ذكرت النصوص الكثيرة: أن الناس بعد قتل عثمان تهافتت على أمير المؤمنين (عليه السلام) يطلبون مبايعته، فامتنع، حتى اجتمع أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) من المهاجرين والأنصار وفيهم طلحة والزبير فأتوا عليا (عليه السلام) فقالوا له: لا بد للناس من إمام قال: لا حاجة لي في أمركم... فقالوا: ما نختار غيرك وترددوا إليه مرارا وقالوا له في آخر ذلك: إنا لا نعلم أحدا أحق به منك، لا أقدم سابقة ولا أقرب قرابة من رسول الله، فقال: لا تفعلوا فإني أكون وزيرا خير من أن أكون أميرا، فقالوا: والله ما نحن بفاعلين حتى نبايعك[1].
وقد صرح (عليه السلام) مرارا وتكرارا بكراهته لهذا الأمر وفي رواية أنهم لما أتوا أمير المؤمنين (عليه السلام) ليبايعوه قال: (دعوني والتمسوا غيري، فإنا مستقبلون أمراً له وجوه وألوان، لا تقوم له القلوب، ولا تثبت عليه العقول، وإن الآفاق قد أغامت، والمحجة قد تنكرت، واعلموا أني إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم، ولم أصغ إلى قول القائل، وعتب العاتب...)[2].
وفي نص آخر: (إني قد كنت كارهاً لأمركم، فأبيتم إلا أن أكون عليكم)[3].
وقال (عليه السلام) في جواب طلحة والزبير: (والله، ما كانت لي في الخلافة رغبة، ولا في الولاية إربة (حاجة). ولكنكم دعوتموني إليها، وحملتموني عليها)[4] ولكن بعد إصرارهم على مبايعته (عليه السلام) قال لهم: (ففي المسجد، فإنّ بيعتي لا تكون خفيّاً، ولا تكون إلّا عن رضا المسلمين)[5] فتمّت البيعة في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله) في المدينة المنوّرة يوم الجمعة لخمس بقين من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين للهجرة.
وروي أنّه عندما بويع أمير المؤمنين (عليه السلام) على منبر رسول الله (صلى الله عليه وآله)، قال خزيمة بن ثابت وهو واقف بين يدي المنبر[6]:
إذا نحن بايعنا عليا فحسبنا أبو حسن مما نخاف من الفتن
وجدناه أولى الناس بالناس انه أطب قريش بالكتاب وبالسنن
وإن قريشا لا تشق غباره إذا ما جرى يوما على ضمر البدن
ففيه الذي فيهم من الخير كله وما فيهم مثل الذي فيه من حسن
وصي رسول الله من دون أهله وفارسه قد كان في سالف الزمن
أعمال الإمام (عليه السلام) الإصلاحية:
استلم الإمام علي (عليه السلام) الخلافة بعد مقتل عثمان بسبعة أيّام، فوجد الأوضاع متردّية بشكلٍ عام، وعلى أثر ذلك وضع خطّة إصلاحية شاملة، ركّز فيها على شؤون الإدارة والاقتصاد والحكم، نذكر منها ما يلي:
الأوّل: تطهير جهاز الدولة:
أوّل عمل قام به الإمام (عليه السلام) فور تولّيه الحكم هو عزل ولاة عثمان الذين سخّروا جهاز الحكم لمصالحهم الخاصّة، وأُثروا ثراءً فاحشاً ممّا اختلسوه من بيوت المال، ومنهم معاوية بن أبي سفيان.
يقول المؤرّخون: إنّه أشار عليه جماعة من المخلصين بإبقاء معاوية في منصبه ريثما تستقرّ الأوضاع السياسية ثمّ يعزله، فأبى الإمام (عليه السلام)، وأعلن أنّ ذلك من المداهنة في دينه، وهو ممّا لا يُقرّه ضميره الحي، الذي لا يسلك أيّ طريق يبعده عن الحقّ، ولو أبقاه ساعة لكان ذلك تزكية له وإقراراً بعدالته وصلاحيته للحكم.
الثاني: تأميم الأموال المختلسة:
أصدر الإمام (عليه السلام) قراره الحاسم بتأميم الأموال المختلسة التي نهبها الحكم المُباد. فبادرت السلطة التنفيذية بوضع اليد على القطائع التي أقطعها عثمان لذوي قُرباه، والأموال التي استأثر بها عثمان، وقد صودرت أمواله حتّى سيفه ودرعه، وأضافها الإمام (عليه السلام) إلى بيت المال.
وقد فزع بنو أُميّة وعشائر قريش كأشدّ ما يكون الفزع، وأصابهم الذهول، فقد أيقنوا أنّ الإمام سيصادر الأموال التي منحها لهم عثمان بغير حقّ.
فكتب عمرو بن العاص رسالة إلى معاوية جاء فيها: (ما كنت صانعا فاصنع إذ قشرك ابن أبي طالب من كل مال تملكه كما تقشر عن العصا لحاها)[7].
الثالث: امتحان الإمام (عليه السلام):
امتُحِن الإمام (عليه السلام) امتحاناً عسيراً من الأُسَر القرشية، وعانى منها أشدّ ألوان المِحن والخُطوب في جميع أدوار حياته، فيقول (عليه السلام) بهذا الشأن: (لقد أخافتني قُريش صغيراً، وأنصبتني كبيراً، حتّى قبض الله رسوله (صلى الله عليه وآله)، فكانت الطامّة الكبرى، والله المُستعان على ما تصفون)[8].
ولم يُعرهم الإمام (عليه السلام) اهتماماً، وانطلق يؤسّس معالم سياسته العادلة ويحقّق للأُمّة ما تصبوا إليه من العدالة الاجتماعية.
وقد أجمع رأيه (عليه السلام) على أن يقابل قريش بالمِثل، ويسدّد لهم الضربات القاصمة إن خلعوا الطاعة، وأظهروا البغي، فيقول (عليه السلام): (مَا لي وَلِقُريش، والله لقد قتلتُهم كافرين، ولأقتلنّهم مَفتونين... والله لأبقرنّ الباطل حتّى يظهر الحق من خَاصِرَتِه، فَقُلْ لقريش فَلتضجّ ضَجيجَها)[9].
الرابع: سياسة الإمام (عليه السلام) الإصلاحية:
فيما يلي عرضاً موجزاً للسياسة الإصلاحية التي اتبعها الإمام (عليه السلام) لإدارة الدولة الإسلامية وهي كما يلي:
أوّلاً: السياسة الداخلية:
كانت السياسة الداخلية التي انتهجها الإمام (عليه السلام) امتداداً لسياسة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) الذي عنى بتطوير الحياة الاقتصادية وإنعاش الحياة العامّة في جميع أنحاء البلاد، وإزالة جميع أسباب التخلّف والانحطاط، وتحقيق حياة كريمة يجد فيها الإنسان جميع متطلّبات حياته، من الأمن والرخاء والاستقرار، بحيث لا يبقى فقير أو بائس أو محتاج، وذلك بتوزيع ثروات الأُمّة توزيعاً عادلاً على الجميع، ومن مظاهر هذه السياسة:
1- المساواة: وتجسّدت في:
أ- المساواة في الحقوق والواجبات: نهج المساواة في الحقوق، فلا يميز بين حر وعبد، وبين أسود وأبيض، وبين عربي وأعجمي، كان الجميع أمامه سواسية كأسنان المشط، وكان يقول (عليه السلام): (الذّليل عندي عزيز حتّى اخذ الحقّ له، والقوي عندي ضعيف حتّى اخذ الحقّ منه) [10].
وفي قول آخر: (إن الرعية طبقات لا يصلح بعضها إلا ببعض، ولا غنى عن بعضها ببعض)[11].
فقد كان (عليه السلام) يؤكد على أن الحياة لا تستقيم وتطيب إلا بالعدالة، وهي المساواة في جميع الحقوق والواجبات بين الجميع، فإذا اختل ميزانها ساد الظلم، وفسدت الأوضاع.
ب- المساواة في العطاء: فليس لأحدٍ على أحد فضل أو امتياز، وإنّما الجميع على حدٍّ سواء، فلا فضل للمهاجرين على الأنصار، ولا لأُسرة النبي (صلى الله عليه وآله) وأزواجه على غيرهم، ولا للعربي على الأعجمي.
وقد أثارت هذه العدالة في التوزيع غضب الرأسماليين من قريش وغيرها، فأعلنوا سخطهم على الإمام (عليه السلام)، فخفّت إليه جموع من أصحابه تطالبه بالعدول عن سياسته، فأجابهم الإمام (عليه السلام): (لو كان المال لي لسوّيتُ بينهم، فكيف وإنّما المال مال الله، ألا وإنّ إعطاء المال في غير حقّه تبذير وإسراف، وهو يرفع صاحبه في الدنيا ويضعه في الآخرة، ويُكرمه في الناس، ويهينه عند الله)[12].
فكان الإمام (عليه السلام) يهدف في سياسته المالية إلى إيجاد مجتمع لا تطغى فيه الرأسمالية، ولا تحدث فيه الأزمات الاقتصادية، ولا يواجه المجتمع أيّ حرمان أو ضيق في حياته المعاشية.
ج- المساواة أمام القانون: قد ألزم الإمام (عليه السلام) عُمّاله وولاته بتطبيق المساواة بين الناس على اختلاف قوميّاتهم وأديانهم، فيقول (عليه السلام) في بعض رسائله إلى عمّاله: (واخفض للرعية جناحك، وابسط لهم وجهك، وأَلِن لهم جنابك، وآسِ بينهم في اللحظة والنظرة، والإشارة والتحية، حتّى لا يطمع العظماء في حيفك، ولا ييأس الضعفاء من عدلك)[13].
2- الإنفاق على تطوير الحياة الاقتصادية: من خلال إنشاء المشاريع الزراعية، والعمل على زيادة الإنتاج الزراعي الذي كان من أُصول الاقتصاد العام في تلك العصور.
وقد أكّد الإمام (عليه السلام) في عهده لمالك الأشتر على رعاية إصلاح الأرض قبل أخذ الخراج منها بقوله له: (وليكُن نظرك في عِمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج؛ لأنّ ذلك لا يُدرك إلّا بالعمارة، ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد، ولم يستقم أمره إلّا قليلاً)[14] لقد كان أهمّ ما يعنى به الإمام (عليه السلام) لزوم الإنفاق على تطوير الاقتصاد العام، حتّى لا يبقى أيّ شبح للفقر والحرمان في البلاد.
3- عدم الاستئثار بأيّ شيء من أموال الدولة: فقد تحرّج الإمام (عليه السلام) فيها كأشدّ ما يكون التحرّج، وقد أثبتت المصادر الإسلامية قصصا كثيرة عن احتياطه الشديد، فقد وفد عليه أخوه عقيل طالباً منه أن يمنحه الصلة ويُرفّه عليه حياته المعاشية، فأخبره الإمام (عليه السلام) أنّ ما في بيت المال للمسلمين، وليس له أن يأخذ منه قليلاً ولا كثيراً، وإذا منحه شيئا فإنّه يكون مختلساً.
وعلى أيّ حال فإنّ السياسة الاقتصادية التي تبنّاها الإمام (عليه السلام) قد ثقلت على القوى المنحرفة عن الإسلام، فانصرفوا عن الإمام وأهل بيته (عليهم السلام)، والتحقوا بالمعسكر الأُموي الذي يضمن لهم الاستغلال والنهب وسلب قوت الشعب والتلاعب باقتصاد البلاد.
4- الحرّية: أمّا الحرّية عند الإمام (عليه السلام) فهي من الحقوق الذاتية لكلّ إنسان، ويجب أن تتوفّر للجميع، شريطة أن لا تستغلّ في الاعتداء والإضرار بالناس، وكان من أبرز معالمها هي الحرّية السياسية، فكان (عليه السلام) يرى أنّ الناس أحرار، ويجب على الدولة أن توفّر لهم حرّيتهم ما دام لم يخلّوا بالأمن، ولم يعلنوا التمرّد والخروج على الحكم القائم.
وقد منح (عليه السلام) الحرّية للخوارج، ولم يحرمهم عطاءهم مع العلم أنّهم كانوا يشكّلون أقوى حزب معارض لحكومته، فلمّا سَعوا في الأرض فساداً وأذاعوا الذعر والخوف بين الناس، انبرى إلى قتالهم حفظاً على النظام العام، وحفظاً على سلامة الشعب.
ثالثاً: الدعوة إلى وحدة الأُمّة:
جهد الإمام كأكثر ما يكون الجهد والعناء على العمل على توحيد صفوف الأُمّة ونشر الأُلفة والمحبّة بين أبنائها، واعتبر الأُلفة الإسلامية من نعم الله الكبرى على هذه الأُمّة، فيقول (عليه السلام): (فإنّ الله سبحانه قد امتَنّ على جماعة هذه الأُمّة فيما عقد بينهم من حبل هذه الأُلفة التي ينتقلون في ظلّها، ويأوون إلى كنفها، بنعمةٍ لا يعرف أحد من المخلوقين لها قيمة؛ لأنّها أرجح من كلّ ثمّن، وأجلُّ من كلّ خطر)[15].
فقد عُني الإمام (عليه السلام) بوحدة الأُمّة، وتبنّي جميع الأسباب التي تؤدّي إلى تماسكها واجتماع كلمتها، وقد حافظ على هذه الوحدة في جميع أدوار حياته، فقد ترك (عليه السلام) حقّه وسالَم الخلفاء صيانةً للأُمّة من الفرقة والاختلاف.
رابعاً: تربية الأُمّة:
لم يعهد عن أحد من الخلفاء أنّه عُني بالناحية التربوية أو بشؤون التعليم كالإمام (عليه السلام)، وإنّما عنوا بالشؤون العسكرية وعمليات الحروب، وتوسيع رقعة الدولة الإسلامية وبسط نفوذها على أنحاء العالم.
فقد أولى أمير المؤمنين (عليه السلام) المزيد من اهتمامه بهذه الناحية، فاتّخذ جامع الكوفة معهداً يلقي فيه محاضراته الدينية والتوجيهية.
وكان (عليه السلام) يشغل أكثر أوقاته بالدعوة إلى الله وإظهار فلسفة التوحيد، وبثّ الآداب والأخلاق الإسلامية، مستهدفاً من ذلك نشر الوعي الديني، وخلق جيل يؤمن بالله إيماناً عقائدياً لا تقليدياً.
بهذه السياسة الربانية أصبح عصر الإمام (عليه السلام) عصراً ذهبياً في جميع مجالات الحياة الاجتماعية والاقتصادية والتربوية.
ولكن مع الأسف الشديد هذه السياسة المشرقة المستمدّة من واقع الإسلام وهَديه لم تَرُقْ إلى بعض النفوس الضعيفة، مما أدى إلى إجماع القوى الباغية على الإسلام لأن تعمل جاهدة على إشاعة الفوضى والاضطراب في البلاد، مستهدفة بذلك الإطاحة بحكومة الإمام (عليه السلام).
لتحميل الملف اضغط هنا
[1] راجع بحار الأنوار: ج32، ص7.
[2] نهج البلاغة: الخطبة 92.
[3] تاريخ الطبري: ج3، ص451.
[4] نهج البلاغة: ج2، ص184.
[5] تاريخ الطبري: ج3، ص450.
[6] مناقب آل أبي طالب: ج2، ص376.
[7] الغدير: ج8، ص288.
[8] بحار الأنوار: ج29، ص625.
[9] أعيان الشيعة: ج1، ص451.
[10] نهج البلاغة: ج1، ص89.
[11] نهج البلاغة: ج3، ص89.
[12] نهج البلاغة: ج2، ص7.
[13] نهج البلاغة: ج3، ص76.
[14] نهج البلاغة: ج3، ص96.
[15] نهج البلاغة: ج2، ص155.