً أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما كان يُؤهِّل للأمور العظام إلاّ أخاه عليّا (عليه السلام)، وهذا يُشير إلى أنّ عليّاً (عليه السلام) هو الذي كان يقوم مقامَ النبيّ (صلى الله عليه وآله) في عظائم الأمور، فهو خليفته في حياته وبعد وفاته، فلِمَ لا يُذكر ذلك ويُستنتج من مواقف رسول الله (صلى الله عليه وآله) هذا الاعتقاد الواضح؟! ولمَ يُتكلّف لغير الإمام عليّ (صلى الله عليه وآله) ما يرفعهم إلى مقاماتٍ لا يستحقّونها وليسوا لها أهلاً؟!
وكان من مواقف الاستخلاف والاستيصاء أيضاً: إبقاء النبيّ (صلى الله عليه وآله) عليّاً صلوات الله عليهما في مكّة بعد هجرته، وذلك لتأدية أماناته (صلى الله عليه وآله)، كتب ابن أبي الحديد: قال شيخنا أبو جعفر (المدائني): والمعروف المنقول أنّه (صلى الله عليه وآله) قال لعليٍّ (عليه السلام): (إذهب فاضطجع في مضجعي، وتَغَشَّ بِبُرديَ الحضرمي، فإنّ القوم سيفقدونني ولا يشهدون مضجعي، فلعلّهم إذا رأوك يسكنهم ذلك حتّى يُصبحوا، فإذا أصبحتَ فاغد في أداء أمانتي)[10].
وكتب ابن أبي الحديد بعد ذلك: قال محمّد بن إسحاق في كتاب (المغازي): (... إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أخبر علياً بخروجه، وأمره أن يبيت على فراشه يخادع المشركين عنه؛ ... وأمره أن يتخلّف بعده بمكّة حتّى يُؤدّيَ عن رسول الله الودايع التي عنده للناس، وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) استودعه رجالٌ من مكّة ودايع له؛ لما يعرفونه من أمانته)[11].
والذي يخرج به المسلم الواعي من تفكّره في هذه الوقائع من نتائج، أنّ عليا سلام الله عليه کان أوثقَ وأقربَ مِن كلّ أحدٍ من الناس للنبيّ (صلى الله عليه وآله)، وأكثرَ اعتماداً عليه من جميع الناس، فجعله خليفتَه في حياته، وأوصى أن يكون خليفته مِن بعده عَقِب وفاته، فهو الأعلم والأتقى والأعبد، وهو الأوّل والسبّاق إلى كلّ فضيلةٍ وخيرٍ وعملٍ صالح، وهو أوّل مناصرٍ للرسول والرسالة مع أبيه أبي طالبٍ (رضوان الله عليه)، وهو موضع مدائح الله تعالى في كتابه المجيد في عشرات الآيات البيّنات، وكم من مواقف لم يَقُم مقامَ رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلاّ عليّ، لا سيّما في المواقف المصيريّة التي كان بها حياة الإسلام وعزّة المسلمين، فذاك موقفه يومَ الإنذار وسط عشيرته تَقدّم مرّاتٍ مستجيباً لدعوة رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يكون نصيراً ووصيّاً له، وذاك موقفه يوم الأحزاب والخندق، يوم تحدّى عَمرُو بن عبد وَدٍّ العامريّ جميعَ المسلمين، فتقدّم عليٌّ فصرعه، وخَلَف رسولَ الله (صلى الله عليه وآله) في تبوك على المدينة، وفي تبليغ سورة براءة إلى اليمن، وفي بعض الصلوات، وكم سُمِعت من رسول الله (صلى الله عليه وآله) أحاديث نَقلَتْها الأفواه والأقلام أنّ عليّاً خُصّ دون المسلمين بأجلى الفضائل وأسماها، وأنّه وصيُّه وخليفتُه مِن بعده، فماذا يقول (صلى الله عليه وآله) بعد ذلك لئلاّ يُدفَع عليٌّ (عليه السلام) عن مقامه، ولئلاّ يُظلمَ ويُقتلَ في محراب عبادته؟!
لتحميل الملف اضغط هنا
[1] سورة الأنفال: آية 30.
[2] الأمالي: ص465.
[3] تاريخ الطبري: ج2، ص 99، السيرة النبويّة لابن هشام: ج2، ص333.
[4] راجع شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج13، ص258-261.
[5] سورة البقرة: آية 207.
[6] راجع شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج13، ص262، تفسير البيان للطبري: ج9، ص298- 304.
[7] الأمالي: ص471.
[8] مناقب آل أبي طالب: ج1، ص160.
[9] الفصول المختارة: ص59.
[10] شرح نهج البلاغة: ج13، ص263.
[11] شرح نهج البلاغة: ج13، 303.